الدعوة الى جلسة الاستفكار، او الBrainstorming طلبت من المدعوين اعتبار اقوال المشاركين Off the Record، اي غير قابلة لأن تُذاع وأن تُنسب اليهم. لا بد اذاً من الامتناع عن ذكر الاسماء. والBrainstormind، وهو حرفياً، في الأصل اللغوي: "عصف الادمغة"، اسلوب متبع لمعالجة المواضيع الشائكة او غير المتضحة المعالم. فالهدف المعلن من هذا الاجتماع كان تدارس موضوع "العولمة والاسلام". هدف آخر، دون شك، كان تقديم عرض عام حول الموضوع للشخصية السياسية التي شكلت محور اللقاء، اذ لهذه الشخصية ماض مهم، وطموح بمستقبل اهم يُلزمها الالمام بمجمل المواضيع ذات الاهمية الدولية. ولتوفير اوفى العروض، حضر الاجتماع استاذ جامعي شبه متقاعد يُجمع الرأي الاميركي السائد على اعتباره عميد دراسات الشرق الاوسط في الولاياتالمتحدة وما يتعداها، واستاذ جامعي آخر صاحب نظرية - شعار ذائعة الصيت حول الحضارات وصدامها، بالاضافة الى عدد قليل من الاساتذة الجامعيين المدعوين الى تقديم مداخلات، وقلة اخرى اضافية من الحضور. اربع اسئلة طرحها برنامج الجلسة: هل نحن نشهد اندلاع صراع حضارات بين الاسلام والغرب؟ ما سبب تخلف الدول والمجتمعات الاسلامية عن اللحاق بركاب غيرها بالمعايير كافة؟ ما هي الخطط التي يجب وضعها موضع التنفيذ لردم الهوة بينها وبين سائر العالم؟ ما هي القواسم المشتركة بين الحركات الاصولية من مختلف الاديان؟ المداخلة الاولى قدمها الاستاذ صاحب النظرية - الشعار، معيداً في واقع الأمر تأكيد صحة نظريته في اطار حادثة 11 ايلول سبتمبر وما لحقها. فالعالم الاسلامي، وفق هذه النظرية وعلى لسان صاحبها، ما زال عاجزاً عن استيعاب تراجعه كطليعة حضارية في العالم ازاء تقدم الغرب. والارهاب القاتل بمسعاه الى تدمير الآخر الناجح هو بالتالي فعل انكار للواقع وحسب. اما سبب العجز عن الاستيعاب، فهو القناعة الخاطئة لدى المسلمين عموماً والعرب خاصة بأنهم اصحاب حضارة متفوقة، اي الاسلام، ورغبتهم بأن تستتب حضارتهم الشمولية هذه في كافة ارجاء العالم. وفي حين امعن الاستاذ في وصف مساوئ هذه القناعة، فإنه بدا عاجزاً عن تبين انطباق وصفه وتشخيصه ونقده على "الحضارة الغربية"، وفق المفهوم العقائدي والشمولي فعلياً الذي يعتنقه انصار نظريته - الشعار من "المحافظين الجدد" وغيرهم. واقتضت طبيعة المحفل دون شك قدراً من التبسيط، ولكن الاستاذ بالغ في تبسيطه الى حد الاستهزاء، حين تقدم بتراتبية حضارية تؤكد على تفوق الدول والمجتمعات غير المسلمة على المسلمة منها، وضمن هذه الاخيرة، تشير الى تقدم الدول والمجتمات غير العربية على العربية منها تركيا مثلاً حققت عبر اعتناقها المبادئ الغربية تقدماً ملموساً، وماليزيا تتطور اقتصادياً، وحتى ايران تختبر الديموقراطية. فالدول والمجتمعات العربية، وفق معايير لم تتضح تماماً، في اسفل الهرمية الحضارية. وعندما جاء احد المشاركين على ذكر افغانستان كناقض لهذه التراتبية، اجاب الاستاذ النجيب بين الجد والمزاح بكلمات قليلة "Too Many Arabs"، اي "العرب كثرة فيها". المداخلة الثانية جاءت على لسان "عميد" دراسات الشرق الاوسط، ولا شك انه اراد من خلالها تلطيف حدة بعض ما جاء على لسان زميله صاحب النظرية - الشعار، سيما وان هذا الاخير قد نسب العبارة التي اضحت عنوان نظريته الى "العميد" نفسه. ولكن على رغم سعة الاطلاع على العمق التاريخي للمجتمعات العربية والاسلامية، والتي حفلت بها مداخلته، فإن "العميد" لم يختلف عن صاحب النظرية - الشعار في الفحوى والتشخيص. فالحضارة الاسلامية بصيغة تأحيدية عضوية ما زالت تواجه مأزق تفوق الغرب عليها، والسؤال الذي يشغلها هو اولاً "لماذا وصلنا الى هذا الحال؟". والعلة، على رأي "العميد"، ليست في ضرورة طرح السؤال، انما في بعض صيغه وفي معظم الاجابات عنه. فالأزمة في الحضارة الاسلامية تقع حين يجري تحريف السؤال ليصبح "من الذي اوصلنا الى هذا الحال؟"، ذلك ان الاجابات على هذه الصيغة، وهي الاستعمار حيناً والصيونية احياناً، تزج العرب والمسلمين في معارك لا مبرر لها، مثل استعداء اسرائيل والولاياتالمتحدة، مع ما يستتبع ذلك من هدر لا مبرر له للطاقات. وحتى حين يطرح السؤال بصيغته "الصائبة"، اي بصيغة "اين حصل الخطأ الذي اوصلنا الى هذه الحال؟"، فالاجابة غالباً ما تأتي "خاطئة" حين ترى ان عدم الالتزام بالتعاليم الاسلامية مثلاً هو سبب التردي، فيما الجواب "الصحيح"، وفق رأي "العميد"، يكمن فعلياً بعدم اعتناق القيم الانسانية العالمية التي نشأت وتبلورت في الغرب. وقد أسهب "العميد" في تأصيل مفهومه للاشكالية التي تعاني منها "الحضارة الاسلامية" عبر استعراض سريع لكتابات عدد من الاصلاحيين العثمانيين، ثم الاتراك وقلة من العرب، في نقدهم للعادات والقيم السائدة في مجتمعاتهم بالمقارنة مع الغرب، لا سيما في موضوع المرأة ومفاهيم الحرية والعدالة والطغيان، معتبراً ان كتابات هؤلاء الاصلاحيين تكشف عن ازمة وجودية يعاني منها الصلب الحضاري الذي ما زال في معظمه يطالب بعودة الى اصالة اسلامية تعيد اقامة دولة الخلافة. فاشارة اسامة بن لادن الى الذل الذي تعيشه الامة منذ ثمانين عاماً، وفق رأي "العميد"، تعبير يحاكي شعور مطالب بدولة الخلافة وهو شعور سائد في صميم "الحضارة الاسلامية" يفسر الحقد على الغرب ويؤسس للعمل الارهابي. احد المشاركين من العرب اشار الى ان الاعتبارات الحضارية قد تصلح للتحاليل التاريخية التنظيرية، اذا جرت مراعاة عدم السقوط في مزالق التعميم والتبسيط، لكنها في هذه الحالة تمنح آراء الكتاب الذين جرى استنطاقهم، وجلهم من المغمورين، ثم تمنح خطاب اسامة بن لادن، صفة تمثيلية وتفسيرية لا يستحقها اي منهم. فالاجدى لتفسير حال العداء السائد في المجتمعات العربية تجاه الولاياتالمتحدة تحديداً، والغرب عموماً، النظر في المسائل الواقعية التي ما فتئت الاوساط العربية تنادي بها، لا سيما منها قضية فلسطين. فالموضوع بالدرجة الاولى ليس موضوع قلق وجودي او يأس حضاري لدى الجانب العربي، بل موضوع ظلم قائم واضطهاد حاصل وعمى وتعامٍ لدى الجانب الغربي. ردة الفعل على هذا الطرح الاعتراضي ضمن الجلسة كادت ان تختزل المواقف المتداولة في الساحة الفكرية الاميركية: مدير الجلسة حالو ان يتجاوز الطرح مكتفياً باعتباره "وجهة نظر... ولننتقل الى امور اخرى". احد المشاركين الاميركيين، بقدر من الخجل، تساءل "ربما في هذا الطرح ما يصلح كتفسير". مشارك آخر، بقدر من الغضب والرفض الصريح لهدر استثماراته الثقافية، اجاب "لا، فهو ينفي كامل المداخلات التي سبقت، بل هو تبرير وتجاهل للأزمة الحضارية الاسلامية". المداخلات التالية كانت لتقديم اقتراحات الخطط والحلول، اجتهد خلال احداها احد الاساتذة الجامعيين في محاولة ابراز كفاءة الثقافة العربية الاسلامية في ايجاد الحلول الخاصة بها، مع التأكيد على فائدة التشجيع والدعم، لا سيما في موضوع التربية. لكن الجو العام للجلسة ابعد هذه المداخلة عن رغبتها في ترسيخ احترام الآخر العربي والمسلم، فانتقل الحديث الى ضرورة تعديل المناهج ونشر الثقافة الغربية وتوطيد قيمها في المجتمعات العربية والاسلامية عبر الاعلام والاعلان والترفيه. وقد ارتبط هذا الحديث بالمحور الاخير الذي عالج مسألة "الاصولية" كظاهرة نفسية مَرَضية تتطلب العلاج، يتساوى فيها المقاوم المنضوي تحت لواء "حزب الله" والمنتمي الى الجماعات الانجيلية الغيبية الالفانية الاميركية التي تترقب وقوع الملاحم والفتن وفق تفسيرها للنبوءات التوراتية. الهدف من الجلسة كان دراسة ازمة الفكر والحضارة في العالم الاسلامي. والواقع ان هذه الجلسة للقلة القليلة من العرب الذين حضروا وقائعها تساهم في الاجابة عن سؤال آخر هو: اين الخطأ في الفهم الاميركي للحالة الفكرية والحضارية العربية؟ فمن مقومات هذه الاجابة عدم قدرة العديد من المفكرين في الولاياتالمتحدة على الاستماع الى الآخر العربي وعلى الاصغاء الى مضمون خطابه من باب الند للند. والمسألة لا تقتصر للأسف على المفكرين الاميركيين. فالشخصية السياسية، محور الجلسة وربما محور الانتخابات الرئيسية المقبلة، كانت على الغالب متخلفة عن الاستماع لا الى الصوت العربي فحسب، بل الى معظم الطروحات التي تقدمت بها المداخلات، مفضلة الاستفاضة بطرح تفسيراتها التبسيطية ومقارناتها الاعتباطية امام الحضور كمساهمة فكرية مفترضة. وجلسة "الاسلام والعولمة" هي واحدة وحسب من سلسلة جلسات تشارك بها هذه الشخصية السياسية. وغالباً ما تجري الاشارة الى افتقار الرئيس الاميركي الحالي الى أي اطلاع يذكر في كافة المواضيع. والبديل، اذا ما كانت سائر الجلسات كهذه، شخصية سياسية تكون قادرة بالتأكيد على ادعاء الاطلاع، من دون ان يتجاوز استيعابها للمسائل وتفاعلها معها الحد السطحي.