السائر في معظم المدن العربية اليوم، الحديثة منها بشكل خاص، تهيمن عليه حال من الغربة، غربة المكان والهوية والنمط المعماري، والسلوك الاجتماعي. فهذه المدن غدت تضاهي كبريات المدن في أوروبا وأميركا، وينظر البعض الى ذلك على أنه تحوّل مادي فقط. والحقيقة ان عولمة المكان التي نعيشها، امتدت الى معظم جزئيات أنساق حياتنا. المبدأ الذي جاءت به العولمة هو توحيد النمط العالمي، ليس اقتصادياً وسياسياً فحسب، بل يمتد الأمر الى الجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية. إن مبادئ ومفاهيم حقوق الانسان، حقوق المرأة، الحرية، الديموقراطية، حين تطرح في وسائل الاعلام، فإنها تطرح غالباً من منطلق المفهوم الغربي. وحين نصل الى نمط الحياة وأسلوب المأكل وشكل الملبس، ونوع المركب، فإننا - ربما من دون وعي - نمارس مظاهر غربية. أحد الاسباب البارزة، اننا مغلوبون اقتصادياً وسياسياً والى حد كبير، مبهورون، وبالتالي مقلدون لحضارة الغالب بحسب رأي ابن خلدون. وبحسب رؤية مالك بن نبي قبل نصف قرن، وهي رؤية أحسب أنها لا تزال نافذة في واقعنا اليوم، فإن العالم الاسلامي لم يحاول ان يوجد له حضارة مستقلة فهو "يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من ان يهدف الى بناء حضارة". هيمنة العولمة المقبلة من الغرب لم يتأت لها ذلك لأنها تملك مقومات قوية في داخلها تؤثر وتقنع الآخرين. المسألة - بايجاز شديد - تكمن في القدرة الاقتصادية بالدرجة الأولى، وهو أمر أكده غورباتشوف حيث قال إنه "من غير الممكن الانضمام العضوي الى الحضارة العالمية من دون أساس اقتصادي وطيد". والوصول الى المجتمعات كافة جاء من هذه المنطلقات الاقتصادية، فمطاعم الهمبورغر، ومنتجات والت دزني تشكل ثقافة اطفال العالم اليوم. اضافة الى وسائل التقنية الاعلامية التي نجحت في صنع "النموذج" الغربي وقدمته للعالم. والعولمة الاعلامية اليوم تنجح كثيراً في تحويل الهامش الى حدث رئيس، والخبر المهم جداً الى عنوان جانبي. حين توجد بعض القوميات التي لا تملك تراثاً غنياً، ورسالة مهمة، فإن عوامل التأثير فيها حتماً ستكون قوية، وبالتالي يسهل الانسياق وراء ثقافة جديدة غازية، لكن حين يتعلق الأمر بأمة ذات حضارة عريقة وتراث مجيد ورسالة عظمى، فإن المرء يصاب بدهشة عظيمة لما يحدث، وما يراه من هرولة نحو الجديد المناهض لمبادئ أساسية. العولمة أمر قائم، والمسألة قد ينظر اليها البعض بوعي أنها أمر فرض نفسه، ومن مصلحتنا التعايش معه. وهنا آخرون يسيرون في الركب ويهرولون نحو التغير من دون وعي بما يجري. وآخرون ينادون بالرفض والتقوقع، غير واعين أنهم قد غدوا في وسط معمعة التحوّل. لكن المتوقع من الفئة المؤثرة في صنع القرار في مستوياته السياسية والاقتصادية والثقافية، ان تعي الواقع وقلقه، والمستقبل وأخطاره، لتحاول حماية الثوابت الأساسية المتعلقة بالدين والقيم. إن إغلاق الباب او النافذة حيث تأتي الريح، أمر لم يعد له مكان بالمنطق المعاصر، فمع إغلاق النافذة الواحدة تنفتح أبواب وأبواب، وإذا كان يمكن السيطرة قبل أعوام على مصادر الفكر غير السوي، فقد اتسع اليوم الخرق على الراقع. ولذا، لا بد من البحث عن وسائل أكثر رسوخاً يمكن معها - بتوفيق الله - ضمان حصانة المجتمع. في مناطق كثيرة من أوروبا وأميركا - بصفتها الدول المصدرة لفكر العولمة الشمولي - توجد أقليات تتسم بتجربة ناجحة الى حد كبير في قدرتها على المحافظة على عقيدتها، وسلوكياتها، وثقافاتها المحلية. وهذا حدث ايضاً مع كثير من الأقليات العرقية، الشرقية منها خصوصاً، التي بدأت منذ عقدين من الزمان تقريباً، وفي أميركا في شكل أكثر تحديداً، تحرص على ابراز هويتها الثقافية باعتبار أصولها الدينية أو العرقية. وهي في خططها المستقبلية تتجه نحو زيادة نسبة المحافظة - ولا أقول الانغلاق - على قيمها. ويأتي هذا إحساساً بضرورة الحد من الهيمنة الفكرية والاجتماعية والثقافية بنموذجها الغربي. في هذا التقارب الكبير بين أجزاء العالم جغرافياً، يمكن القول إن كل بلد من البلاد الإسلامية، والشرقية عموماً نظراً لاختلاف ثقافتها، غدت أقلية في خضم المد الغربي، ولذلك عليها ان تستفيد من تجربة الأقليات الدينية والعرقية داخل المجتمعات الغربية. وبالنسبة إلينا تأتي الجاليات الإسلامية في تلك البلاد، نموذجاً يجدر ان نتوقف أمامه لنستفيد من تجربته. في اطار واقع الجاليات الإسلامية في أميركا، ودور الإسلام في العالم يمكن الاستشهاد بما قاله ساندي بيرغر مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي، في حديثه أمام المؤتمر الثامن للمجلس الأميركي الإسلامي قبل أربعة أعوام: "ان احترام الرئيس كلينتون للدين الإسلامي نابع من استيعابه الأساسي لحقيقتين: الأولى: ان المسلمين يمثلون ربع سكان العالم، ومن البديهي أنكم ]أيها المسلمون[ ستلعبون دوراً مهماً في صوغ العالم في القرن المقبل القرن الحالي. الثانية: ان المسلمين يعيدون صياغة شخصية بلادنا بالذات بسرعة، فالدين الإسلامي هو أسرع الديانات نمواً في الولاياتالمتحدة". كلام كهذا من شخصية كهذه يدخل البهجة في النفس. لكن السؤال الكبير: هل المسلمون فعلاً، سيلعبون دوراً مهماً في صوغ العالم؟ أم ان العالم الغربي هو الذي يعيد صوغ شخصية المسلمين؟ إن أحداث ما بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر تؤكد التصميم الغربي على القيام بهذا الدور، ليس بوسائل سلمية فقط، وإنما قد يصل الى مستوى عسكري كما رأينا في أفغانستان، ونشم رائحته نفاذة اليوم في شرقنا العربي. ويقف المرء متسائلاً عن رد الفعل العربي الإسلامي؟ إن الشجب اللغوي والرفض القولي، والغضب الآني، لن تجدي نفعاً، على رغم ان تلك هي بضاعتنا المحلية الصنع التي نجيدها! وهي محاولة للتنفيس عن شعور صادق. غير انني أتساءل عن رد فعل إيجابي، يحول القول الى عمل جاد مثمر ينفع الناس ويمكث في الأرض. والأجدر والأجدى ان يكون ثمة مشروع عربي وإسلامي واحد وإن تعددت الصيغ. غير ان عالمنا العربي ساكن لا يخطو الى الأمام. ومن المحزن ان تنتقل العدوى من عرب المكان الى عرب المهجر، الذين أمضوا قرناً في مهاجرهم، من دون ان يحققوا وجوداً فاعلاً مؤثراً. أذكر قبل عشرين عاماً، في المؤتمر الأول للجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز ADC في مدينة ديترويت، تحدث السيناتور جيمس أبو رزق مؤسس هذه اللجنة عن الطموحات المستقبلية، وتعرض للصعوبات التي تواجه عمل الجالية العربية، التي تمثل نسيجاً في المجتمع الأميركي. وقبل أشهر يعيد التاريخ نفسه حيث أتيح لي لقاء رئيس اللجنة نفسها الدكتور زياد عسلي في واشنطن، ولعله من الطريف المحزن انني استعدت تقريباً حديث جيمس أبو رزق، فعقدان من الزمن لم يغيرا شيئاً كثيراً. نحتاج الى بلورة صيغة عربية وإسلامية واحدة يمكن ان تعبر الى الآخر بصيغ متعددة. غير ان ذلك يحتاج الى أمرين: 1- ان تتخلى المجتمعات العربية المجزأة عن خصوصيتها الضيقة، وتقبل بالعامل المشترك الأكبر لهذه الأمة. 2- ان تكون الصيغة فكرية وثقافية تنأى عن الهيمنة السياسية الجزئية لكل قطر عربي. لكن السؤال الأكبر: هل نقدم أنفسنا بصورتنا الحاضرة؟ أم بالصورة التي نتمناها وتتحدث عنها مثاليات تراثنا؟ إن الأفعال أقوى صوتاً من الأقوال، ولذا، أعجب من جزعنا وفزعنا من الصور السلبية التي يتم تصويرنا بها في وسائل إعلام ثقافات أخرى! ولو أمعنا النظر، لوجدنا ان واقع الأمة يتسم بسلبية كبرى، وواقع مرير، على مستوى التعليم والثقافة والحرية وأنظمة الحكم. حين نقدم ثقافتنا للآخر فإننا نعرضها بالصورة المثالية التي نتمناها، من دون ربط ذلك بواقع المسلمين اليوم، ولذا يبدو البون شاسعاً بين حديث مثالي وواقع معاش. والآخر يصبح على مستوى من الدراية لواقع العرب والمسلمين اليوم. وإذا كنا نأمل ان يكون لنا دور أكثر ايجابية في العالم، فإننا على قناعة ان الإسلام لا يطرح نفسه بديلاً للعولمة بمفهومها العام، ليس من منطلق تذكر الآية الكريمة "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً" يونس، 99، وقوله تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رَحِمَ ربُك ولذلك خلقهم" هود 118، 119، ولكن لأن الإسلام الذي يطرح نفسه بديلاً فكرياً ونظاماً حياتياً، يترك حيزاً كبيراً لخصوصية المجتمعات من حيث عاداتها وتقاليدها، ونظم حياتها، ما دامت لا تتعارض مع مبادئه الأساسية. فإذا كان الدين شاملاً والرسالة عالمية، فإن الثقافة متعددة داخل الإطار الإسلامي. حتى ان جزءاً من الأحكام الفقهية المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية يحددها العرف والتقاليد. يقول سبحانه تعالى مخاطباً نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". ومن القواعد الفقهية الكبرى "العادة محكّمة". ويثير التساؤل في كثير من المجتمعات الإسلامية، ان الصوت الأقوى في قضايا الأمة الأساسية وهي قضايا تتصل بالعقيدة والهوية، وحقوق الإنسان والمرأة، ونظام الحكم، وسياسات التعليم، وأطروحات الثقافة، يكون لأنصاف المتعلمين، الذين تنقصهم المعرفة الواسعة بما يطرح على الساحات الفكرية، وبواقع المجتمعات المختلفة. غير أنهم يملكون الجرأة على القول ويطرحون في غالب الأحيان ما توده العامة، بصرف النظر ان يكون معتمداً على منهج علمي، وطرح فكري يتخذ من ينابيع الثقافة العربية والإسلامية متكأ أساسياً له. ان الحماسة الدينية وربما الاجتماعية أحياناً، والغيرة على المجتمع المسلم، وحسن النية وصفاء العقيدة، لا تكفي بمفردها لأن يتحوّل هذا النوع من الأشخاص الى منظرين للفكر الإسلامي. ويجدر التذكير انه لا يمكن لأي مجتمع ان يكون ذا حضور ثقافي على مستوى عالمي اذا كان يربط رؤيته الفكرية، والدينية، بواقع مجتمعه المعاش، من دون النظر الى بقية المجتمعات العربية والإسلامية في أصقاع الأرض. أحد المبادئ الأساسية التي اتخذها سلفنا الصالح، تتمثل، في ان كلاً يؤخذ منه ويرد إلا نبي الهدى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وفي هذا فتح لآفاق الحوار مع الذات أولاً عربية وإسلامية، قبل التوجه الى الآخر. إن جزءاً من أزمة واقعنا الثقافي يتمثل في غياب الحوار العلمي، الذي يضمن وصول وجهة النظر، ويرحب بسماع الأخرى. ونجد في كثير من الأحيان حرص كل فئة داخل كل قطر عربي على فرض رؤيتها على بقية افراد المجتمع، فتحدث أفعال وردودها، فينشأ صراع ينعكس سلباً على تحرّك المجتمع الى الأمام. إضافة ان الفرد العربي أصبح يعيش فقدان توازن لواقعه المعاش، نظراً لتقاطع الآراء والأفكار بكثير من الحدة، وكأنه لا توجد سوى صورة واحدة للرأي السليم. * استاذ في كلية الآداب - جامعة الملك سعود. رئيس تحرير مجلة "نوافذ"