أثار قرار استحداث منصب رئيس وزراء في هيكلية السلطة الفلسطينية وتكليف "ابو مازن" بالمهمة، نقاشاً واجتهادات واسعة، مظاهر التباين في الرأي فيها اكبر من الاتفاق. وبصرف النظر عن تردد وتأخر ابو عمار في اتخاذ القرار، فإن اعتراض بعض القوى الفلسطينية عليه بعد صدوره يندرج تحت بند سوء تقدير الموقف، وقراءة خاطئة للخطوة، وللتطورات الدولية الدراماتيكية وانعكاساتها على القضية الفسطينية. وموقفها السلبي غير المفهوم في الشارع الفلسطيني، خصوصاً انها ترفع راية الاصلاح، وملاحظاتها وتحفظاتها المعلنة لا تغير في حقيقة ان استحداث منصب رئيس وزراء وتوزيع المهمات وتقسيم الصلاحيات وانهاء التفرد… الخ، خطوة مهمة على طريق الاصلاح المنشود، تحمل في طياتها مقومات تحقيق بعض أهداف دعاة الاصلاح والتجديد والتغيير. واذا كانت خطوة تعيين رئيس وزارء، في نظر بعضهم، ولدت في عملية قيصرية فرضتها تدخلات خارجية، وجزء يسير من اصلاحات كثيرة يطالب بها المجتمع الدولي، فجميع القوى الوطنية والاسلامية تعرف انها مطلب فلسطيني قديم جداً، ظهر في المسرح السياسي الفلسطيني، للمرة الأولى، عند اعلان الاستقلال وقيام الدولة في الجزائر في تشرين الاول نوفمبر 1988. وكانت الجبهة الديموقراطية وفئة واسعة من المستقلين اشد المتحمسين لتشكيل حكومة وفصل رئاسة الدولة عن رئاسة الحكومة. ولعل يفيد التذكير، ايضاً، بأن الموضوع ذاته طرح بقوة "ليلة انتخاب ابو عمار رئيساً لدولة فلسطين" في اجتماع المجلس المركزي في تونس مطلع نيسان 1989، بحضور الجبهتين الديموقراطية والشعبية. ودار نقاش ساخن حول استحداث منصب نائب لرئيس الدولة ورئيس للحكومة. وتجدد طرح الموضوع عند تشكيل السلطة الفلسطينية في العام 1994، واقترح بعضهم استحداث منصب رئيس وزراء، وفصل مهمات رئيس اللجنة التنفيذية رئيس السلطة الوطنية عن مهمات رئيس الحكومة وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة وعضوية الوزارة. إلى ذلك، اجزم ان ظهور استحداث منصب رئيس الوزراء امام الشارع الفلسطيني، وكأنه استجابة لضغوط اقليمية ودولية لم يكن قدراً لا مفر منه. فقبل ان يتحول الموضوع الى شرط دولي، وذريعة اسرائيلية لتغطية العدوان، كان الامر مدار بحث ونقاش فلسطيني. وفي آب "اغسطس" الماضي، رفعت مجموعة من اعضاء المجلس المركزي - افرادها غير طامحين بوزارة ولا أحد منهم مرتبط بسفارة - مذكرة الى ابو عمار اقترحوا فيها، "اتخاذ الاجراءات الدستورية لتعيين رئيس وزراء"، وقالوا: "ان هذه الخطوة تساعد في تجريد الادارة الاميركية من ادعاءاتها الباطلة، وتسهل على السلطة استعادة موقعها في الساحة السياسية الدولية وتفعيل دورها في درء الاخطار المحيطة بشعبنا". وأضافت مذكرتهم: "ونرى في ابو مازن تحديداً خير من يملأ هذا المركز لاعتبارت سياسية وحزبية وتاريخية". في حينه، وافق ابو مازن على الفكرة من حيث المبدأ، ورفضها ابو عمار وشكك في جدواها وتساءل هل الاقدام على هكذا خطوة يلغي الانحياز الاميركي لاسرائيل ويوقف العدوان المتواصل منذ عامين، ويفك الحصار المضروب على القيادة الفلسطينية، ام انها تسهل لشارون تنفيذ مخططه الرامي الى تدمير السلطة والتخلص من قيادتها، وفرض الاستسلام على الفلسطينيين؟ واذا كانت المعارضة تسمي تفاعل ابو عمار مع مطالب اللجنة الدولية الرباعية ووعودها، رضوخاً للضغوط الخارجية، فهذا التراجع يجب ان يؤخذ في سياقه الوطني. والكل يعرف ان استحداث منصب رئيس وزراء حاجة فلسطينية ملحة قبل ان تكون مطلباً دولياً وشرطاً اميركاً اسرائيلياً. وتقاطع المطالب الدولية مع الحاجة الفلسطينية لا يمس مصداقية الخطوة او وطنيتها ولا يلغي ضروراتها العملية. ومقياس الحكم على هكذا خطوة سياسية كبيرة ليس الدوافع والاسباب الطارئة التي حكمت ظهورها للحياة، بل مدى الحاجة لها وطبيعة آثارها ونتائجها ومدى خدمتها التوجهات الوطنية المباشرة والبعيدة. والتراجع في سياق حماية المصالح العليا للشعب في مرحلة الحرب على العراق ودرء اخطارها عنه، فضيلة، بعكس ما يمكن ان يقال حول تسهيل حماقة قد يرتكبها شارون ضد الفلسطينيين شعباً وقيادة. وخير لمن يستخدم ترحيب شارون وبعض اركانه باستحداث المنصب وبتكليف ابو مازن بالمهمة، مبرراً لمعارضة الخطوة والتشكيك في جدواها الوطني، ان لا يتسرع في اطلاق الاحكام. فموقف شارون واعوانه، مناورة مكشوفة عمرها قصير هدفها تشويش العلاقات الداخلية. ولن يقدموا لرئيس الوزارة ابو مازن شيئاً لم يقدموه لعرفات. ولا حاجة للتذكير بأن شارون ليس غيوراً على مصالح الشعب الفلسطيني، وموقفه المعادي للفلسطينيين ينطلق من قناعة ايديولوجية عنصرية راسخة لا تتغير. ويستخدم شارون قصة الاصلاح والتغيير لتغطية سياسة القتل والتدمير التي اعتمدها منذ توليه الحكم عام 2001. وموقف الايجابي من ابو مازن لن يدوم طويلاً، ولن يتواني عن بذل كل جهد مستطاع لارباك عمل الحكومة. خصوصاً ان تعيين رئيس وزراء فلسطيني يجرد شارون الذريعة التي يستخدمها في تعطيل المفاوضات والتنصل من استحقاقات الاتفاقات السابقة وتدمير السلطة ومقومات قيام دولة مستقلة. ويعرف شارون هو وأركانه الأمنيين ان الحكومة الجديدة لن تكون اداة طيعة بيدهم، ولن ترضخ لشروطهم السياسية المذلة ومطالبهم التوسيعة. وسيكتشف شارون، اذا كان لا يعرف، ان ابو مازن وحكومته أكثر تشدداً في المسائل المتعلقة بالحقوق الفلسطينية الاساسية، وخصوصاً الانسحاب حتى حدود عام 1967، وقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس وحل قضية اللاجئين حلاً عادلاً، ويرفض بالمطلق مشروع اقامة كنتونات على 42 في المئة من اراضي الضفة. واجزم ان ابو مازن سيولي أهمية استثنائية لتوفير الحماية السياسية للنظام الفلسطيني، وعرقلة مخطط اليمين الاسرائيلي الرامي الى تدمير السلطة والتخلص من رئيسها عرفات. لا شك في ان مهمات وطنية كثيرة وكبيرة مطلوبة من الوزارة الجديدة ورئيسها في هذه المرحلة، في وقت يعترض طريقها صعوبات وعقبات داخلية وخارجية متنوعة، فالسلطة منهكة وأجهزتها الأمنية مدمرة، والمعارضة قادرة على ارباك التوجه، والاحتلال وممارساته اليومية يعقد العمل، واشتعال الحرب على العراق يلقي على عاتق الوزارة اعباء سياسية وامنية اضافية، ويحرمها، في مرحلة حرجة من عمرها، من الحد الأدنى من الدعم المادي والمعنوي الذي تحتاجه وتعهد اعضاء اللجنة الدولية الرباعية تقديمه. واشك في ان مؤسسات الاتحاد الاوروبي وروسيا والامم المتحدة ستتمكن في الأسابيع المقبلة من فعل شيء مجدي يعزز مكانة حكومة ابو مازن. واذا كانت حركة الاساطيل والطائرات والصواريخ الاميركية - البريطانية باتجاه العراق طغت، قبل وقوع الحرب، على ما عداها من المشهد في الشرق الاوسط، فإن نارها ودخانها وغبارها تكفي لحجب الرؤية عما يجري في فلسطين. والرهان على ترجمة ترحيب الادارة الاميركية بتعيين ابو مازن رئيساً للوزراء، الى خطوات عملية يلمسها الناس في الضفة والقطاع، يشبه حلم ابليس بالجنة، حتى اذا وجهت لابو مازن دعوة لزيارة واشنطن والتقى سيد البيت الابيض. فالرئيس بوش جمد "خريطة الطريق"، المبادرة السياسية الوحيدة المتداولة، ارضاء لشارون واللوبي الاسرائيلي، الى ما بعد انتهاء الحرب على العراق، وحديث الرئيس بوش يوم 15 آذار مارس الجاري عن طرح "خريطة الطريق" على الطرفين لا يغيّر هذه الحقيقة. وهذه الحرب اولها معروف، وتفاعلاتها في الساحة الدولية وداخل اميركا وفي الشرق الاوسط، غامضة ومجهولة، وكفيلة باشغال الرئيس بوش عن النزاع العربي - الاسرائيلي برمته حتى موعد انتخابات الرئاسة المقبلة أواخر العام 2004. والتجربة التاريخية تؤكد ان الفلسطينيين يتعرضون دوما لاقسى الضغوط الاميركية في مثل هذه الفترة. في كل الحالات لا خيار امام حكومة ابو مازن سوى البدء في العمل بما يتوفر لديها من صلاحيات وحسب الاولويات الوطنية. والتدقيق في واقع الحال الفلسطيني يبين ان تأمين لقمة العيش وتوفير الامن، أمران ملحان ينافس احدهما الآخر في احتلال قمة الأولويات، ويحتار المواطن الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة ايهما الاهم لبقائه على قيد الحياة في وطنه. وأظن ليس بالامكان توفير أياً من الأمرين في ظل حال ازدواجية السلطة القائمة على الارض، وتواصل العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين. ولا جدال في ان حماس والجهاد الاسلامي قادرتان، ببضع عمليات انتحارية وبضع قذائف تطلق مثلاً على مدينة "سديروت" في النقب، افشال جهود حكومة ابو مازن في تحقيق هذين المطلبين الشعبيين، خصوصاً ان شارون واركانه في اليمين الاسرائيلي ينتظرون هذه العمليات الحربية ليفتحوا النار على ابو مازن وحكومته. ولكن، بديهي القول ايضاً، ان تعمد افشال الحكومة الجديدة يدفع بالخلاف الفلسطيني الداخلي الى نقطة اللاعودة، ويفتح الباب لصراعات فلسطينية داخلية ليست في مصلحة احد. فهل ستعطي المعارضة حكومة ابو مازن فرصة؟ وهل تلتزم بالمبدأ الديموقراطي الذي يؤكد على خوض الصراع الداخلي في اطار الحرص على الوحدة، ام انها ستخطئ مرة اخرى في تقدير الموقف وتزيد في عذاب الفلسطينيين؟ في كل الحالات، يبقى تعيين رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية خطوة صائبة في الاتجاه الصحيح، تؤسس لمرحلة جديدة في حياة النظام السياسي الفلسطيني، وعلى دعاة التجديد والاصلاح احتضان التوجه وحمايته وتطويره والبناء عليه. وفشل حكومة ابو مازن فشل للجميع، بما في ذلك الذين عارضوا استحداث منصب رئيس وزراء. والمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تكمن في انجاح الخطوة وتقليص الخسائر في هذا الزمن العربي والدولي الرديء. * كاتب فلسطيني