فيما تستخدم مدن كثيرة مياه الصرف بعد معالجتها لري حدائقها، يمارس نحو 800 مليون شخص حول العالم الزراعة الغذائية في أراضي المدن بمياه المجاري غير المعالجة. وتروي المياه المبتذلة 20 مليون هكتار تنتج 10 في المئة من المحصول الغذائي العالمي، وهي تستعمل لري المزروعات في معظم مدن البلدان النامية. فكيف يمكن جعل هذه المياه مأمونة لإنتاج المحاصيل وأقل تلوثاً للبيئة. يسترعي انتباه زائر مدينة حيدر آباد الهندية بساط أخضر من المروج والبساتين ينتشر في الوسط التجاري على جانبي نهر موسى. وما أن يدخل الحقول ويراقب عن كثب المياه التي تروى بها حتى يكتشف أنها سوداء اللون تفوح منها روائح كريهة. فالمياه المبتذلة، أو مياه الصرف، هي المصدر الرئيسي للري في هذه المنطقة، حيث يزرع نوع من العشب يسمى باراغراس، يبيعه المزارعون بسعر جيد لمربي الجواميس في المدينة، الذين بدورهم يبيعون منتجاتهم من حليب وألبان إلى السكان. استعمال المياه المبتذلة في الزراعة تقليد مارسته الأجيال منذ القدم. ويزداد الاهتمام به مع شح الموارد المائية العذبة وتضخم الطلب عليها، خصوصاً في المناطق القاحلة وشبه القاحلة. ويشكل سكان المدن نحو نصف مجموع سكان العالم الذي تجاوز ستة بلايين، ويزداد عددهم بنسبة اثنين في المئة سنوياً. ومع تزايد كميات المياه المبتذلة المرافق للتوسع المُدُني السريع ونزوح سكان الأرياف، تروج حالياً مشاريع استخدامها في الزراعة داخل المدن وحولها، كبديل خفيض الكلفة لمياه الري التقليدية. المتعارف عليه عموماً أن المياه المبتذلة المدينية هي مياه الصرف الصحي. وتتألف هذه من "مياه سوداء" تحوي البراز والبول ووحولهما، و"مياه رمادية" من المغاسل وأحواض الاستحمام، ونفايات سائلة من المؤسسات والمصانع، ومياه الأمطار والمجاري المائية. المياه المبتذلة التي تستعمل في الزراعة تكون إما في حالتها الأصلية أو معالجة. والمياه المبتذلة غير المعالجة تروى بها المزروعات في كثير من البلدان النامية كمصدر مائي وحيد يمكن الاعتماد عليه. لكن لهذا الاستعمال مخاطره. فإضافة إلى لونها المنفر ورائحتها الكريهة، تحتوي هذه المياه على أنواع كثيرة من ناقلات الأمراض، كالبكتيريا والفيروسات والطفيليات والديدان، والمعادن الثقيلة والمركبات العضوية الخطرة. وفي بعض البلدان، حيث تسمح الأوضاع الاقتصادية، شرعت قوانين تنظم استعمال المياه المبتذلة المنزلية. فأصبحت تخضع لمعالجة ثانوية المستوى وأحياناً ثالثية، قبل أن تروى بها المزروعات أو الحدائق العامة. وتفرض قيود على أنواع المحاصيل المسموح أن تروى بها، وتحدد أساليب الري الواجب اتباعها. فالخضر التي تؤكل نيئة، مثلاً، تطبق عليها شروط أكثر صرامة. والمعالجة الثانوية هي عمليات ميكانيكية أو بيولوجية تزود من خلالها البكتيريا الموجودة في المياه المبتذلة بالأوكسيجين الذي يمكنها من التكاثر والتهام المحتويات العضوية. وأثناء المعالجة الثالثية، تزال عملياً جميع المواد الجامدة والعضوية. أما في البلدان الفقيرة، فقوانين تصريف المياه المبتذلة غير موجودة أو لا تطبق، وهذا يشجع على استعمالها في ري المزروعات من دون أي مراقبة، مما يسبب مشكلات بيئية وصحية لا يستهان بها. وفي عام 1989، وضعت منظمة الصحة العالمية خطوطاً توجيهية تتعلق بالحد الأقصى لعدد البكتيريا وبيوض الديدان الطفيلية المسموح بوجودها في المياه المبتذلة المستعملة في الري، بهدف حماية المزارعين والمستهلكين. وبموجبها، مثلاً، يجب ألا يزيد عدد بيوض الديدان الخيطية المعوية على واحدة في الليتر، وعدد البكتيريا القولونية البرازية على 1000 في كل 100 ملليتر أثناء فترة الري. لكن هذه الخطوط التوجيهية لا تطبق بفاعلية في البلدان النامية بسبب ارتفاع كلفة مرافق المعالجة. وتوفر زراعة المحاصيل الغذائية في أراضي المدن فرص عمل للمزارعين ومصدراً غذائياً للعائلات الفقيرة. ففي المدن طلب متزايد على المحاصيل والمنتجات الحيوانية، ويسهل إيصالها إلى الأسواق، كما تتوافر موارد "خفيّة" مثل الأراضي غير المستغلّة والعمالة الرخيصة. ويستخدم المزارعون المياه المبتذلة غير المعالجة لري تشكيلة كبيرة من المحاصيل والأعلاف وتربية حيوانات مثل الأرانب والمواشي والأسماك. وتستخدم المياه المبتذلة في الزراعة المدينية بثلاثة أشكال: استعمال مباشر من دون معالجة، واستعمال غير مباشر من دون معالجة أيضاً حيث تسحب من نهر أو مجرى شديد التلوث يمر عبر مناطق مدينية، واستعمال مباشر بعد المعالجة. زراعة النفايات في الهند يزيد عدد سكان الهند حالياً على بليون نسمة، ويشكل سكان المدن نحو 37 في المئة من المجموع. وفي المناطق التي تعاني من شح، يعتبر استعمال المياه المبتذلة الخيار الأوحد للمزارعين، لأنها المصدر الدائم الوحيد للمياه في جوار المدن. ولها أيضاً أفضلية على المياه العذبة لأنها تحتوي على مغذيات. والري بالمياه المبتذلة مقبول اجتماعياً ومجد اقتصادياً وسهل تقنياً. حيدر آباد وسكوندر آباد مدينتان توأمان في الهند، تمتدان على رقعة من الأرض مساحتها 500 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانهما ستة ملايين نسمة. ومياه المجاري الناتجة عنهما تصب مباشرة في نهر موسى، الذي بات بؤرة تجرى فيها مياه سوداء وتنبعث منها رائحة كريهة. ويستعمل المزارعون هذه المياه لري المحاصيل على ضفتي النهر، في المدينتين وضواحيهما والمناطق الريفية التي يمر فيها النهر. وفي حيدر آباد يستغل المزارعون غير الملاّكين أراضي عائدة للدولة على الضفاف. والمحصول الاقتصادي الرئيسي الذي يجنونه هو عشب الباراغراس الذي يباع إلى مربي الجواميس الحلوبة في المدينة. وفي مطلع التسعينات كان الرز يزرع على ضفتي النهر الذي كان أقل تلوثاً. وعندما ازداد التلوث وانخفض محصول الرز انتقل المزارعون إلى الباراغراس الذي ينمو ويزدهر حين يروى بمياه الصرف. وفي العام 2002، كان 80 في المئة من الأراضي المروية بالمياه المبتذلة يستغلّ لإنتاج هذا العشب، في مقابل 20 في المئة لانتاج الخضر والفواكه. وعلى بعد نحو 10 كيلومترات من المدينة أقيم سد احتجز مياه النهر، حيث يحوّل معظم المياه المبتذلة إلى الأراضي التي يزرع فيها العشب. والمياه هنا أصبحت سوداء اللون لا تعيش فيها الأسماك لشدة تلوثها، وتعبق في الأجواء رائحة كريهة. لكن في منطقة ريفية تبعد عن حيدر آباد حوالى 60 كيلومتراً، أصبحت مياه نهر موسى التي تفيض عن السد نظيفة نسبياً بفعل عوامل التنقية الطبيعية، من شمس ورياح ونباتات وكائنات دقيقة. ويزرع القرويون في هذه المنطقة ثلاثة محاصيل من الرز كل سنة. وتمتد على ضفتي النهر، في المدينة وضواحيها والأرياف، نحو 40 ألف هكتار من الأراضي التي ترويها المياه المبتذلة، ويعتمد نحو 40 ألف شخص على مدخول الباراغراس الذي تنتجه هذه المروج. ويختلف الوضع في مدينة كالكوتا شرق الهند التي يسكنها 13 مليون نسمة، حيث تستخدم النفايات والمياه المبتذلة في إنتاج المحاصيل. هنا تمارس زراعة مكبات النفايات منذ زمن بعيد، حتى باتت مصدراً رئيسياً لإمداد سكان المدينة بالخضر الطازجة والمنتجات الزراعية الأخرى. وتؤمن هذه الزراعة العمل لكثير من المزارعين الفقراء، بمن فيهم النساء. وأراضي المنطقة القريبة من المدينة والتي تبلغ مساحتها 3500 هكتار تضم خليطاً مذهلاً من الأنشطة، من برك لتربية الأسماك المأكولة والزينية التي تتغذى على المياه المبتذلة بعد تنقيتها جزئياً بفعل العوامل الطبيعية، إلى مزارع إنتاج الخضر والأزهار وتربية الأرانب. ويعمل نحو 600 ألف شخص في أنشطة لها علاقة بزراعة النفايات في المدينة، معرضين أنفسهم لأمراض متنوعة بسبب احتكاكهم بالمياه المبتذلة والأوضاع المعيشية السيئة. أمثلة من العالم في معظم مدن وبلدات باكستان حيث تتوافر شبكات الصرف الصحي، تستعمل المياه المبتذلة مباشرة في ري المزروعات، على رغم أن الفقهاء المسلمين في البلاد سمحوا فقط باستعمال المياه المبتذلة المعالجة في الزراعة. والمحاصيل الأكثر انتشاراً هي الخضر والحبوب والعلف والأسماك. ويشتري نصف المزارعين المياه المبتذلة من البلديات، وهم يقبلون على استعمالها لأنها غنية بالمغذيات، وكثيراً ما تكون أقل ملوحة من المياه الجوفية المتوافرة، كما أنهم يحققون دخلاً أعلى باستعمالها. وأظهرت أبحاث أجريت في بلدة هارون آباد انتشاراً واسعاً لأمراض الإسهال وعدوى دودة الأنسيلوستوما بين المزارعين والعمال في الحقول التي تروى بمياه مبتذلة. ومن المفارقات أنه لم يعثر على بيوض ديدان معوية في المياه التي غسلت بها الخضر المزروعة في هذه الحقول. أما في السنغال، فالمصدران الرئيسيان لري المزروعات المدينية هما الآبار الضحلة المحفورة يدوياً والتي تحتوي على نسبة عالية من الملوحة، والمياه المبتذلة غير المعالجة. وتنتج العاصمة دكار يومياً نحو 180 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة المنزلية، يذهب 40 في المئة منها إلى شبكة الصرف، لكن لا يعالج إلا ستة في المئة من المجموع. ويمزج المزارعون المياه المبتذلة مع مياه الآبار المالحة ويروون بها المزروعات، فيجنون محاصيل أوفر، على رغم الحظر المفروض على استعمال مياه الصرف غير المعالجة. وتروي المياه المبتذلة نصف مليون هكتار في المكسيك. وينص قانون صدر عام 1996 على أن الأعلاف والحبوب والفواكه والخضر والأعشاب يمكن أن تروى بمياه مبتذلة شرط ألا تستهلك نيئة. ومع ذلك تروى بها مزروعات تؤكل نيئة مثل الفول السوداني الفستق والبصل والثوم. وتشكل الفصة المحصول الرئيسي وتستهلك 70 في المئة من المياه المبتذلة المعالجة، التي تروى بها أيضاً الفليفلة الحارة تشيلي كمحصول مربح. المنطقة العربية في الأردن، يشترط أن تكون المياه المبتذلة معالجة قبل استعمالها في الزراعة. وشكلت 12 في المئة من موارد الري عام 1998، ووضعت الحكومة مقاييس لها. ويشجع الري بالمياه الرمادية المعالجة في الأرياف كوسيلة للتخفيف من وطأة الفقر في المدن. وفي الأراضي الفلسطينية، تستعمل المياه المبتذلة في الزراعة تقليدياً. والاتجاه الحالي هو استعمالها بعد معالجتها. وأظهرت تحاليل مخبرية حديثة سلامة محاصيل مثل التفاح والعنب والخوخ والباذنجان والفليفلة، تروى بمياه مبتذلة عولجت على المستوى الثانوي من أجل الاستهلاك الآدمي. وأفادت إحدى الدراسات أن المزارعين على استعداد لكي يدفعوا 24,0 دولار مقابل كل متر مكعب من مياه الصرف المعالجة، وأن 67 في المئة من المستهلكين لا يمانعون استهلاك محاصيل تروى بها. ويشجَّع على معالجة المياه الرمادية وإعادة استعمالها. وفي لبنان، أفيد أن مزارعين في بعض المناطق يروون بمياه مجارير غير معالجة. وينفذ منذ منتصف 2002 مشروع بحثي حول معالجة المياه الرمادية وإعادة استعمالها. وفي المملكة العربية السعودية، لا يوجد مانع من الناحية الشرعية يحول دون استعمال المياه المبتذلة، ما دامت تعالج على المستوى الثالثي الأعلى ولا تمثل خطراً على الصحة. وأصدر مجلس كبار العلماء المسلمين فتوى خاصة في هذا الشأن عام 1978. والمياه المبتذلة التي تعالج وفق مقاييس منظمة الصحة العالمية التي صدرت عام 1989 يسمح باستعمالها في ري الأشجار المثمرة والمراعي والنباتات العلفية. ويروى 1700 هكتار من الأراضي الزراعية في الكويت بمياه مبتذلة معالجة، تمشياً مع مقاييس منظمة الصحة العالمية. ومن المحاصيل التي تروى بها البصل والثوم والباذنجان والفليفلة والأعلاف. وفي الامارات العربية المتحدة، تعالج جميع المياه المبتذلة حتى المستوى الثانوي، ومن ثم تستعمل لري الأشجار بواسطة أنظمة التنقيط. وتنتج تونس سنوياً حوالى 150 مليون متر مكعب من المياه المبتذلة، 88 في المئة منها من مصادر منزلية. وتروي هذه المياه 6500 هكتار من الأراضي الزراعية، أي نحو 2 في المئة من مجموع الأراضي المروية. وتمارس هذه الطريقة منذ ستينات القرن الماضي، لكن منذ دعمت الحكومة سعر المياه العذبة، فضل المزارعون استعمالها لإنتاج المحاصيل بدلاً من المياه المبتذلة المعالجة التي تحتوي على نسبة عالية من الملوحة. وبالمقارنة، تأتي اسرائيل في الطليعة لجهة استعمال المياه المبتذلة، التي يخطط لها أن تلبي 70 في المئة من مجمل الطلب الزراعي على المياه سنة 2040. تدابير السلامة استعمال المياه المبتذلة في الزراعة تقليد يمارس على نطاق واسع حول العالم في المدن والأراضي القريبة منها، لما تحتويه من عناصر مغذية تزيد غلة المحاصيل وتقلل الحاجة اإلى الأسمدة والمياه العذبة. لكن ما مدى سلامة استعمال هذه المياه وما درجة المعالجة التي تحتاج إليها؟ الخيار المثالي هو توفير معالجة للمياه المبتذلة على المستوى الثانوي، وهذا ما لا طاقة لمعظم البلدان النامية على تحمل تكاليفه. لكن من المهم وضع وتطبيق قوانين تضمن الإشراف على استعمال المياه المبتذلة واعتماد طرق معالجة مناسبة قليلة الكلفة. وهناك أيضاً حاجة إلى حماية المزارعين والمستهلكين من الأمراض التي تنقلها هذه المياه. الخطوة الأولى في هذا السياق هي إجراء تقويم عملي في كل بلد. وهذا يعني، مثلاً، تحديد نظام الري الأكثر فاعلية، وأصناف المحاصيل الأنسب للري بالمياه المبتذلة وتلك التي ينبغي اجتنابها. هذا التقويم ينتج أفكاراً ومفاهيم تساعد صانعي السياسة والمخططين على اتخاذ قرارات صائبة مبنية على واقع استعمال المياه المبتذلة، مما يتيح توازناً بين حاجات المزارعين الصغار ونظافة البيئة وصحة المستهلكين. * ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد آذار مارس 2003.