حين انهارت البنية السياسية والاقتصادية للامبراطورية العثمانية التي ضمت معظم اجزاء بلاد الشرق الأدنى تمزقت الامبراطورية واصبحت اراضيها عرضة لاطماع قوى سياسية عالمية رسمت لها حدود جغرافية جديدة. اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة 1916 تم على اساسها تقسيم مخلفات الدولة العثمانية بين بريطانيا ممثلة بمارك سايكس الخبير في الشؤون الشرقية في وزارة الخارجية البريطانية وبين فرنسا ممثلة بجورج بيكو القنصل العام في بيروت سابقاً. كان العراق من نصيب بريطانيا العظمى وظل تحت الانتداب البريطاني من عام 1920 حتى عام 1932. صرح مارك سايكس في صيف 1917 بأن محور الطموحات الاستراتيجية البريطانية هو العراق لأنه مركز ومحور لوجستي لامتداد منطقة النفوذ البريطانية في الشرق الأوسط. إن هذا الاقتراح من السير سايكس كان له أكبر الأثر في التركيز على العراق كمنطقة ذات مصالح اقتصادية. وبدأت بريطانية بالاستفادة من نفط العراق منذ عام 1913. كانت الثروة النفطية العراقية ولا تزال الهدف الرئيسي لأي طامح إلى السلطة في هذه الدولة الغنية بالثروات، ذات الموقع المميز في الشرق الأوسط. فهي امتداد لدول الخليج الغنية بالنفط من جهة، كما انها مجاورة لدول شرق حوض البحر المتوسط من جهة اخرى، وحدودها المحورية تجعلها ذات موقع استراتيجي للغاية: الكويت، المملكة العربية السعودية، إيران، تركيا، سورية والأردن القريبة من اسرائيل. لقد رحل مارك سايكس وصانعو السياسة الامبراطورية البريطانية في أروقة وزارة الخارجية البريطانية. ولكن التاريخ لا يتغير… وخدع الحرب لا تتغير. وحدهم اللاعبون يتغيرون، وحدها الاسماء تتغير. إلا اسم العراق لا يتغير، وعراقة العراق لا تتغير. وصمود شعب العراق لا يتغير عبر آلاف السنين. انتهى الانتداب البريطاني في العراق عام 1932 وجاءت اميركا العظمى بكل عنجهيتها في بداية عام 2003 بفكرة هجوم عسكري على العراق وتعيين قائد عسكري اميركي مكان صدام حسين فأين ديموقراطية اميركا المنشودة لشعوب المنطقة؟ أين الديموقراطية في حين يطمع ولفوفيتز إلى إعادة العراق الى قرن مضى من الزمن وتمزيقه إلى دويلات، ومسح دولة العراق الشاملة لكل الاقليات والعرقيات والاثنيات؟ هل هذه هي ازدواجية السياسة الاميركية؟ ام هي الطريقة المثلى لتحقيق المصالح الاميركية؟ هل يريد ولفوفيتز الرجوع إلى مبدأ سايكس؟ التقسيم أولاً والتقسيم أخيراً؟ إن مستشاري الرئيس بوش مثل بول ولفوفيتز وأمثاله جاؤوا بأطر مفهوم يهدد العالم في القرن الواحد والعشرين، وهو محاربة الارهاب بمفهوم اميركي معزول، مفهوم التحالف والهجوم على الشعوب والدول المخالفة للسياسة الاميركية لتحقيق مصالح اميركية بحتة. صرح الزعيم الراحل غاندي "لا نحتاج الى تحالف ضد الارهاب، إنما ضد الفقر والاختلاف". انشأت أميركا خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 قواعد جديدة في منطقة الخليج، والآن انشأت "العديد" وتوسعت في عدد من دول المنطقة، وتمكنت من السيطرة على أهم منطقة استراتيجية كما رآها مارك سايكس، وكما يراها بول ولفوفيتز وغيره من صقور البيت الأبيض، وهي "الخط التقليدي" من الخليج الى البحر المتوسط، مسيطرة بذلك على أكبر مخزون نفطي في العالم وهذا ما تريده الولاياتالمتحدة الأميركية الآن كما ارادته بريطانيا من قبل. إن المسألة الجوهرية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية في شنها لهذا الهجوم العسكري هي مسألة اقتصادية سياسية بحتة، وانه لمن السذاجة الاعتقاد بأن الهدف هو عكس ذلك. لا شك بأن هنالك عوامل اخرى ولكنها ليست ذات أهمية بالغة ولا تستدعي أي هجوم عسكري على هذا المستوى الرفيع خصوصاً أن مهمة المفتشين لم تنته بعد. إذاً فالعامل القاطع والأهم هو العامل الاقتصادي السياسي، انه بكل بساطة نفط العراق أولاً وتقسيم العراق ثانياً. يجب ألا نغفل أن العراق جزء لا يتجزأ من المنطقة الممتدة من الخليج إلى البحر المتوسط، وما يصيبه من دمار وتقسيم سيؤثر بالتالي في باقي المنطقة وهذه هي النقطة المهمة والخطيرة. في الحقيقة، سواء ضرب العراق أم لم يضرب، فإن أميركا العظمى ستسعى إلى السيطرة على منطقة الخليج الغنية بالنفط، كما يحلو لها، وبوجود صدام أم بعدمه. وما نتمناه جميعاً هو ان يقوى الرأي العام العالمي ضد استخدام القوة وان كان الوقت يسرقنا ليتفادى العراق وشعبه، ودول المنطقة وشعوبها، والعالم بأسره، كارثة إنسانية حضارية اقتصادية وسياسية أعظم بكثير من خطط يضعها مارك سايكس وبول ولفوفيتز... * كاتبة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط، استاذة مساعدة في التاريخ السياسي في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة.