لا تخفي العواصم الاقليمية المحيطة بالعراق قلقها من السيناريوات المطروحة حول احتلال اميركي لبلاد ما بين الرافدين قد يستمر خمس سنوات، في حين تذهب بعض توقعات المحللين العسكريين في البنتاغون الى أن "الحملة العراقية" قد تستمر عشر سنوات. وفي الخطط الاميركية المسرّبة حكم للبلاد عبر ادارة عسكرية اميركية، على ان يتولى العراقيون شؤون بلادهم في مرحلة لاحقة. والواضح ان الوقت الذي ستستغرقه تلك المرحلة عائد الى تقويم واشنطن ومدى ملاءمة ذلك مع ما ترومه للعراق والمنطقة. ورب قائل ان عزم الادارة الاميركية على الانفراد في تقرير شؤون العراق، يرجع الى التعقد الجيوستراتيجي لموقع العراق في العالم. فالحملة الاميركية العسكرية ضد بغداد ستخل بالتوازن الذي قررته اتفاقات سايكس - بيكو في ايار مايو عام 1916 والذي رسم حدود دول المنطقة، وبالتالي حدد اصول اللعبة الاقليمية والدولية. وجُل العارفين في شؤون الشرق الاوسط مجمعون على ان زلزالاً آخر سيضرب المنطقة ويعيد النظر في قراءة سايكس- بيكو التي تجاوزها الزمن. وبغض النظر عن الأمل الذي يعقده العراقيون على زوال النظام، فإن دول المنطقة التي اعتادت التعامل مع الواقع العراقي على علاته يقلقها حال الغموض الذي يكتنف مستقبل منطقة تعجز الولاياتالمتحدة عن تقديم وجهها المقبل. فتركيا ترى في الحرب المحتملة إضعافاً لدورها الاستراتيجي كعضو في الحلف الاطلسي تمتع سابقاً بامتياز إطلاله على ربوع الاتحاد السوفياتي. وفي هذا الصدد استفادت انقرة من حاجة الغرب عموماً، والولاياتالمتحدة خصوصاً، لعمقها الاستراتيجي والعسكري، لفرض شروط اقتصادية وسياسية دعّمت دورها الاقليمي في شكل واضح. وكانت تركيا اول المستفيدين من مذهب ترومان الذي تبناه الكونغرس الاميركي في آذار مارس عام 1947 والذي اسس لمنطق واشنطن في تشكيل حلفها المضاد لذلك الذي انبرى حول موسكو. سيغير الاحتلال الأميركي الموعود للعراق من طبيعة دور واشنطن وشكله لجهة التعامل المباشر مع شؤون المنطقة بالمعنيين العسكري والاقتصادي اضافة الى السياسي طبعاً، وهو أمر يضع علامة استفهام على وظيفة الوكالة الممنوحة لتركيا. ولا يغيب عن تفكير الاتراك بالطبع تطور الوضع في شمال العراق لجهة تخصيب فكرة الاستقلال لدى الأكراد في غياب المركز في بغداد. وهي حال قد تنشّط العدوى لدى اكراد تركيا الذين وجدوا قضيتهم محشورة بين هلالين منذ اعتقال قائدهم عبدالله اوجلان عام 1996. ومن جهتهم، يشعر الايرانيون بأن مستقبل العراق قد يسوق اليهم مرحلة صعبة وضبابية في الرؤية. ف"الشيطان الاكبر" بحسب توصيف طهران الكلاسيكي للولايات المتحدة، سينتقل الى حدود البلاد وسيمثل تهديداً مباشراً لاستقرار الحكومة الاسلامية، خصوصاً ان واشنطن لا تخفي انتقاداتها لطهران وعلاقاتها الحميمية مع احزاب وجماعات تضعها واشنطن على لائحة الارهاب. ناهيك عن ان ايران تنتمي الى "محور الشر" جنباً الى جنب مع العراق وكوريا الشمالية بحسب توصيفات جورج بوش. وعنوان الموقف الايراني يتمثل في معارضة الحرب من دون ان يُفهم من هذه المعارضة تأييداً لنظام بغداد. وهو أمر يكرر التشديد عليه رئيس الديبلوماسية الايرانية كمال خرازي في كل مناسبة. وطهران حليف موضوعي لمسعى واشنطن في اطاحة نظام صدام حسين، حتى ان المراقبين اعتبروا ان ما توصل اليه مؤتمر المعارضة العراقية الاخير في لندن هو ثمرة تنسيق غير معلن بين الادارة الاميركية والقيادة الايرانية. على ان من العبث البحث عن تحالف افتراضي بين "الشيطان الاكبر" وواحد من اعضاء "محور الشر". فمن الصعب مواءمة مصالح ايران بتركيبتها الحالية ومنطق الولاياتالمتحدة خصوصاً بإدارتها الراهنة. على ان تضارب المصالح بين البلدين قد يتحول الى تصادم ميداني سواء بأشكاله المباشرة او بالوكالة. وعلى الصعيد نفسه، لا عجب في أن تظهر دمشق عداءً لمنطق الحرب الاميركي وتسعى في همّة دائمة ظهرت واضحة من خلال أداء وزير الخارجية اللبناني في الاجتماع الاخير لوزراء الخارجية العرب في الدعوة الى رفض الحرب وخياراتها. فسورية بَنت قاعدتها الاستراتيجية في العقود الاخيرة على التمسك بثوابتها في شأن الصراع مع اسرائيل، وعلى تحالف مع ايران يقابله عداء مع نظام بغداد، وعلى نفوذ في الشأن اللبناني يتواكب مع دعم علني ومضمر ل"حزب الله". وفي قراءة اولى لحقل سورية الحيوي، فإن التدخل الاميركي ببعديه العسكري والاستراتيجي يأتي داعماً لوجهة نظر الخصوم ومهدداً لدور الحلفاء ومكانتهم. واذا ما استطاع الرئيس الراحل حافظ الاسد تبوؤ مركز الشريك في الحرب التي خيضت لتحرير الكويت عام 1991، فإن دمشق اليوم تتخذ موقعاً في الجهة الرافضة لتحالف الحرب، ويعتريها قلق من احتمالات تواطؤ موضوعي بين واشنطنوطهران في الشأن العراقي، وتنظر بعين الريبة الى الدعوات الاميركية والاسرائيلية الى القضاء على "حزب الله" ضمن استراتيجية اعادة تركيب المنطقة وفق مصالح واشنطن بحسب ما يبشر به كولن باول. وبالطبع فإن دمشق قلقة من الامعان في الاخلال بموازين المنطقة لمصلحة اسرائيل فيما لو استقرت القوات الاميركية في المنطقة. ويبدو ان اكثر ما يقلق انظمة المنطقة هو التلويح بتغييرات داخلية ضمن مطلب ارساء الديموقراطية في العالم العربي، وهو امر قد تشعر سورية كما السعودية بأنها معنية به مباشرة. اما في منطقة الخليج واذا كان من اجماع على ضرورة التخلص من نظام بغداد منذ صدمة غزو الكويت في 1990، فإن المنطقة غير مرتاحة لما قد تسفر عنه نتائج هذه الحرب لجهة شكل النظام الذي سيحكم بغداد او لجهة الخطط التي ترسمها واشنطن للمنطقة. على ان خوض واشنطن حرباً من دون كثير اكتراث بالقلق الذي يعتري نظم المنطقة وشعوبها قد يشرّع الابواب امام احتمالات مرتجلة لم تتيقظ لها السيناريوات المسرّبة، وأغفلت اهميتها ابحاث معاهد الدراسات. فالمفارقة تكمن في ان الحروب التي اضحت اكثر اعتماداً على التكنولوجيا الحديثة وعلى الغزارة في النيران قد تتعطل بفعل مقاومة مزودة أسلحة فتاكة يسهل الحصول عليها في هذه الدنيا المعولمة. فتضارب المصالح بين اهل المنطقة نظماً وشعوباً مع مصالح الادارة في واشنطن سيغير من طبيعة هذه الحرب وسيجبر القوات المجهزة بأكبر الامكانات وأحدث الاسلحة الى مواجهة حرب غير نظامية لطالما كانت سبباً في تقهقر الاميركيين أنفسهم عن لبنان والصومال وقبل ذلك في فيتنام. ولا نقع هنا في فخ الخطاب الغوغائي التبسيطي، فاستراتيجيو الولاياتالمتحدة يتخوفون بجدية من مفاجآت حقل المنطقة المفخخ من دون الافصاح، في الوقت الحالي على الاقل، عن الوصفة السحرية او الترياق الموائم للعلة المقبلة. كثيرة هي اسباب الفوضى التي قد تنجم عن الحرب: مصالح الاطراف العراقية التي اضحت منذ مؤتمر المعارضة في لندن تستند الى معايير طائفية اثنية وعرقية تنذر بالصدام اكثر من تبشيرها بالوفاق، وارتباط كل فرقاء المعارضة العراقية بدول المنطقة بما يربط الفوضى الاقليمية المحتملة والفوضى الداخلية برباط جدلي خطير، واحتمالات الصدام الدموي الداخلي الذي قد يأخذ صبغة طائفية خطرة سينعكس صداماً مباشراً مع القوات الاميركية لمسؤوليتها في اللعب بموازين القوى، وقدرة انظمة المنطقة على العبث بما ترتبه واشنطن طالما ان ذلك قد يمثل تهديداً لها، وقدرة هذه الانظمة على التحكم بالحنق الشعبي على الوجود الاميركي والمتأسس على ثقافة دينية وعقائدية معادية. ولا شك في ان قدرة واشنطن على فرض "ترتيب" للمنطقة ستقابله قدرة محلية وربما اكثر ايلاماً على تعطيل ذلك "الترتيب". ولا نتوخى من تحليلنا تبسيطاً للامور بقدر ما ننشد الاشارة الى تعقد الحال العراقية في فسيفساء منطقة لا يسهل هضم عناصرها. فالامر بالنسبة الى اهل الدار يتعلق بالديمومة والحياة، فيما الغرض بالنسبة الى واشنطن شديد التأثر بالمستقبل الانتخابي لبوش وحزبه. وبالتالي فإن حساب الخسائر شديد الحساسية بالنسبة الى ارباب القرار في واشنطن منه الى اهل البيت الشرق الاوسطي. * كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن.