يُطالعنا إبراهيم أصلان - على غير عادته - بمجموعتين قصصيتين، مختلفتي الصنع والمذاق. ففيما تبدو "حكايات من فضل الله عثمان" مدرجة ضمن الأسلوب القصصي الذي تميز به الكاتب منذ "بحيرة المساء" 1971، فإن "خُلوة الغلبان" تنفلت من خانة القصة المعهودة لتنتمي الى اليوميات القصصية أو الى المحكيات التي تُوظف أحداثاً ومواقف عاشها الكاتب ويُحيل على مرجعيتها في ثنايا الحكي. "حكايات من فضل الله عثمان" معظم قصص هذه المجموعة مسرود بضمير الغائب، إلا أن القصص الثماني التي تعتمد ضمير المتكلم، تأتي كأنها تتخذ قليلاً من تلك المسافة التي تجعل السرد يأخذ طابعاً "موضوعياً" مزعوماً تنقله عين محايدة. ويوحي العنوان بوجود فضاء مشترك يشمل قصص المجموعة هو فضاء شارع فضل الله عثمان الذي قد يكون مرتبطاً بحياة الكاتب. نُدرك، إذاً، أن الكاتب يريد أن يُنبّهنا الى أن لهذه القصص خيطاً يربطها، على رغم أنها تلتقط مشاهد وشخوصاً ومواقف وأحداثاً متباينة. وبالفعل، فإن اختلاف القصص لا يمحو السمات المشتركة لهذا الفضاء المطبوع بأجواء الحياة العادية عند فئات شعبية تُعاني من الفقر والمرض ووضاعة السُّكنى. لكن حياة هذا الشارع الشعبي تضجُّ بالمفارقات والتناقضات والمشاعر والكلام المعبِّر. ذلك أن الفقر وشروط الحياة المتردية في هذا الشارع، لا تُلغي غِنى التربة التي يعيشون فوقها تجربة حياتهم المملوءة بالمفاجآت والرتابة والعنف. تعج فضاءات شارع فضل الله عثمان بفوضى الحياة وتجاور الأشياء المتنافرة، وصخب الكلام المتناسل... من ثمّ، فإن النفاذ الى ما وراء تلك الفوضى والضوضاء، يحتاج الى كُوىً يتسرَّب منها القاص لتلتقط عيناه مشاهد دالة وتصف تفاصيل موحية وتنقل حوارات كاشفة. وهذا ما يفعله أصلان في احتراس وكتمان، مراوحاً بين السرد "الموضوعي" والسرد المشَخْصَن، الحامل لرؤية واعية تُبدِّد حيادية الوقائع التي تُفرزها فوضى الحياة وتشابكاتها داخل الحي الشعبي. بعبارة ثانية، نجد النصوص تتراوح بين منحيين: - منحى يبرز الطابع الجماعي للحياة في الشارع الكبير حيث الناس يتعارفون ويتواصلون في يسر وتلقائية: فقصة "سبيل للصغار" تجعل موت طفل حدثاً مشتركاً بين مجموعه سكان الحي، كما أن عيادة المريض واجب "قطرات من الليمون"، وعلى الأخ أن يتولى تدبير مصير قَدَم أخيه "طرف من خبر العائلة"... - ومنحى يفسح المجال أمام الصوت الفردي الذي، على رغم انتمائه الى الشارع - الفضاء الجماعي - يستشعر القلق الخاص والاستيهامات والرغائب المتفرِّدة ، على نحو ما نجد في قصص "السوق"، "صمت"، "هروب"، "شغف"، "شتاء"، "المستحمَّة". ويبدو لي أن قصص المجموعة ترتكز على ثلاث ثيمات أساسية تتوزع على اللحظات الآتية: أ - لحظة القهر المتولّد عن عنف تمارسه المؤسسات المجتمعية، مثلما نجد في "خبر من طرف العائلة" إذ يكتشف السارد أن الموت هو موت بالتقسيط وأن الجسد يجزّأ عند دفنه مثلما يجزأ ويُبعثر أثناء حياته. وكذلك قصة "مشهد جانبي" التي يحس فيها الزوج أن الشغل يضاعف شقاءه ويقتل حب الحياة في نفسه. وفي قصة "صمت" يتفجر العنف داخل مخيلة السارد الذي تختزن ذاكرته الكثير من مشاهد العنف فتجعله يتخيل نفسه قاتلاً لأحد جيرانه... وقصص هذه اللحظة تتباعد عن "الإطار الواقعي" لتلامس الشكل الفانتستيكي. ب - لحظة الموت من خلال قصتي "سبيل للصغار" و"قطرات من الليمون"، وهي لحظة كاشفة لتلك العلاقة المعقدة مع الموت، فالسارد لا يخفي الضيق الذي أحسه عندما أخبرته زوجته بموت الطفل أحمد، وكذلك في "قطرات من الليمون" يُفاجأ بموت المريض الذي زاره قبل قليل، فيتلكأ لئلا يذهب الى العزاء والدفن... إن الموت، في تجليات متعددة، يُخيم على ساكنة هذا الحي. ج - لحظة الإيروسية المحفوفة بطقوس وتذكُّرات تُضفي على قصتي "شتاء" و"المستحمة"، تضاريس لا تُنسى... وأي إيروسية أقوى من تلك التي تُجسدها إمرأة متدثرة في ملاءة حريرية تقتحم، وهي مشبوبة في حالة اشتهاء، دكان الفحام وتقترب منه عارية لتوقظ جسده الواهن عبر حركات، وملاطفات يسيل لها اللعاب؟ ثم صورة تلك المستحمة التي اختزنتها ذاكرة السارد عندما كان طفلاً، فظل عالقاً بذهنه عُريّ جميل ومسحة ثدي وبُخار؟ من خلال هذه اللحظات الثلاث، تشتغل ذاكرة الكاتب من وراء حجاب، أي من خلال شكل قصصي يتوسل بالتخييل ليُسبغ طابعاً "موضوعياً" على حكايات منحدرة من ذاكرة استوطنت شارع فضل الله عثمان، واختزنت تجليات الحياة في فضاءاته المتنوعة. ويلجأ أصلان إلى أدوات وعناصر فنية تُسعفه على الانتقال بمخزون الذاكرة الى مستوى التعبير الطافح بالإيحاءات واللقطات الناطقة. إنه يعتمد على عين تلتقط أبسط التفاصيل وعلى لغة مقطرة، متواشجة مع أجواء الناس وكلامهم. وفي بعض النصوص، ترتقي اللغة الى كثافة شعرية لافتة "صمت"، "شجرة"، "ليل"...، وكل ذلك يندرج في فضاء واسع هو فضاء شارع فضل الله عثمان الذي يتراءى عبر مشاهد وأزمنة مُتداخلة، لا تكاد تُحيلنا على تاريخ محدد. إن هذا الاختيار في الكتابة يكشف استراتيجية الصوغ الفني عند إبراهيم أصلان، وهي استراتيجية ترمي الى إدراج حكاياته ضمن زمنية تعلو على الوقت المحسوب بالأيام والسنوات... ومن هذا الترابط بين الذاكرة والديمومة والتخييل ينبثق شكل هذه القصص التي لا تتقيد بأنموذج ثابت، بل تتراوح بين نص ذي حبكة ونص شذري مكتوب وكأنه جملة واحدة قصة "صمت". كأن أصلان يُعيد رسم حروفه وكلماته على طِرْس ذاكرته المحفور في فضاءات ومشاهد تتمرَّد على جاهزية الشكل وعلى سكونية الماضي. خلوة الغلبان تأخذ هذه النصوص شكل يوميات مُبوَّرة، أي أنها تُركّز على حدث أو شخص أو لحظة لها دلالتها لتعزلها عن السياق اليومي... هناك إحالات. وإشارات زمنية، وأسماء أعلام معروفة كانت مشاركة في الوقائع والطرائق والمواقف المسرودة. ويستعيد الكاتب من خلال مشاركته في ما يرويه، من ثمّ فإن هذه النصوص هي أقرب الى المحكيات بالمعنى الذي يُخصّصه النقاد الفرنسيون لهذا الجنس التعبير rژcit، والذي يفترض حضور الكاتب أو مشاركته في الأحداث المسرودة من دون أن يفترض ذلك مطابقة بين المعيش والمحكي. لذلك فإن كاتب المحكيات، مهما حرص على التقيُّد بالوقائع، هو لا ينجو من تدخل المخيلة بل ومن اللجوء الى التخييل الذي يفرض نفسه بدءاً من اللغة والشكل ووصولاً الى السخرية وتأويل ما حدث... وأظن أن قراءة هذه النصوص يجب أن تبدأ من نص "جاك حسون وخلوة الغلبان" لأن الحادثة التي يحكيها أصلان لفتت نظره الى وجود اسم مكان يُلخص حالة نفسية - روحية تتمثل في ذلك الشعور الذي يستبطنه كل مَن يلاحظ أواليات تزييف الحقيقة، ويُعاين القهر الحائل بينه وبين فضح الادعاء والتظاهر والظلم والقيم المغشوشة... لا يستطيع الغلبان المغلوب على أمره أن يفعل ذلك في حينه، فيظل يجترُّه بينه وبين نفسه في خلوته، وإذا كان كاتباً فسيجد له فسحة تُعبّر عن ذلك الغّلّ المكتوم، لتمتدَّ جسوراً بينه وبين الغلابة المحتمين بخلواتهم يقرأون أو يكتبون. واللقاء مع جاك حسون، المصري اليهودي، عالم النفس الذي هاجر الى فرنسا في أربعينات القرن الماضي، هو الذي فجَّر شبكة دلالية تتقاطع مع لحظات بقية النصوص. وأنا أُثمِّن شجاعة أصلان لأنه أوضح ذلك الخوف الذي استولى عليه عندما أخبره حسُّون بأنه يهودي، فراح يخبر زملاءه حتى لا يتهموه بأنه "يُطبِّع" العلاقة مع يهودي! ذلك الخوف الذي يجعل معظم المثقفين المصريين يضعون جميع اليهود بمن فيهم التقدميون المناصرون للقضية الفلسطينية، في سلة واحدة. وأعتقد أن جاك حسون، الذي تعرفت عليه وقرأت له وعاشرته في مناسبات علمية وفي سهرات أصدقاء مشتركين، يُمثّل بقوة حال الغلبان الذي وجد نفسه مفصولاً عن مسقط رأسه بسبب إسرائيل، كما يقول. لقد ظل ينطوي على جرح عميق على رغم أنه حقق مكاسب علمية وأدبية في فرنسا وأصبح أحد أعلام التحليل النفساني المشهود لهم. لكن فراق مصر طوال أربعين سنة، جعله يشعر بالغُبن والقهر ويعيش مشدوداً الى ذاكرته الطفولية التي كوّنت وجدانه وانتماءه الى "خلوة الغلبان" بالقرب من مدينة المنصورة. ولعل الصديق أصلان لا يعرف أن حسون أوصى قبل وفاته، بأن تكون مراسم الدفن متدثرة بالفرح والابتهاج والموسيقى، فاستمع وهو داخل النعش، كما استمع مشيعوه، الى مقطوعات غنائية عربية ومصرية، والى حركات سيمفونية والى نصوص شعرية وفكرية... كانت لحظة فرح ينتقم فيها الغلبان من سطوة الدنيا وألاعيب السياسة التي حرمته من البقاء في وطنه! على المستوى الفني، ما يلفت النظر في هذه النصوص هو أنها تصطنع شكل القصة وتتميز بمعظم خصائص الكتابة عند أصلان: الاقتصاد في التعبير، الرصد البصري المدعم للتذكر، السخرية وخفة الدم المرافقتان له في محكياته الشفوية خلال مسامرة الأصدقاء. كل نص من هذه اليوميات - القصص، هو بمثابة خطيفة لحظية يختطفها أصلان من مخزون ذاكرته. وعلى رغم المرجعية المحددة لكل حدث مسرود، فإن النص يكتسب، بعد القراءة، صفة أخرى لأنه، وهو يكشف لنا قسطاً من محتويات ذاكرته، يعمد الى تحويل نظرتنا عن الذين يحكي عنهم الناقد الصديق، الكاتب السمسار، العضو المنتسب... فيجعلنا ندرك عبر تفاصيل محكياته، أن ما كان يبدو عادياً هو في حقيقة الأمر مختلف. هكذا تتلاشى "مرجعية" اليوميات لتعوِّضها علاقة الاستكشاف والتحويل التي تخلَّقت من كتابة التخييل. نحس - بعد القراءة - أن "خلوة الغلبان" تحوَّلت الى استعارة تلامس وتحتضن هذه الكتابة المتلمسة لمسالك تقول ما لا يقال في زحمة الكلام الجاهز وطغيان صلافة "اللي ما بيختشوش" الذين يحترفون الفهلوة والتعالم... كأنما تتحول "خلوة الغلبان" من مكان معين الى فضاء يعادل الكتابة النابعة من الأعماق والتي تظل دوماً محشورة في خانة اليُتم والغربة. وفي النص الجميل "أنت... يا مَنْ هناك"، ينبثق صوت القاص "الغلبان" محمد حافظ رجب، من خلال رسالة كتبها سنة 1969 الى اصلان، قبل موته وفيها يسأله: "كيف تلعب لعبة الاستمرار؟... هل تلعب لعبة الكتابة؟...". وفي محاولة للرد على هذا السؤال، يكتب أصلان بأن "نجاته" = استمراره؟ تكمن في كونه ابناً شرعياً ل"القاهرة"، وأنه لم يتوقع منها شيئاً مثلما كان يتوقع الوافدون عليها، وبذلك فوّت عليها وعلى نفسه مشاعر الخيبة والمرارة... مع ذلك، يظل سؤال حافظ رجب أساسياً وراهنياً: كيف نستمر الآن، وليس في سنة 1969، سواء انتمينا الى القاهرة أو الى أي مدينة عربية أخرى، في تحمّل زمن التدهور العربي غير المسبوق؟ لعلها لعبة الكتابة إذاً، أو خلوة الغلبان التي تُسعفنا على الاستمرار في حياة البؤس والعجز، ونحن نتسوَّل على بوابة الكلمات أحرفاً تُبدِّد بعضاً من هذا الظلام البهيم. إن المواد الأولية لنصوص "خلوة الغلبان" مستقاة من أحداث ومواقف وعلائق عاشها أصلان، لكن الأحداث والوقائع هي - كما تقول فرجينيا وولف - شكل جدّ مُتدنٍّ من التخييل، من ثم تتجلى موهبة أصلان واضحة في قدرته على الارتقاء بتلك اللحظات الذاكرتية الى مستوى التخييل الفني الذي يوظف السرد والوصف والحوار والسخرية والتكثيف والحذف والاضافة... وهذا ما يجعلنا نستشعر - بعد القراءة - كأن هناك خيطاً ينظم تلك اللحظات المتباينة في الزمن والفضاء. ما أحسسته، هو أن ما نعيشه في خضم السرعة والتلاحق يغدو، عندما نُدقق النظر في تفاصيله وسياقاته، مغايراً لما يشاع عنه، أو يُراد له أن يختزل الأحداث والسلوكات المعقدة. إن "حقيقة" الأشياء والناس والتصرفات هي على غير ما يتوهمه الكثيرون، لأنها أبعد ما تكون عن التفسير الحدِّي المحصور بين أبيض أو أسود. والكتابة، بما هي فِعْل استرجاع وتخييل واستبطان، تعطينا مسافة كافية لتبين ألوان الطيف التي تلف ما نحياه، بغض النظر عن انتمائه الى فوضى الحياة أو إلى متاهات الذاكرة. على هذا النحو، يبدو إبراهيم أصلان في رحلته من التخييل "الموضوعي" الى تخييل الذات والذاكرة، كاتباً مُرهف الحس، متمكناً من طرائق السرد والحوار، مُتغوراً في ردهات اللغة، متنبهاً الى ما تطفح به الحياة من مفارقات وإضاءات.