وقع في يدي الكثير من الأدب العربي الحديث، في وطنه ومهاجره، للمرة الأولى لما كنت طالباً في دار المعلمين في القدس 1921-1924، واستمر اهتمامي بعد ذلك. لكن هذه الفترة المبكرة طغى عليها أدب المهاجر الى درجة كبيرة. فقد انفتح عالمنا، بعد الحرب العالمية الأولى، على ما أنتجه أصحاب "الرابطة القلمية" في أميركا الشمالية و"العصبة الأندلسية" في أميركا الجنوبية، فنشر في مصر ولبنان ووصلنا ولست أنكر انني استمتعت به بعد أن كان معلمونا للأدب العربي في دار المعلمين قد درسونا المعلقات وبعض الشعر العربي الأموي والعباسي ولست أكتم القراء انني استمتعت بهذا الشعر وحفظت منه الكثير. لكن أدب المهاجر كان فيه طعم خاص وله نكهة خاصة به. وكان ممن قرأت كثيراً مما كتبوه جبران خليل جبران ومي زيادة فهذه كانت تنشر كتبها في مصر، وذلك كان يأتينا من لبنان ومن مصر أيضاً. أذكر ان مصر كرمت خليل مطران سنة 1912، وان لجنة التكريم طلبت من جبران أن يعد كلمة للمناسبة. قرأت كلمته وأعجبت به، ولولا طولها لنقلتها كلها. لكن خلاصتها أن أميراً بعلبكياً كان يعيش سنة 212 ق.م. هبط بلاده شاعر. ولما أخبر بأمره استدعاه الى مقره. وتحدث الشاعر الغريب حديثاً عن التقمص، وطال حديثه، بحيث أن الأمير تململ، فهمس أحد رجال البلاط في أذن الشاعر ان كفى، فاكتفى. ولم يسأل الأمير عن الشاعر إلا بعد أيام، فبَحَثَ القوم عنه فوجدوه في حديقة القصر ميتاً وقيثارته بين ذراعيه. أمر الأمير في أن يدفن في حديقة القصر ثم التفت الى حكيم هندي كان يلازم مجلسه وسأله: "قل - قل أيها الحكيم - هل ترجعني السماء أميراً الى هذا العالم وتعيده شاعراً... لأنعم عليه وأفرح قلبه بالمواهب والعطايا؟". فكان جواب الحكيم الفيلسوف "كل ما تشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح. فالناموس الذي يعيد بهجة الربيع بعد انقضاء الشتاء سيعيدك أميراً عظيماً ويعيده شاعراً كبيراً". * أما الجزء الثاني من كلمة جبران فعنوانه "في مصر - القاهرة سنة 1912 للميلاد"، وفيه يتصور جبران أن أمير البلاد، في ليلة صفا جوها وصفت نفسه، طلب من نديمه أن ينشده شعراً قائلاً: "في نفسنا الليلة ميل الى الشعر فأنشدنا شيئاً منه". وأنشد النديم شعراً جاهلياً ومخضرماً وأندلسياً. لكن الأمير طلب منه شعراً معاصراً. فأخذ النديم "يرتل أبياتاً خيالية ذات رنة سحرية ومعانٍ رقيقة مبتكرة، وكنايات لطيفة نادرة تجاور النفس فتملأها شعاعاً، وتحيط بالقلب فتذيبه انعطافاً". "حدق الأمير في نديمه، وقد استهوته نغمة الأبيات ومعانيها، وشعر بوجود أيد خفية تجذبه من ذلك المكان الى مكان قصي. ثم سأل نديمه عن هذه الأبيات؟"، فأجاب النديم للشاعر البعلبكي. تموجت الكلمتان في مسامع الأمير "وولدتا في داخل روحه النبيلة أشباح أميال ملتبسة بوضوحها قوية بدقتها". وتفجرت في نفس الأمير ذكريات كانت خامدة في أعماق صدره، ثم "امحت هذه الرؤيا أمام عينيه مثلما تتوارى الأحلام بمجيء الصباح، إذ رأى صورة فتى ميت يعانق قيثارته، فوقف ومشى جامعاً ذراعيه على صدره مردداً ما أوحي به الى النبي العربي وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون". ثم التفت نحو نديمه قائلاً: "يسرنا وجود الشاعر البعلبكي في بلادنا وسوف نقربه ونكرمه". وقد كانت حفلة تكريم خليل مطران، الشاعر البعلبكي، تحت رعاية أمير بلاد النيل. * كان سليم سركيس هو المسؤول عن حفل التكريم أدبياً. فعهد الى الآنسة مي زيادة بإلقاء كلمة جبران. ففعلت ذلك. لكنها قدمت لها بكلمة حول خطاب جبران ثم أضافت كلمتها الخاصة. قالت في الأولى: "صدى الكلمات الأخيرة التي تموجت في مسامعكم أيها السادة ما زال يرن على أبواب فؤادي مثيراً فيه ميلاً الى الكلام منبهاً في أعماقه شبه قوة اكتفت بالإصغاء حيناً وهي تحاول الانقلاب الى همس، الى نغمة الى صوت أنسي ينقل الى عالم السمع سرائر التأثيرات النفسية". وأضافت في ما بعد: "والآن أريد أن أتكلم بنفسي وبصوت جنسي". وقالت قولاً جميلاً لا يتسع المجال لنقله. * من المعروف أن جبران ومي وقعا في حب كبير وتبادلا رسائل غرام مهمة وحميمة. وقد عثر على الرسائل التي كتبها جبران الى مي ونشرتها السيدة سلمى الحفار الكزبري وبديع بشروئي. لكن رسائل مي الى جبران يبدو أنها تبعثرت ولحد الآن لا تزال مجهولة مكان الإقامة. سألت الصديقة الكريمة عن تاريخ أول رسالة تبودلت بين المحبين. أجابتني سنة 1911. وأنا أرى أن هذا الحب الكبير كانت بداءته مناسبة تكريم خليل مطران سنة 1912. فقد كتب جبران كلمة رائعة، وعلقت عليها مي بكلمة فيها إعجاب وإكبار. وكان جبران يحب ذلك، فأحب تلك التي أعجبت به وأكبرته. واستشرى الحب. ولعل مي كانت قد أصيبت وقتها بخيبة آمال في الذين أحبوها أو عشقوها من زوار صالونها الأدبي، فرأت في هذا الحب العذري البعيد متنفساً لعواطفها وشعورها. ... لعلّي لم أكن الأول في اكتشاف هذا، ولكنني لم أقرأ، في ما أذكر، إشارة الى "أساس هذا الحب أو أصله"، لذلك تجرأت وكتبت هذا المقال. فالأمور بالنيات. ونيتي، ولله الحمد، طيبة.