تمر الأيام خلسة، وينحسر العمر على قارعة الحنين إلى أنوار الزمن المتشبث بالذكرى. فهذا صيف آخر يحمل وحدتي برفق إلى مطافات المؤمنين بجدوى تأمل الأشياء الميتة. هذا صيف آخر أطل عليه من نوافذ الرغبة، ويطل علي من أبواب الحكمة، فلا ألقاه ولا يلقاني. والأشياء التي أكتب لها الأبدية لا تستجيب، لا تتحرك" تنعم في السكون الذي يرافق النهايات. تمر الأيام محملة بنجوم لا تضيء دربي، وشمس لا تدفئ قلبي، وأحداث لا تلون الأشياء في عيني، فكأنني محكوم بالغفلة من أمري" أمر الحياة. أمد يد الخيال المسالمة كالضعفاء إلى الرابية التي عرّاها الزمن من ورود الحلم والفرح. استنهضها عتاباً، استنهضها ملامة، استنهضها ثائراً، وأسوق لها مشاهد من ليال خوال تصلبت في ثغرات العمر كمرافئ تيه. لكنها لا تستجيب. لا تنهض من أحزان البشر الذين كتبوا أحلامهم على صدرها ثم أضاعوا الطريق إليها، أو أنهم غضوا النظر. تمر الأيام وتمد مسافات في بادية الضباب الذي نفخه صدري في لحظة جنون، ولفظه صدرها في لحظة انتقام فارتفع كهامات القدر" أضاعني وأضاعها على أطراف الوصال المتقطعة. أرقب النيران التي أججتها على الدروب الطويلة المفضية إلى معالم الفردوس على الأرض. إنها تنطفئ بلا شفقة، وتتحول الوعود المتراقصة على ألسنة اللهب إلى بواخر من ورق تعوم في بحار بلا نهايات. أتطلع إلى الأضواء التي أشعلتها في متاهات الروح بالسر وبالعلنية، في البداية وفي النهاية، في الحضور وفي الغياب، فأنارت ليالي الشتاء وعلقت المصير خارج الزمن. يا إلهي كيف يخف النظر عندما يسقط الإنسان من فضاء منير بشدة إلى هاوية مظلمة بشدة! ويمر خيالها أمام مسائي المحاصر بالهدوء شبحاً تعملقه الذكريات الطيبة المصلوبة في وجهي كشاهد على بقايا عبورها من ها هنا. يقف على بعد كاف من الشِباك التي أبنيها له. يتأملني كأطلال تفيد في لحظة الحسرة، وفي ساعة الاحتجاج، ويهز رأسه عطفاً. يتمسك بالصمت حتى اللحظة الأخيرة. لا يقول وداعاً. لا يقول إلى اللقاء. يقول: - الرصاصة التي قتلت غصون دُفنت معها. تعال إلى أسفل الوادي، وجرب أن تلوي ذراعي. - ألست أنت غصوناً؟ سؤال لا يستحق الجواب. لا يستحق بسمة سخرية أو تكشيرة تأنيب. غبي، أو تافه، أو مرتبك، أو خجول، لكنه على الأرجح مشبع بالجبن والبلادة كحضن ماء راكد. الشبح العملاق يمضي، فتلحقه النجوم والقمر كمشاعل سيارة، وتحل العتمة التي تشل مفاصل الحركة ومفاصلي. ثم تنتصب اللوحة السوداء منتعشة بالأضواء البعيدة، وبتلك الجملة المكتوبة عليها بأحرف يد دامية: الأبعاد الضائعة تخفف الوزن بين الناس! ضاقت جفوني على احتواء فاصل من نوم. كان ذلك في بداية الصيف في الذكرى السنوية الخامسة لهمساتها الأخيرة التي وصلتني من لسان إلى لسان: أسدلوا ستار الأكاذيب المارقة والنفاق المتجذر في كتبكم على وجهي لئلا تروا قبحكم. سيأتي الصبح لا محال، وسأعرف كيف ألوي ذراعك أيها الشبح المتربع على دقائق مسائي يوماً بعد يوم. سأعرف كيف أقتلع لعنة إبليس من جلدي، وكيف أهتدي إلى الرتابة في التنفس والأكل والنوم والقراءة وشم الأزهار البرية التي تنبت على رواب لم تشهد بعد ولادة حب أو موت حلم. الصبح رحاب أمل" لكن يجب أن نراه صبحاً لا فراغاً نشازاً بين ليلة وليلة. بدا لي فجر الهمة والإرادة دقيقة صمت امتدت حتى ساعة متأخرة من الضحى، وتجلت فيها كوامن النفس التواقة إلى لي ذراع. انتعلت حذاء سميكاً يقيني نتوءات الصخور والأحجار وأشواك الغابة، ويشد من عزم الخطوات، ومضيت على الطريق الطويل المؤدي صعوداً ونزولاً إلى شجرة الصنوبر المنفردة بالمكان في أسفل الوادي. تسلحت بأقوال مأثورة تمنح المرء قوة وصلابة وتخلصه من الحسابات التي تؤدي إلى التردد أو إلى الخوف، واندفعت نحو المتن الأكبر، أو التحدي الأعظم، أو بكلمة بسيطة، نحو الحسم الموجع على نحو الخيارات المتوازنة الخاسرة في كل حال. طويت المسافة بخطوات واسعة، سريعة، واثقة من أن تجريب لي ذراع عملاق فيه من الفضائل فضيلة المحاولة وأكثر. عبرت الغابة المكتظة بأشجار مسنة متشابكة الفروع متلاحمة. خرجت من طرفها الآخر، وصار البحر الممتد في أفق النظر ينزعني من وحشة التفرد الطويل مع الذكرى. وعندما كنت أنحدر نحو أسفل الوادي شاهدت على حين غرة شبح "غصون" يمر بجانبي راكضاً، مجلجلاً، ويلقي عليّ نظرة ساخرة. أشار بيده المنتهية بأظافر متآكلة الأطراف كسيوف من عهد بابل إلى موقع النزال، وسبقني إليه. قال: - الرصاصة التي قتلت "غصون" ما زالت في جسدها. جرب ألا تنسى! تجاوزني. سبقني. ظل يركض منحدراً إلى شجرة الصنوبر المتعالية في وحدتها. تلفت إلى الخلف" إليَّ، من فينة إلى فينة، وتشدق بالضحك المتحد، الهازئ، الكافر بجدوى الرأفة الإنسانية عندما تحين لحظة الفصل ولحظة الوقوف العاري أمام النفس العارية. لوح لي بيده يحثني على السير السريع إلى محطة الحساب فكأنه يشجعني على عمل المستحيل ضده. لكن ملامح الروح كانت تميل إلى توطين الحزن المتمرد بترقب وصمت على حملات ماجنة لمنح الذكرى حياة أو حركة. ثمة قدسية مُحيرة تُصاحب النيات بالقطيعة مع الأشخاص الذين يمدون بعداً في أقدارنا ويمضون إلى العدم. ثمة أسف مؤلم لا يحتمل العلاج عندما تكلح ألوان العيش التي علّقناها على مشجب يرتفع إلى أعالي السماء على جناحي حلم. اقتربت من دائرة المصير التي طوقتني بالحيرة زمناً، ولونت مشاعري بالخيبة والخذلان واحتجاج الضمير. صرت أشعر كالجندي الذي دخل المعركة. رجل متحرر من الخوف لأن الخوف فوق طاقته، وأكبر من المكان، وخارج حدود الساعة. وصار "الشبح" يلغي الفواصل بين أفكاري، فيشمر عن ساعده المنفوخ بمدارات الخيال المبالغ، ويشد أسنانه النافرة كعيب في كمال إلى بعضها بقوة مهيبة ومجنونة. لمحته يتمطى كقط قام لتوِّه من كبوة. كان في الحقيقة يستعد للنزال على طريقته الخاصة وضمن طقوسه المربكة والمحيرة. أبصرته أيضاً يرفع يديه إلى السماء فكأنه يلفت عناية الرب إلى حاجته إليه. لكن الأمر لم يكن كذلك. الأشباح تتواصل مع حقائق الماضي من خلال التوسل إلى ذوات الماضي المتدثرة بعباءة الغيب. وعندما بلغت المكان" تحت شجرة الصنوبر الماثلة للعيان كمآذن التقوى، حييت مَن لا يُجيب على التحية. لا ضرر" فالسلام لله عندما ترفضه الأحياء وتتكبر مجبولة بالظرف أو مشحونة بالعقد. ثم أن الشبح هو على حال لا تتغير" إما يكون متجهماً، أو يكون ساخراً، أو لا يكون. - الرصاصة التي قتلت "غصون" ما زالت في صدرها. حاول ألا تستكين! هددني بلباقة لا تنفع" لا تزيد الإرادة الهائجة في صدري بالخروج من دوائر الذكرى والموت المطبقة على أنفاسي كقدر خطَّه السلطان بجور وظلم، ولا تلطف قناعتي بصواب الحسم كيفما المردود جاء. استلقى الشبح على صدره فوق العشب الرطب الذي حماه فيء شجرة الصنوبر من الاحتراق بأشعة الشمس. غرس كوعه في الأرض بثبات وحنى ساعده بزاوية ضيقة، ورمقني. ذراعه ثقيل كرمال البحر المبللة، وسمين كبطن الخيل، ومشدود كحبال المراكب العملاقة" فمن يستطيع أن يثنيه؟ وكيف أثنيه أنا الخارج للتو من عزلة خانقة على هامش ضيق من مجريات الحياة؟ وكيف أثنيه أنا الممزق كعش الفأر ما بين التمسك بالذكرى المفرغة من الأمل، ومن الحلم، وحتى من الوهم، وما بين الوقوف اليومي على حقائق الرصاصة التي انتزعت "غصون" من الحياة" من حياتي أنا وأطفأت المصابيح على الدروب؟ كان لا بد من الامتثال. لم آتِ إلى هنا من أجل أن أعود إلى دوائر العزلة والانطواء على الذات المتطلعة بسذاجة جمة إلى إعادة بعث الحياة وتقليد الأبدية لأشياء مرغوبة تسكن في الوجدان وحسب. فعندما خطوت على طريق المحاولة للي ذراع مهيب، حملت معي كل الأماني بأن أنتقل من عالم إلى عالم وفي شكل نهائي" فإما لا أعود أبداً، وإما أعود منعتقاً من زوايا الرصد المتواصل للحظة الوداع القسري. إما أخرج من هامش الحياة إلى فضاء الله، وإما أخرج منه إلى فضاء الحرية الخالصة من قيود الذكرى والمنبر الاجتماعي وإرادة الفعل. الجمود هو شيء لعمري، يُفسد العيش وملذات الروح وتطلعات النفس. استلقيت قبالة الشبح المحقون بالتحدي والجبروت والثقة بعضلات الساعد والنفس. ثبتُّ كوعي بالأرض على نحو ما فعل هو تقريباً، على مقربة منه، وحنيت الذراع. شبكت كفي بكفه فأحسست حرارة اللقاء القديم معها على الرابية المطلة بفوقية وسمو على منابع الشقاء والكدر والخشية والغدر المورث من جد إلى جد، ومن سلطان إلى سلطان، ومن زمان إلى زمان، ومن أنانية إلى أنانية، ومن يوم إلى يوم. شددت كفي على كفه، فأحسست أنني أقبض على رأس الحيوان الذي جمد حركتي وعقلي وعواطفي في جانب ميت من وقائع الحياة والأحياء. وشعرت أن قيم القبيلة تتجمع وتتكاتف على أمري، وتدفعني معصوب العينين إلى الانتقام الشرس من أعباء بدائية حملتني إياها تقاليد ثقيلة الفهم من الحس السليم، وحدث مفاجئ، واعتزاز بالنفس مبالغ، وانطواء مستسلم على النفس التواقة إلى التفرد مع قيم البقاء في تلك الساعة التي شهدت غياب "غصون" الأبدي من دلائل نهاري ومحتواه. ضغط الشبح على يدي وسحبني من فضاء الخيال المنهزم من الواقع، ومرغ أنفي بالتحدي الماثل. حقنت دمائي وقوتي في ساعدي وحاولت أن ألوي ذراعه. لكن عبثاً. ذراعه خازوق معدن ثخين مثبت في الأرض كجذور شجرة الصنوبر التي تفرد أبعادها فوقنا. دفعت ساعده إلى اليسار، فبدا لي أنني أدفع صنماً عظيماً من معتقدات دينية قديمة. - الرصاصة التي قتلت "غصون" ما زالت في جسدها. حاول أن تحتج. قال لي فاتضح من نبرته الهادئة وأنفاسه الرتيبة أنه لا يبذل جهداً كي يقاوم حماستي للي ذراعه. كما أنه لم يأتِ بفعل ما للي ذراعي. إنه يمنحني الفرصة وحسب. أنه متجمد في عراء الوجد المتجمد في تطلعاتي ليس إلا. شعرت بالعجز المخيب للطموح، وكدت أن أسلّم به وله وأرجع إلى تلك الزاوية الضيقة من تغليف حقائق الحياة بدقائق الوقوف على الأطلال المكتنزة زخماً من الصمت الذي يشهد على نهاية محزنة. فجأة نهضت "غصون" من مدفن الذكريات، باسمة بحياد. تأملتني عن بعد فكأنها لا تعرفني. لديها بعض الحق. غيرتني خمس سنوات من التواصل مع عوالمي المرسومة على أوراق الحيرة والتردد والانزواء. كثرت السنوات في ملامحي وصرت شبيهاً بالفالتين من حدود العمر المحتمل. الخيبة التي أورثها لي الرحيل المفاجئ لشخص يحمل أحلامي ومنابع السرور فتكت بمظاهر التسلط على المصير. كانت أقداري بيدي، وصرتُ بيد الأقدار التي تتهافت على مسالكي وفي ممراتي. شبكت كفي بكفه من جديد. ثمة عصفور يغرد بين أغصان شجرة الصنوبر نفض شيئاً من بطنه على قبضاتنا. لم يهتم، ولم أكترث. حثثت قواي وآثرت التركيز. صرخت بقوة الألم المتأتي من العجز والرغبة في عمل المستحيل، فاهتز المكان والكيان. حقنت دمائي في وجهي وحبست أنفاسي في صدري وضغطت ذراع الشبح في محاولة مستميتة لليه. بيد أن ذلك لم يؤدِ إلى نتيجة أو حتى إلى زحزحة قد تشجعني على المواصلة. - فكر بطريقة أخرى لفتح الأبواب الموصدة. قالت "غصون" وذابت في الهواء. اعتبرتها تحكي هذياناً لا صلة له بالمعطيات. أمامي مهمة لا تُنجز سوى بطريقة واحدة. ضغطت الساعد الصلب المنازل بقوتي الممكنة وعضضته في آن، فنزفت أسناني وتوجعت، وخدرت عضلاتي، وارتقى الشعور بالفشل إلى أعلى درجات الاعتراف والحكمة. سحبت كفي من قبضته المتينة، ونهضت واقفاً أمام لعنة إبليس المستمرة، ومسحت الخجل المتكاثف في سحنتي. نهض هو أيضاً، وتصنم قبالتي كمعبد قديم يحمل قدسية الماضي وينم عن سخرية الحاضر. حدقت في مقلتيه الهادئتين والمقفرتين كليل الصحراء، وحملق في عينيّ المضطربتين كبحر تحت عاصفة، وتوقف الزمن شاهداً على ما قد يحصل. والزمن في اللحظات الحرجة يقيس تطورات النفس لا حركة الشمس. طال وقوفنا الصامت عن النيات، المتوتر بالغموض والانتظار. ثم، وعلى حين غرة، رأيته يشبك كفيه حول رأسي من الخلف، ويشدني نحوه بسرعة خاطفة، وينطح وجهي بشدة. سقطت على الأرض مع الدماء الساقطة من أنفي وفمي، وضاعت الرؤية في دوامة الألم. وعندما كان ينقشع دخان الصدمة وتتضح الأشياء أمام ناظري من جديد، أنحنى عليّ، وأنهضني شداً من شعر رأسي. تفقد معالم عنفه البارزة في وجهي بغضب يائس، وقال بمرارة لا يخفيها: - الجندي المحصن بقلة الشرف، الذي غرس رصاصة في جسد "غصون"، ما زال يملك المزيد من الرصاص. حاول أن تجرده منها. ولتعلم، لا يستطيع أحد أن يلوي ذراع الماضي، ولا يُعفى أحد من محاولة لي ذراع المستقبل.