مع ارتفاع أسعار النفط وتطور تكنولوجيا خلايا الوقود والطاقة البديلة، توقع بعض التقارير الأميركية والأوروبية تناقص أهمية النفط خلال العشرين سنة المقبلة وانخفاض أسعاره بنسبة 75 في المئة. وأكد بعض هذه التقارير أن الغاز الطبيعي سيسهم في خفض دور النفط في المستقبل، الأمر الذي سيؤدي أيضاً إلى خفض أسعار النفط. توقعات تناقص أهمية النفط غير صحيحة خصوصاً أن الخطط المستقبلية لشركات السيارات تشير إلى أن أكثر التقارير تفاؤلاً يقول أنه لن يوجد أكثر من عشرة آلاف سيارة تعمل بخلايا الوقود بحلول سنة 2010، وهذا يعادل عُشر ما تستورده السعودية من السيارات الجديدة سنوياً فقط. إذا كانت هذه خطط شركات السيارات نفسها فكيف يمكن لأسعار النفط أن تنخفض بمقدار 75 في المئة؟ وركز بعض المحللين العرب و "خبراء الفضائيات" في الوقت نفسه على ما يسمى ب"تقرير تشيني" والذي يمثل الحجر الأساس في استراتيجية الطاقة الأميركية الحالية، وربطوه بالتقارير المذكورة أعلاه واستنتجوا أن النفط العربي في خطر لأن الولاياتالمتحدة تستهدف خفض اعتمادها على النفط العربي. وهذه التوقعات أيضاً غير صحيحة لأنها لا تفرق بين "النسبة" و"الرقم"، كما أنها تتجاهل كثيراً الحقائق في أسواق النفط العالمية. وسأحاول في هذا المقال تفنيد مزاعم كلا الفريقين من خلال التركيز على حقائق وبيانات معروفة حتى لدى غير المتخصصين في هذا المجال. لنفرض أن توقعات هذه التقارير صحيحة وانه تم تطوير مصادر للطاقة البديلة لتحل محل النفط. ألم يتم تطوير هذه المصادر بناء على أسعار النفط الحالية باعتباره المصدر المنافس؟ ماذا سيحصل لو انخفضت أسعار النفط بنسبة 75 في المئة، كما تقول هذه التقارير؟ ماذا سيحصل لو انخفضت أسعار النفط من 30 دولاراً للبرميل إلى ثمانية دولارات للبرميل؟ إن انخفاض أسعار النفط بهذا الشكل سيؤدي إلى التحول عن مصادر الطاقة الأخرى والعودة إلى النفط، ما سيزيد الطلب عليه ويرفع من أسعاره. هل يعقل أن يقوم المستثمرون باستثمار بلايين الدولارات في مصادر الطاقة البديلة لكي تنخفض أسعار النفط إلى هذا المستوى بحيث تتهدد استثماراتهم؟ إن انخفاض أسعار النفط بهذا الشكل سيؤدي إلى خسارة المستثمرين لهذه البلايين من الدولارات. هل يعقل أن يقوم المستثمرون بهذا الاستثمار الخاسر؟ إن توقع المستثمرين لانخفاض أسعار النفط بهذا الشكل سيمنعهم من الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة بالكميات التي ذكرتها التقارير، وهذا يعني أن أسعار النفط لن تنخفض بالشكل المذكور. وينطبق الأمر نفسه على الغاز الطبيعي لأن تجربة الأعوام الثلاثة الماضية أثبتت أن ارتفاع أسعار الغاز في الولاياتالمتحدة أدى إلى زيادة الطلب على النفط على رغم أن أسعار النفط تجاوزت 30 دولاراً للبرميل في تلك الفترة. لهذا فإن نتائج التقارير التي تقول بانحسار دور النفط خاطئة ومضللة. خلايا الوقود تستخدم النفط أدى تخوف شركات النفط وشركات السيارات من تكنولوجيا خلايا الوقود إلى إنشاء تحالفات في ما بينها وبين شركات خلايا الوقود، الأمر الذي أدى إلى ضخ بلايين الدولارات لدعم البحوث والاختراعات التي نتج عنها استخراج الهيدروجين اللازم لخلايا الطاقة من النفط. وبناء على ذلك تم تطوير خلايا تعتمد على البنزين في الولاياتالمتحدة وعلى الميثانول المستخرج من الغاز الطبيعي في أوروبا. وهذا يعني أن خلايا الوقود لن تحل محل النفط ولكنها ستعتمد عليه. ولكن علينا أن لا نتجاهل أثر خلايا الوقود في زيادة الكفاءة والذي سيؤدي إلى خفض كمية البنزين اللازمة لقطع مسافة معينة مقارنة بالمحركات الحالية، ولكنه لن يؤدي بأي شكل من الأشكال إلى خفض أسعار النفط بنسبة 75 في المئة. بفرض أن هناك زيادة كبيرة في استخدام خلايا الطاقة ومصادر الطاقة البديلة كالرياح والطاقة الشمسية، فإن هذا سيؤدي إلى وجود طلب كبير على المعادن واللدائن والبلاستيك اللازم لتصنيع القطع اللازمة لتركيب خلايا الطاقة أو العنفات الهوائية أو الخلايا الشمسية. ولكن هذا لا يتم حالياً إلا باستخدام الطاقة الكهربائية الناتجة عن استخدام النفط والفحم والغاز، وكذلك لا يتم إنتاج البلاستيك سوى من النفط نفسه. إن زيادة الطلب على هذه التكنولوجيا الجديدة ستؤدي إلى زيادة الطلب على النفط والغاز، فكيف يمكن لأسعار النفط أن تخسر 75 في المئة من قيمتها؟ لقد كان منظراً مثيراً للدهشة عندما زرت مزرعة جديدة لعنفات الهواء في إحدى الولايات الأميركية ،وقام المشرف على المشروع بشرح الفوائد البيئية للمزرعة في الوقت الذي دخلت فيه نحو عشرين شاحنة ضخمة تحمل الأعمدة الحديد التي ستنصب عليها العنفات ودخان الديزل قد ملأ الأفق. ثم لاحظت رافعتين ضخمتين تتحركان لنصب الأعمدة الفولاذية وكلاهما تعملان بالديزل. المشكلة ليست فقط كمية النفط اللازمة لنقل الأعمدة الفولاذية والعنفات، المشكلة أن صناعة الفولاذ هي من أكثر الصناعات استخداماً للطاقة في العالم وخصوصاً النفط. الأمن القومي الأميركي شدد "تقرير تشيني" على العلاقة بين "الأمن القومي الأميركي" وبين "أمن الطاقة" وطالب الرئيس الأميركي جورج بوش بإعطاء أمن الطاقة أولوية في رسم السياسات الخارجية السياسية والتجارية. ويأتي هذا التشديد على رغم أن الولاياتالمتحدة تعتبر من أكبر منتجي النفط في العالم ولديها مناطق غنية بالنفط في الاسكا وكاليفورنيا لم تستكشف بعد. وبفرض أن خلايا الطاقة ستطغى على مصادر الطاقة خلال العشرين سنة المقبلة فإن المشكلة التي ستواجه الولاياتالمتحدة هي الحصول على المعادن اللازمة لتصنيع خلايا الطاقة وخصوصاً معدن البالوديم. إن الولاياتالمتحدة تدرك أن هناك أكثر من 70 دولة منتجة للنفط حالياً وتقوم باستيراد النفط من أكثر من 20 دولة. ولكنها تدرك أيضاً أن أغلب البالوديم الموجود في العالم يتركز في دول الاتحاد السوفياتي السابق وجنوب إفريقيا، فهل يعقل أن تقبل الولاياتالمتحدة أن تكون رهينة لهذه الدول؟ إن بحث البيئة الذي ورد في تقرير تشيني ينتهي بعبارة مهمة للغاية، وهي: "تقترح اللجنة تنفيذ المقترحات السابقة طالما أنها لا تؤثر في صناعات السيارات الأميركية". وبما أن شركات السيارات الأميركية ليست لديها رغبة في تغيير نمط التكنولوجيا الحالي، فإن هذا يعني أن المستقبل سيظل للنفط، وليس لخلايا الطاقة كما يزعم بعض التقارير. أما الابحاث الأخرى التي وردت في تقرير تشيني فإنها كلها تركز على حماية "صناعة النفط الأميركية" و"المنتجين المستقلين" وانخفاض أسعار النفط بمقدار 75 في المئة لا يحقق هذا الهدف. تناقض التقارير إن التقارير التي تشير إلى تناقص أهمية النفط وانخفاض أسعاره في المستقبل تتناقض مع تقارير وزارة الطاقة الأميركية ووكالة الطاقة الدولية وتقارير العديد من البنوك وبيوت المال العالمية. فتقارير وزارة الطاقة الأميركية ووكالة الطاقة الدولية تشير إلى زيادة كبيرة في الطلب على النفط خلال العقدين المقبلين على رغم أنهما ذكرتا الدور المتنامي لمصادر الطاقة المتجددة وخلايا الطاقة والغاز الطبيعي. وتشير توقعات وزارة الطاقة الأميركية إلى أن الطلب العالمي على الطاقة سيزيد بحدود 60 في المئة بحلول سنة 2020. وتتوقع الوزارة أن يكون النفط هو مصدر الطاقة الرئيسي في سنة 2020، اذ سيمثل 40 في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة في العالم ويتوقع ان ينمو بمقدار 2 في المئة في السنة الى 118.6 مليون برميل يومياً، بزيادة قدرها 43 مليون برميل تقريباً على المستويات الحالية. وتشير توقعات شركات النفط العالمية، بما في ذلك "رويال داتش/شل" و"بي بي" و"اكسون" الى الاتجاه نفسه. وتؤيد ذلك توقعات بيوت المال العالمية مثل "دويتشه بنك". ويذكر أن كتاب التقارير التي تتوقع بانحسار دور النفط وانخفاض أسعاره هم من الاستشاريين الإداريين وليسوا متخصصين في مجال الطاقة. والغريب في الأمر أنهم اعتمدوا في تقاريرهم على توقعات وزارة الطاقة الأميركية ووكالة الطاقة الدولية في ما يتعلق بنمو الطلب على الطاقة في المستقبل، ولكنهم تجاهلوا الجزء المتعلق بالنفط، الأمر الذي يشكك في نزاهة التقارير نفسها، خصوصا أنها تقارير مدفوعة الثمن. النسبة غير الرقم وقعت التقارير التي تتوقع انحسار دور النفط وانخفاض أسعاره في خطأ كبير نتيجة تركيزها على النسب في استنتاجاتها بدلاً من الأرقام. فقد اعتمدت هذه التقارير على جمل مذكورة في توقعات وزارة الطاقة ووكالة الطاقة الدولية مثل "ستبقى نسبة استهلاك النفط من إجمالي استهلاك الطاقة نفسها خلال تلك الفترة 2000 إلى 2020 بسبب الاستخدام المتزايد للغاز الطبيعي". ولكن يتضح من الفقرة السابقة أنه في الوقت الذي يمكن أن تكون فيه النسبة ثابتة، فإن الطلب على النفط سيزيد بمقدار 43 مليون برميل تقريباً بسبب زيادة الطلب على الطاقة بشكل عام. ووقع بعض "خبراء الفضائيات" العربية بالخطأ نفسه عندما لم يستطيعوا التفريق بين "ثبات النسبة" و"زيادة الأرقام" خصوصاً عندما يتطرقون لسياسة الطاقة الأميركية تقرير تشيني والنفط في الخليج. فقد أصر هؤلاء على أن هدف الولاياتالمتحدة هو تخفيض اعتمادها على النفط الخليجي، ولكنهم نظروا للأمر كنسبة من الواردات الأميركية وليس كرقم. فقد أكد تقرير تشيني الذي صدر في العام الماضي، ويمثل استراتيجية الطاقة للحكومة الأميركية الحالية، على خفض "نسبة" اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط الأجنبي. وبهذا فهو لا يختلف عن استراتيجية الطاقة التي قدمها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في عام 1998 ولا يختلف عن الاستراتيجية التي قدمها السيناتور فرانك موركاورسكي لمجلس الشيوخ في عام 2000. وتشترك هذه الاستراتيجيات في ما بينها بأنها تركز على خفض "نسبة" واردات النفط وليس "كمية" الواردات والفرق بينهما كبير. فبفرض أن الولاياتالمتحدة تستورد حالياً 60 في المئة من استهلاكها، فإن هذا يمثل بحدود 12 مليون برميل يومياً. فإذا قررت الولاياتالمتحدة خفض هذه النسبة حسب مشروع موركاوسكي إلى 50 في سنة 2020 فإن هذا يعني أن الولاياتالمتحدة ستستورد 50 في المئة من استهلاكها في عام 2020 والذي يقدر ب32 مليون برميل يومياً. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن واردات الولاياتالمتحدة ستزيد بمقدار ستة ملايين برميل يومياً عما هي عليه الآن، فكيف يمكن لواردات الولاياتالمتحدة من الخليج أن تنخفض في تلك الفترة؟ وكيف يمكن لأسعار النفط أن تنخفض بمقدار 75 في المئة؟ يذكر أن مجلس الشيوخ لم يوافق على مشروع موركاوسكي لعدم ملاءمته لأوضاع الولاياتالمتحدة، اذ يتوقع أن تزيد نسبة واردات النفط لتصل إلى 80 في المئة ... ودام النفط لأهله. * أستاذ في اقتصادات الطاقة أوهايو، الولاياتالمتحدة.