«فار مكسور»    نفاذ تذاكر "كلاسيكو" الاتحاد والنصر    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    مطربة «مغمورة» تستعين بعصابة لخطف زوجها!    بسبب المخدرات .. نجوم خلف قضبان السجن!    مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يوقع عددًا من مذكرات التفاهم    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ساعتك البيولوجية.. كيف يتأقلم جسمك مع تغير الوقت؟    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    «مبادرات التحول الاقتصادي».. تثري سوق العمل    في عهد الرؤية.. المرأة السعودية تأخذ نصيبها من التنمية    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    الاستدامة المالية    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    بالله نحسدك على ايش؟!    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    عريس الجخّ    كابوس نيشيمورا !    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    برنامج مفتوح لضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة "بتلفريك الهدا"    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    رئيس مجلس أمناء مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يعقد اللقاء السابع عشر    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    الدكتور عبدالله الوصالي يكشف سر فوزه ب قرص الدواء    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"البندقية وغصن الزيتون : جذور العنف في الشرق الأوسط" بقلم ديفيد هيرست . اسرائيل اعتمدت قوانين عنصرية جائرة لتهويد اراضي الفلسطينيين والتمييز ضدهم واحداث اا ايلول ما كانت لتقع لو رفضت اميركا مساعدتها على اذلال المجتمع الفلسطيني 4 من 6
نشر في الحياة يوم 15 - 03 - 2003

في احد الفصول الجديدة في الطبعة الثالثة من كتاب "البندقية وغصن الزيتون: جذور العنف في الشرق الاوسط" يتحدث مؤلف الكتاب الصحافي البريطاني المخضرم عن الحيل "القانونية" التي لجأت اسرائيل اليها لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم واراضيهم والتمييز ضدهم بقوانين تبدو، ظاهريا، خالية من العيوب لكنها في الواقع عنصرية تماما. ويعرض هيرست كيف اعطى المسؤولون واعضاء الكونغرس وكتاب اعمدة الرأي في اميركا الاجابة المغلوطة عن السؤال "لماذا يكرهوننا" الذي برز بقوة بعد احداث 11 ايلول سبتمبر، وهي ان العرب والمسلمين يكرهون الاميركيين بسبب حرياتهم.
وكانت نتيجة ذلك ان الاميركيين تشكلت لديهم عقيدة جديدة قوامها ان العرب لديهم نقص في "قيم" الحرية والديموقراطية الاميركية. لكن لم يكن بوسع العرب تجاهل دور اميركا، والغرب عموما، في خلق الوضع العربي والاسلامي الذي كان اسامة بن لادن "ثمرته الشريرة".
لم تتمكن اسرائيل قط من اعلان دستور. ولكن، ظاهرياً، طبقت كل القوانين، سواء الاساسية اوغيرها التي اجازها البرلمان الكنيست من دون استثناء ومن غير تحيز على جميع المواطنين الاسرائيليين. وجاء التمييز التطبيقي الحاسم بين اليهودي وغير اليهودي في مكان آخر -عن طريق المكانة شبه السيادية التي منحتها الكنيست لهيئات كانت خاصة في السابق يعود عهدها الى ما قبل قيام الدولة، مثل المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي. وكانت تلك الهيئات ملزمة دستوريا بقصر نشاطاتها على اجندة يهودية فقط. لذا شجعت المنظمة الصهيونية العالمية/الوكالة اليهودية "الاستعمار الزراعي القائم على العمل اليهودي"، بينما عمل الصندوق القومي اليهودي على حيازة عقارات "لغرض توطين اليهود على مثل تلك الراضي والممتلكات".وولد هذا التحيز الاساسي الدستوري، المخفي وراء واجهة لا عيب فيها، بهذه الحيلة حالات تمييز قانوني، واداري، ومالي، واجتماعي وثقافي من كل نوع يمكن تصوره ضد الفلسطينيين. كان هذا النظام، الذي نوقش باستفاضة في "البندقية وغصن الزيتون"، هو الذي ولد بسرعة تصنيفات اورويلية مثل "الحاضر غائب" -المصطلح الذي اخترع للاشارة الى الفلسطينيين الذين كانت اراضيهم وقراهم عرضة للمصادرة لانهم، على رغم انهم قد يكونون هم انفسهم حاضرين ماديا، ورغم انهم مواطنون كاملو المواطنية في الدولة الحديثة الولادة، فقد كانوا من الناحية القانونية غائبين. ومضت لتبني صرحا كاملا من التظاهرات الكاذبةالبيزنطية في تعقيدها. لذلك فان عدم استفادة بلدات الفلسطينيين وقراهم من مخصصات الموازنة الاكبر بكثير لنظيراتها اليهودية لم يكن، ظاهريا، انهم فلسطينيون، وانما لأن بلداتهم لم تكن بين "الاماكن التي تظهر اسماؤها على لائحة بلدات التنمية المُعَدّة من جانب دائة الدخل".لم تكن بين تلك الاماكن لأن قانوناً آخر، فوق النقد ظاهرياً، ضمن عدم ادراج اي بلدة عربية فيها ابداً. ولم يكن السبب وراء عدم اهلية الفلسطينيين، بعكس اليهود، للحصول على مختلف انواع الاستحقاقات الخاصة، مثل علاوات الاطفال الاكثر سخاءً او قروض او مِنَح المنازل، انهم فلسطينيون، وانما لأنهم لم يكونوا "جنوداً مسرّحين". وهذا الامر بدوره لم يكن لأنه فلسطيني. بالطبع لا، وانما ببساطة، حسب قانون الخدمة العسكرية، لا بد ل"عدّاد" ان "يفوض المجندين والمرشحين للتجنيد بان يلتحقوا" بالخدمة، ولم يحدث ان فاز اي فلسطيني بتفويض العدّاد.
كانت النتيجة النهائية لهذا كله انه لا يحق للفلسطينيين ان يعيشوا في مناطق يُفردها القانون لليهود - تشكل الآن اكثر بكثير من 90 في المئة من بلاد كان اكثر من 90 في المئة منها في السابق فلسطينياً - على نحو يشبه الى حد كبير حرمان السود من العيش في مناطق "البيض" في جنوب افريقيا العنصرية، او حرمان اليهود من العيش في مناطق "غير اليهود" في بعض بلدان اوروبا قبل عصر النهضة. ويتساءل اسرائيل شاهاك "ما هو الفرق بين منع يهودي بوصفه يهودياً من العيش في السعودية ومنع غير يهودي بوصفه غير يهودي من العيش في كارمييل ]بلدة اسرائيلية حيث كان الفلسطينيون يحاولون، من دون جدوى، السكن فيها[؟ دعونا فقط نقارن ذلك بالطريقة التي ترد بها منظمات يهودية في الولايات المتحدة عندما تكتشف نادياً يرفض، او يتجنب فحسب قبول، اعضاء يهود. انه يتحول فوراً هدفاً لحملة احتجاج شعبية غاضبة. ومع ذلك فان النادي ليس سوى شأن خاص. في المقابل، تمثل سياسة اسرائيل التي تقضي بمنع غير اليهود من العيش او القيام بنشاط تجاري في مدن اسرائيلية محددة شأناً عاماً. اليس ذلك اسوأ بكثير؟ في الحقيقة، يقف الصهاينة هنا واعداء السامية هناك على الجانب نفسه من الحاجز. انهم يحققون هنا ما يسعى اعداء السامية، من دون نجاح عادةً، الى تحقيقه هناك". كما لا يمكن للعرب ان ينضموا الى الكيبوتزات، تلك المشاريع ذات الصبغة الاشتراكية التي تحظى باعجاب دولي لكنها تمثل في الواقع معاقل للامتياز الاثني، او ان يستأجروا الارض من يهود كي يزرعوها. لكن هذا الاخير يجري فعلاً، تحت ضغط مصالح تجارية. وقد اصبح، بالفعل، امراً شائعاً لدرجة جعلت منه "وباءً" ترى الحكومة، وتلك الهيئات الصهيونية التي اوكلت لها مهمة "تهويد" الارض، انها ملزمة بقمعه بالقوة. وبدأت حملة نُظّمت لهذا الغرض بتصريح لوزير الزراعة بان "قوة العمل العربية في المستوطنات الزراعية لليهود تماثل سرطاناً ينهش جسدنا". ويجادل شاحاك "هل يمكن ان تتخيلوا وزيراً فرنسياً يصف التجار اليهود في فرنسا بانهم سرطان، ويتخذ اجراءات "مناسبة" ضد انتشاره؟".
كانت الاقلية الفلسطينية دائماً، وما تزال، تحظى بتمثيل ضئيل الى حد كبير في الحكومة والادارة والحياة العامة. وتُدار شؤونهم الخاصة بالكامل تقريباً من قبل "خبراء" او "مستشارين في الشؤون العربية" يهود. ولم يحصلوا الاّ اخيراً على اول منصب وزاري لهم منذ 50 عاماً. ولا يوجد لديهم اي مدراء عامين، او قضاة في المحكمة العليا، او سفراء، او اي عضو في مجلس ادارة اشهر صحيفة - واكثرها ليبرالية! - في اسرائيل: "هآرتس". وهم لا يشكلون سوى 4 في المئة من موظفي الحكومة، ويشغل معظمهم وظائف لا يمكن ان يؤديها سوى الفلسطينيين، ومعظم الوزارات التي يوجد مقرها في القدس لا توظفهم لديها اطلاقاً. ومن بين المدراء ال641 لشركات تخضع لسيطرة الحكومة لا يوجد سوى ثلاثة فلسطينيين. ومعدلات البطالة في صفوفهم اعلى من المتوسط العام بنسبة تزيد على الثلث. وفي 1988، ذهبت نسبة 8،8 في المئة فقط من مخصصات موازنة الحكم المحلي الى "القطاع العربي". وفي السنة ذاتها، كان 6،37 في المئة من العائلات الفلسطينية يعيش تحت خط الفقر، مقارنةً بالمتوسط العام الذي يبلغ 6،16 في المئة. ويعيش حوالي 53 في المئة من الاطفال الفلسطينيين مع اكثر من شخصين لكل غرفة، مقارنة ب 8،2 في المئة من الاطفال اليهود. ويبلغ معدل الوفيات بين الاطفال الخدج 8،14 في المئة مقارنة ب 2،8 في المئة لنظرائهم اليهود. وتُحشر مجموعة بشرية تشكل 20 في المئة من السكان في بلديات تمثل 5،2 في المئة من المجموع. وفي الوقت الذي اُنشئت فيه 700 مستوطنة يهودية منذ اقامة الدولة، لم تشيد اي بلدة او قرية جديدة للسكان الفلسطينيين الذين اصبحوا الآن اكثر من ستة اضعاف عددهم الاصلي. وفي 1988، على رغم وجود حاجة ماسة اكبر بكثير، لم تكن هناك سوى اربع مناطق فلسطينية من اصل 429 منطقة صُنّفت باعتبارها "مناطق ذات اولوية"، وهي بالتالي مؤهلة للحصول على مساعدة خاصة في الموازنة. ويعيش حوالي 70 الف فلسطيني في اكثر من 100 قرية لا تحظى - حسب تعبير آخر من مفردات اورويل - ب"اعتراف" الحكومة، على رغم ان معظمها يسبق وجوده دولة اسرائيل ذاتها. ولكونها "غير معترف بها" فهي لا تظهر على اي خريطة، وتُحرم من خدمات اساسية مثل امدادات المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق المعبدة. وعلى رغم الاكتظاظ الشديد في هذه القرى، يُحظر عليها بناء منازل جديدة، او حتى نصب خيمة. وبما انه يُحظر عليهم ايضاً تصليح المنازل القائمة - ناهيك عن توسيعها او اضافة مرفق صحي او حمام - فانها تصبح في أمسّ حاجة الى الترميم، ومن ثم فان الحكومة تقرر اعتبارها غير آمنة وتصدر اوامر بهدمها. كان هذا، في الواقع، هو الهدف منذ البداية. فالسبب الحقيقي، رغم عدم التصريح به، وراء "عدم الاعتراف" بهذه القرى هو انها والارض المرتبطة بها كان مُقرّراً مسبقاً ضمّها الى ما يقدر ب96 في المئة من الاراضي التي كان يملكها الفلسطينيون سابقاً وانتقلت بالفعل الى ايدي اليهود.
وقد طرأت تحسينات. عندما قدم الفلسطيني عادل قعدان طلباً في 1995 لشراء قطعة ارض معروضة بموجب مشروع "شيّد منزلك" في مجمع كاتزير اليهودي، رُفض طلبه لانه غير يهودي. وكل ما كان هذا الممرض يريده هو شيء عادي تماماً، وانساني جداً بالفعل: بيئة ينشيء فيها عائلته افضل من القذارة والشوارع الوسخة والمجاري المعطوبة والمدارس البائسة وانعدام اي مؤسسات محلية كما هو الحال الذي آلت اليه قريته، باقة الغربية، المجاورة نتيجة سنوات من الاهمال والتمييز الرسمي. ورفع التماساً الى المحكمة العليا. وبعد ذلك بخمس سنوات، اصدرت المحكمة قراراً لصالحه. ونصّ القرار على ان "كل الاشخاص في اسرائيل، اياً كانت ديانتهم وقوميتهم" يجب ان يتمتعوا بحقوق متكافئة. كان هذا، كما يبدو ظاهرياً، اختراقاً قانونياً بالنسبة الى الفلسطينيين. ومع ذلك، لا يمكن ابداً التعويل كثيراً على مثل هذه القرارات التقدمية ظاهرياً للمحكمة - وكانت هناك قرارات غيرها - او على القوانين الجديدة والطنانة التي أقرتها الكنيست، لانه كان هناك دائماً شيئاً مخبوءاً يلغي التأثير المفيد كله، مثل فقرة صغيرة تضمن الاً يكون للقرار الاخير اي أثر ذي مفعول رجعي على قرارات سابقة، وبالتالي على بنية التمييز المشرّع بأكملها التي ادت تلك القرارات الى نشوئها.
ومع ذلك، اثار قرار المحكمة، برغم كونه مقيداً، غضب اليمين الديني والقومي. فقد شجبه حزب ليكود، ووصفه حاييم دراكمان من الحزب القومي الديني بانه "يوم اسود للشعب اليهودي"، واعلن مئير بورش من حزب اليهودية التوراتية المتحد "انهم يدمرون الدولة". اما بالنسبة الى "جمعية كاتزير التعاونية" بالذات فانها رفضت قبول القرار، واكدت ان عائلة قعدان لن تحصل على قطعة الارض، بغض النظر عما تقرره المحكمة، لان ذلك سيشكل سابقة.
في غضون ذلك، مع اندلاع الانتفاضة، وما ولّدته من مشاعر عداء تجاه الاقلية الفلسطينية، سلكت السلطات مرة اخرى طريق الحرب. واُستؤنفت عملية "تهويد" ما تبقى من اراضي الفلسطينيين. وقامت وزارة الزراعة برش مواد سامة على 12 الف دونم من المحاصيل التي كان بدو النقب زرعوها في اراضي اجدادهم. وبدأت وزارة الداخلية بتجريد فلسطينيين من مواطنيتهم "لانتهاكهم الولاء لدولة اسرائيل". وبموجب قانون جديد ضد "التحريض على العنف"، وجّه المدعي العام اتهامات ضد النائب الفلسطيني عزمي بشارة، فيما امتنع عن توجيه اي تهمة الى النائب اليهودي ميكائيل كلاينر الذي كان اعلن، بطريقة ليست اقل تحريضاً بالمقارنة مع بشارة، ان اشخاصاً مثله "يوضعون بشكل روتيني امام فرقة اعدام في معظم البلدان". واخيراً، في صيف 2002، لم تكتف حكومة شارون بالتخلي فعلياً عن فكرة انه ينبغي للفلسطينيين ان يتمتعوا بالحقوق الاساسية ذاتها مثل مواطنيهم اليهود، بل وللمرة الاولى في تاريخ اسرائيل تخلت عن كل تظاهر اورويلي بانهم كانوا اطلاقاً متمتعين او يمكن ان يتمتعوا بمثل هذه الحقوق. وفي محاولة لتجاوز قرار المحكمة الخاص بقضية قعدان فان حكومة الائتلاف صوتت بغالبية 17 مقابل 2 لاقرار مشروع قانون، قدمه الى الكنيست الحزب القومي الديني، يسمح بتحويل "اراضٍ عائدة للدولة" الى مناطق سكنية لاستخدام المواطنين اليهود حصراً في اسرائيل. وعلى رغم ان الحكومة تراجعت عن دعمها لمشروع القانون، فان لا شيء يمكن ان يخفي حقيقة نواياها المريعة. فتبني هذا القانون كان سيكرس التمييز العنصري كسياسة رسمية للدولة. وقال كاتب العمود اليساري ب. مايكل ان "انصار مشروع القانون اكدوا الاتهامات الاكثر شناعة التي توجه الى اسرائيل، بانها دولة عنصرية اثنياً ... لقد حال الاحساس بالعار وإرثنا اليهودي حتى الآن دون إدخال عبارة "لليهود وحدهم" في سجلات القوانين. لكن الحاخام دراكمان و]وزيرة التعليم[ ليمور ليفنات لا يستحون، ولا يعرفون الكثير عن الارث اليهودي ربما باستثناء "كتاب يهوشوع" ]الرواية عن قيام بني اسرائيل بذبح اعدائهم وطردهم[ وقد شرعا بتلويث نظامنا القانوني بمفاهيم تليق بنظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا و"طالبان" في افغانستان وقوانين نورمبيرغ في المانيا
كانت اصوات الاحتجاج من اوساط كهذه هي التي اجبرت الحكومة على التراجع. واكدت قدرتها على الاحتجاج مجدداً ان اسرائيل ما تزال، بالنسبة الى اليهود على الأقل، نظاماً ديموقراطياً. لكن لم يصدر اي احتجاج مماثل، ولا حتى صيحة واحدة، من اليهود الاميركيين الذين يظهرون تسامحاً ازاء عيوب اسرائيل يفوق بكثير تسامح الاسرائيليين انفسهم. كانت "رابطة مكافحة التشهير" منهمكة على الارجح في تكييف موقفها الراسخ - تأديب منتقدي اسرائيل، لا اسرائيل ذاتها ابداً - وفقاً لإرشادات جديدة وضعت في القدس في الشهر السابق من جانب "مؤتمر المنظمة الصهيونية العالمية". فقد دعا المؤتمر، الذي يعتبر نفسه "برلمان الشعب اليهودي" لكنه يمثل في الواقع بشكل طاغٍ هيئة اسرائيلية - اميركية، في دورته الرابعة والثلاثين منذ تأسيسه في بازل في 1897، الى انشاء "مجموعات عمل" في كل البلدان تتعاون مع اعضاء الهيئات التشريعية كي لا "تُحظر" معاداة السامية وإنكار المحرقة فحسب، وانما مناهضة الصهيونية ايضاً.
وماذا عن موقف الحكومة الاميركية؟ لم تصدر ايضاً كلمة واحدة. اذ ان ما يحتاج الى تصحيح، بالنسبة الى جورج بوش ومحافظيه الجدد، ليس اسرائيل وسياساتها، وانما العالمان العربي والاسلامي. ولابد ان يجري "تغيير نظام" شامل في الحالات الاشد اعتلالاً وغير القابلة للعلاج، مثل العراق و"فلسطين"، وفي الحد الأدنى ينبغي اجراء "اصلاح" عميق لكل تلك الانظمة التي غذّت، عبر اساءة الحكم والقمع وتشجيع التطرف الاسلامي او التساهل معه، الدعاية المعادية لاميركا والمعادية لاسرائيل، ورعت "ثقافة العنف" التي نشأ منها اسامة بن لادن ومذبحة 11 ايلول الكارثية.
11 ايلول - لا تسأل ابداً لماذا
في الفقرة الاستهلالية من كتابهما "لماذا يكره الناس اميركا؟"، يقول زيد الدين سردار وميريل واي ديفيز: "اذ خيمت سحابة الغبار فوق جنوب مانهاتن يوم 11 ايلول سبتمبر 2001، خرجت امرأة مجهولة الهوية في حال ذهول من العتمة التي تلف البرجين التوأمين. لم تكن الكلمة التي قالتها لأحد مراسلي التلفزيون "لماذا"، كتعبير بسيط لعجز عن الفهم، بل وجهت سؤالاً مركزاً يجسّد الماً ومعاناة: "لماذا يكرهوننا؟". اُلتقط هذا السؤال فوراً من جانب سياسيين ومعلقين، ومن اشخاص عاديين في كل مكان، في الشوارع وفي منازلهم. كان فحوى الجواب من اميركا المؤسسة الحاكمة: "القيم الاميركية". وفي 20 ايلول سبتمبر، ابلغ جورج بوش جلسة مشتركة للكونغرس: "انهم يكرهون حرياتنا، الحرية الدينية، حرية الكلام، حرية التصويت والتجمع والاختلاف مع احدنا الآخر ... اُستهدفت اميركا لاننا أسطع منارة للحرية وللفرص في العالم. ولن يكون في استطاعة أحد ان يطفيء هذا النور".
لكن شخصية اميركية بارزة اخرى، بول فيندلي، قدمت جواباً مغايراً تماماً. قال عضو الكونغرس السابق الذي تمكن "اللوبي" من ازاحته من منصبه، ان "احداث 11 ايلول ما كانت لتقع لو ان الحكومة الاميركية رفضت ان تساعد اسرائيل على اذلال وتدمير المجتمع الفلسطيني". بمعنى آخر، لم تكن قيم اميركا بل سياسات اميركا هي المسؤولة. واضاف انه على رغم ان "كثيرين مقتنعون بان هذه هي الحقيقة ... فان قلة منهم تعبّر عنها علناً". فمن الحماقة التصريح بذلك. "ترجع جذور 11 ايلول الى 35 سنة خلت عندما بدأ اللوبي الاسرائيلي في اميركا نجاحه المتواصل في خنق النقاش حول الدور المناسب للولايات المتحدة في النزاع العربي - الاسرائيلي".
لم يكن الدعم الاميركي المتواصل وغير المتروي لمحميتها اسرائيل قطعاً السبب الوحيد وراء الكارثة. ذلك ان اسامة بن لادن و"القاعدة" لم يأتيا من فراغ. كانا نتاجاً للوضع العربي، والى حد ما الوضع الاوسع للعالم الاسلامي. كان هذا الوضع كئيباً. فالعالم العربي تنخره شتى الامراض الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمؤسساتية. وخير مؤشر مقنع الى ذلك "تقرير التنمية الانسانية العربية" الذي اعدته الامم المتحدة. قدم هذا التقرير، الذي نشر في 2002، وصفاً لاحدى مناطق العالم الثالث التي تخلفت عن بقية المناطق كلها، بما فيها افريقيا جنوب الصحراء الكبرى، في معظم المؤشرات الرئيسية للتقدم والتنمية. فالناتج الوطني الاجمالي لسكان العالم العربي الذين يبلغ عددهم 280 مليون نسمة اقل من اسبانيا، على رغم ثروته النفطية الضخمة. ولا تزيد الكتب الاجنبية المترجمة سنوياً عن خمس ما يترجم في اليونان. واذا اُتيحت فرصة الهجرة للشباب فان 51 في المئة منهم سيفعلوا ذلك. وقال كتّاب التقرير، وهم جميعاً عرب، ان احد الاسباب الرئيسية وراء هذا التخلف هو ان الشعوب العربية هي الأقل تمتعاً بالحرية في العالم، مع ادنى مستويات المشاركة الشعبية في الحكم. كان هذا هو التفسير لاحداث 11 ايلول - العربي والاسلامي، الداخلي على نحو صرف - الذي ركزت اميركا الانتباه عليه. وبالفعل، نشأت في غضون ايام عقيدة جديدة في واشنطن بدا ان الجميع تقريباً تبناها، من مسؤولين واعضاء في الكونغرس وكتّاب مقالات رئيسية في الصحف وخبراء اكاديميين. انه النقص في "قيم" الحرية والديموقراطية الاميركية لدى العرب والمسلمين: هنا يكمن جذر المشكلة. واعلنت العقيدة الجديدة ان هذا النقص ليس مقصوراً بأية حال على بلدان تخضع لسيطرة اشرار في نظر اميركا، مثل عراق صدام حسين، او انظمة "متطرفة" مثل سورية الرئيس الأسد. فهو يشمل ايضاً بلداناً، مثل السعودية ومصر، كان التعامل معها يجري باعتبارهم اصدقاء "معتدلين" موثوقين لأميركا والغرب.
لم يكن احد من صنّاع الرأي العرب سيخالف عموماً تفسير اميركا لولا حقيقة انه كان الوحيد الذي قدمته اميركا. فقد اعتبروا انه لا يمثل سوى نصف المسألة، ولا يمكن للمرء ان يطرح احد النصفين من دون الآخر. وكان النصف الآخر هو الدور الذي لعبته اميركا بالذات، والغرب بشكل عام، في خلق الوضع الاسلامي، والعربي بشكل اكثر تحديداً، الذي كان بن لادن هو ثمرته الشريرة في النهاية. وكان هذا الدور الغربي بدأ، في أعين العرب، في الأزمنة الحديثة على الاقل، مع انهيار الامبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الاولى وما تبعه من استيلاء على معظم ولاياتها العربية السابقة وتقاسمها من جانب اوروبا التي كانت وعدتهم بان يحققوا وحدتهم وحريتهم واستقلالهم. وكانت الخطوة الأكثر غطرسة ولاعقلانية هي تسليم احدى هذه الولايات، فلسطين، بأكملها الى شعب آخر. وتواصلت هذه الخيانات والاجراءات المذلة بعد الحرب العالمية الثانية، مع تقديم الدعم بزعامة اميركا لانظمة قمعية او فاسدة او رجعية اُستخدمت كمعاقل في مواجهة الشيوعية او شركاء في السعي الى تسوية مستحيلة، لانها غير عادلة، للنزاع الاسرائيلي - الفلسطيني.
وبحلول عشية 11 ايلول، بينما كانت الانتفاضة الفلسطينية توشك ان تبدأ عامها الثاني، كشف مسح للآراء ان حوالي 60 في المئة من سكان اربعة بلدان عربية متباينة نوعاً ما - السعودية والكويت والامارات العربية المتحدة ولبنان - يعتبرونها "المسألة المنفردة الاكثر اهمية بالنسبة اليهم شخصياً". وفي مصر، البلد العربي الأقوى والاكثر سكاناً، ارتفع الرقم الى 79 في المئة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.