استطاع فريق من علماء الآثار التونسيين اكتشاف معالم مختلفة من مدينة قرطاج الفينيقية كانت مدفونة تحت المدينة التي شيدها الرومان بعد استيلائهم عليها، وشملت الاكتشافات مصنعاً لصهر المعادن ومقبرة يرجح ان ابناء المهاجرين الذين أتوا من صور مدفونون فيها، اضافة الى ضاحية سكنية راقية. في كل مرة تنهض قرطاج من رمادها وتعود كما عودة طائر الفينيق. فبعدما هزمها الرومان سنة 146 قبل الميلاد ودمروا معالمها، اضطروا لاحقاً لبناء مدينة جديدة على انقاضها ما زال كثير من بقاياها ماثلاً الى اليوم وأشهرها المسرح الروماني الذي تقام فيه حفلات مهرجان قرطاج في كل صيف. لكن علماء الآثار الأوروبيين والأميركيين والعرب الذين فتشوا في مواقعها منذ بواكير القرن الماضي وجدوا صعوبة كبيرة في العثور على معالم من "قرت حداش" اي المدينة الجديدة التي اقامها المهاجرون الآتون من صور. ومنذ تعيين الدكتور فتحي شلبي مديراً لمتحف قرطاج في العام 2001 باشر مع فريق من الباحثين الشباب اعمال التنقيب في المناطق التي لم تشيد فوقها احياء سكنية. سور ولقية تاريخية وتوصل الفريق في ايلول سبتمبر الماضي الى اكتشاف قسم من سور قديم اقيم في خط مواز للسور الذي شيده الرومان في ما بعد، لكن لم نعرف الفترة التي انشئ فيها، لذلك لم يكن احد يصدق ان تلك اللقية ستقود الى اكتشاف معالم مهمة ألقت كثيراً من الضوء على المدينة التي ووريت التراب منذ اكثر من واحد وعشرين قرناً. وقال شلبي ل"الحياة" انه لم يكن يملك قرائن على وجود آثار فينيقية على مقربة من السور، إلا انه رجح ان يكون من بقايا قرطاج القديمة، ومع استمرار الحفريات التي نزلت الى عمق ستة امتار عثر الفريق على اكتشافين مهمين تمثل الأول بفيلا فينيقية دمرها الرومان ولم يتبق منها سوى ارضيتها المبلطة بالموزاييك وبعض الأقسام من جدرانها، بينما تمثل الثاني ببقايا مصنع لصهر المعادن تعذر تحديد الفترة التاريخية التي انشئ فيها. لكن الآثاريين خمّنوا ان تلك المنطقة تقع خارج الأسوار القديمة اعتماداً على ان الورشات التي تشكل مصدراً لتلويث البيئة كانت تنقل الى خارج الأحياء السكنية. ومع ذلك لم يعثروا على دليل قاطع، فمضوا بالحفريات الى ان وجدوا مؤشرات واضحة الى ان المصنع يعود الى اواخر القرن الثامن او بواكير القرن السابع قبل الميلاد اي الى فترة غير بعيدة عن بدايات قرطاج الفينيقية التي يرجح المؤرخون ان تكون انشئت في حدود سنة 814 قبل الميلاد. واستنتجوا ان السور القريب من الموقع هو سور قرطاج الفينيقية وبذلك توصلوا الى اكتشاف مهم في تاريخ الحفريات التي رمت الى جلاء مناطق العتمة والغموض في تاريخ العاصمة الفينيقية. لكنهم سرعان ما عثروا على لقية ذات قيمة تاريخية اهم تمثلت بمقبرة فينيقية مؤلفة من مدافن تقليدية محفورة في الصخور وضمت أثاثاً جنائزياً ثميناً على الطريقة الشائعة لدى الفينيقيين الأوائل. كما تأكد لديهم ان المنطقة تقع خارج الأسوار لأن المقابر والصناعات الملوثة تنقل عادة بعيداً من المناطق السكنية. إلا ان الترجيح لم يستمر طويلاً إذ بات يقيناً بعدما عثر الباحثون على لوحة في المقبرة تدل الى انها تعود الى اواسط القرن الثامن ق.ب.، وهكذا رجحوا ان تكون المدافن لأبناء المهاجرين الفينيقيين من صور لأن تأسيس قرطاج لم يكن قد مضى عليه قرن في تلك الفترة. نافذة على تاريخ قرطاج وهكذا فتح فريق الآثاريين نافذة في تاريخ قرطاج أدت الى انقشاع بعض الغيوم من مناطق العتمة، فالحفريات ادت الى كشف النقاب عن طبقتين متراكبتين من البناءات ترمز العليا منهما الى قرطاج الحديثة التي شيدها الرومان وتمثل السفلى العاصمة الفينيقية الشامخة التي عرفت مرحلة تمدد عمراني كبير في القرن الخامس ق.م. ويعتزم شلبي الذي أسهم بإزاحة الغبار عن كثير من المواقع الفينيقية في سواحل تونس، خصوصاً في جزيرة جربة جنوب وأرخبيل قرقنة وسط وجزيرة جالطة شمال، اضافة الى إسهامه في كشف حطام السفينة اليونانية العتيقة الغارقة في سواحل المهدية، كتابة فصول اخرى من التاريخ الفينيقي والروماني والبيزنطي في تونس، لكنه ربما ما زال شغوفاً بالحب الأول الذي قاده الى التفتيش الدؤوب في موقع "اوتيك" 40 كلم شمال العاصمة تونس، ذلك المرفأ الذي كان مركزاً تجارياً أقامه الفينيقيون على سواحل تونس قبل تأسيس قرطاج على ايدي أليسار.