كانت الكلاب الضالة تعوي في جنوبالعراق في الأرض القاحلة المنبسطة المليئة بالخوف والتي مزقتها الحرب.. وغرقت المنطقة في الظلام الذي يميز الحروب حيث لا يسمح بإنارة الأضواء خشية الكشف عن المواقع العسكرية. وأضاءت ظلمة الليل النجوم الرائعة التي يزداد ضوؤها بفعل ظلمة الليل ولذلك أصبحت أكثر بريقا. واستغرقت في نوم عميق لمدة ساعتين فقط. وأقلقت نومي أحلام عن حرب كيماوية وجنود وعبارات غريبة مثل دعم جوي قريب. كنت قابعة داخل خيمة عسكرية يبلغ اتساعها مترا ونصف المتر وكانت قدم زميل لي في وجهي وكنت استنشق ترابا على مشارف البصرة. احاسيس تحت الهجوم كانت تلك هي الساعات القليلة بين القصف المدفعي البريطاني الأول والثاني على مدينة البصرة.. وهو قصف مدفعي يجعل الأرض تهتز بعنف تحت قدميك وترج صدرك وتثير دوامات من الرمال والأتربة تعوق الرؤية. وهو قصف مدفعي يهاجم كل أحاسيسك لدرجة انك تخشاه حتى وإن كنت في موقع آمن خلفه. وكانت القوات البريطانية في تلك الليلة تطلق أضواء كثيفة على البصرة من مواقع على مشارف المدينة.. وهي أضواء تخرج في دفعات من المواسير الضخمة للمدافع العملاقة وتخترق السماء لمسافة 16 كيلومترا أو أكثر ثم تنفتح فوق البصرة وتنزلق بتأنق بواسطة مظلة فوق المدينة. وأنارت هذه الأضواء نحو سبعة كيلومترات مربعة بوسط مدينة البصرة في الليل البهيم. محتجزون بين النيران نيران المدفعية تبعث الخوف في نفوس حتى من هم في مأمن عنها كان الغرض هو كشف كافة التحركات العسكرية العراقية في المنطقة ومعرفة من يتواجد في المكان، وتوجيه رسالة لإظهار الهيمنة، رسالة مفادها ان قوات التحالف هي التي تتولى الأمور هنا وليس العراقيون. وقدم الجنود البريطانيون لي قهوة وقال أحدهم نعم...انه كما لو كان لديك كشاف عملاق على عينيك للكشف عن أي أحد في المنطقة. وأضاف لا بد أنها تخيف الناس كثيرا. وتلك هي الأضواء فقط. إنها ليست حتى نيران المدفعية ومدافع الهاون ونيران الدبابات.. كيف يبدو الأمر إذا حوصر المرء بين النيران المتبادلة؟ إن البصرة معزولة بالنسبة لنا وكل ما نستطيع القيام به هو الاقتراب والمشاهدة والتحدث مع قليل من المواطنين الذين يأتون من المدينة وتخيل كيف يبدو الأمر بالنسبة للآخرين. هؤلاء الآخرون هم مثل العراقيين الذين تحاول بريطانيا كسبهم بواسطة الحرب. إن المواطنين العراقيين محاصرون بين قامعيهم وجنود التحالف. وهم العراقيون الذين يبدون لمعظم الجنود البريطانيين في المنطقة مجرد أطفال متسخين يرتدون أثمالا ويلوحون بأيديهم ويصرخون طالبين شربة ماء بينما يستقل الجنود عرباتهم المدرعة. وهم العراقيون الذين يستقلون سيارات ويجب تفتيشهم لمعرفة ما إذا كانوا من الميليشيات. وهم العراقيون الذين يجب عليهم في بعض الأحيان الركوع على الأرض أمام الجنود البريطانيين لحين استكمال تفتيشهم. أعصاب العراقيين ويقول أولئك الذين تحدثت إليهم نفس الشيء: إنهم عصبيون، ولا يحبون الرئيس العراقي صدام حسين إلا أنهم لا يحبون الجيش البريطاني أيضا. وصرخ أحد العراقيين لسنا فلسطينيين...لسنا فلسطينيين...لا يمكنكم احتلالنا. ويقول العديد من المواطنين إنهم يخشون الحديث. وقال العديد إنهم فقط لا يريدون أي متاعب ولا يرغبون في الحرب، ويضيفون أنه لا يمكنهم الثقة في الغرب بعد أن عادت القوات الغربية أدراجها في عام 1991 وتركتهم يتحملون العقاب الذي أنزله عليهم أتباع الرئيس العراقي. ولا يزال الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يتحدث عن تحرير العراق. ويقول سنجلب لكم طعاما وماء، كما لو كان يحاكي قسا موجودا بولاية تكساس. قوات إجرامية في الوقت الذي أكتب فيه، أتواجد في بلد دون أن أحمل تأشيرة دخول. لم أمر بأي نقطة تفتيش حدودية عراقية. قمت بالاعتداء أنا أيضا، جئت مع القوات البريطانية. ووفقا لأي دولة ذات سيادة فإنني أتواجد هنا بصفة غير قانونية. بأي حق أتواجد في العراق؟ وبأي حق تتواجد بريطانيا؟ هذا ما يرغب العراقيون في معرفته. واستمع إلى لغة القوات البريطانية. يصف متحدث في مقر قيادة القوات في قطر الميليشيات العراقية بأنها قوات إجرامية خارجة على القانون. ويبدو أن هذا إشارة إلى قانون الصراع المسلح الذي يحدد معايير الحرب مثل ارتداء زي عسكري وعدم استخدام المدنيين كدروع بشرية. نظام عالمي جديد؟ ولكن مهما كان ما تعتقده عن صدام، كيف يمكنك وصم رجل يدافع عن بلاده المستقلة بأنه عنصر خارج على القانون؟ من الخارج على القانون؟ المعتدي أم الذي يتعرض للاعتداء؟ إن اللغة التي يستخدمها المحرر الجديد لمخاطبة الشعب هنا غريبة بحق. وتقوم وسائل الدعاية البريطانية ببث موسيقى عربية مبهجة في البلدات العراقية القريبة من المنطقة. كما تقوم بتوزيع منشورات تحمل صورا لجنود بريطانيين يبتسمون ويصافحون بحرارة عراقيا ترتسم السعادة على وجهه. ومكتوب تحت الصورة هذه المرة لن نتخلى عنكم. ربما يكون هذا حقيقيا وربما لا إن تلك الحرب أكبر من أن يستوعبها أحد. ترقد هنا في خيمتك وسط الصحراء ملتحفا بالسماء تحاول استيعاب أن أكثر من ربع مليون جندي يتواجدون هنا، من بينهم جزء كبير من الجيش البريطاني وجزء كبير من الجيش الأمريكي. وترى وجوه الجنود مرتبكة وهم يحاولون السيطرة على الحشود وتتساءل إلى أين سيقود ذلك. حرب ضخمة، تشهد ميلاد محرر جديد ذي لغة خاصة وميلاد نظام عالمي جديد يبدو مخيفا وغريبا. مراسلة بي بي سي في جنوب العراق