"ليس من دواعي الحظ ان تكون جاراً للعراق"، هذا الكلام البليغ قاله أناند نيدو مذيع ال"سي أن أن"، وقد خبر الايرانيون معنى هذا الكلام جيداً، وعرفه الكويتيون أكثر من غيرهم، ويملأ ذاكرة السياسيين السوريين بالمرارة منذ أمد طويل، ولولا تدخل التحالف الدولي لطرد الجيش العراقي من الكويت 1991 وتدمير قوته العسكرية الضاربة لكانت قلوب الأتراك والأردنيين ترتجف الآن من نوايا جارهما العراق! وما لم يشر إليه المذيعون ويفكر به المحللون ان أسوأ الحظوظ ستكون من نصيب الشخص الذي يحكم العراق في المستقبل، مثلما كانت في الماضي، وكما هي عليه في الحاضر، حيث يعيش صدام حسين منذ أربعة أشهر داخل أنفاق لا يعرف الا الخلصاء أسرار مغاليقها! مع ذلك، فإن مسيرة الحكم المرتبكة والمحفوفة بالصعاب في العراق لم ولن تثني العراقيين عن السعي، وبتهافت غريب، لأخذ نصيبهم في السلطة، لأن الدم العراقي يتحفز للمغامرة كلما ظهرت علامات الضعف على الحاكم، أو كلما نشطت النوايا الخارجية لتغييره. فالعراقي متغطرس، مفتون بنفسه، ومتمرن على اكتشاف قصور الآخر، في الحكم أو في العمل أو في العيش، الى ان يأخذ مكانه فيغدو كل قصور مبرراً. وتتفاقم هذه الصفات مع تزايد تعلّم الشخص وتثقّفه، وتتضاءل لدى البسطاء من الناس فلا تظهر إلا في ساعات الغضب. هذه الصفات الملازمة للشخصية العراقية إنعكست على التحوّلات التي شهدها العراق منذ إنقلاب 1958 وإن بمستويات متفاوتة، فهي طغت على سلوك الشيوعيين، وجميع قادتهم خريجو جامعات وكليات ومعاهد تعليم، حين لجأوا الى التآمر والارهاب وقمع معارضي حليفهم العسكري عبدالكريم قاسم. وظهرت لدى البعثيين في شكل دموي هائج 1963، وغالبيتهم من متوسطي الثقافة، وخفّ أثرها على القوميين 1964، وبينهم ضباط منضبطون وموظفون في الدولة. وعادت مع عودة البعثيين الثانية 1968 مخاتلة وجلة أول الأمر، ثم في شكل طغيان لم يشهد له العراق مثيلاً. الآن، بعد 45 عاماً على إنقلاب 1958، يحمل المعارضون الذين برزوا بعد 1991 بذور الشخصية العراقية التقليدية نفسها، التي لا يحركها الضمير الوطني أو الانساني، لاحتلال مكان الآخر، إنما إحساس شهواني مبعثه ان معرفة قصور الآخر يؤهل النفس لركوب المغامرة أملاً في الوصول الى سدّة الحكم على رغم تلطخها بالدماء في العقود الثلاثة الماضية! والذين برزوا بعد تحرير الكويت هم القوى الحزبية نفسها التي صفاها النظام في الداخل، وتشتتت فلول قياداتها في دول أوروبا وأميركا، ثم جمعت صفوفها إثر تبلور رغبة الادارة الأميركية في عهد كلينتون لتغيير النظام في العراق، وأضيف الى تلك القوى شخصية جديدة لم تكن معروفة هي الدكتور أحمد الجلبي. الصحف الأميركية كتبت الكثير عن شخصية الجلبي وعلاقاته بعدد من الشيوخ وبالدوائر الأميركية وإفلاساته المصرفية القديمة، لكنه ظل اللاعب الوحيد على الساحة الأميركية، والوسيط المالي بين لجنة الأمن القومي والمجموعات العراقية المعارضة التي دخلت تحت المظلة الأميركية مكرهة عبر المؤتمر الوطني العراقي، لحاجتها الى الدعم. وتحيط بالجلبي مجموعة صغيرة جداً من المثقفين، روّجوا منذ البداية أنه اداري ممتاز، لكن الرجل فشل في ادارة ثلاثين شخصاً كانوا قوام المكتب السياسي والإعلامي للمؤتمر الوطني، ما سبب الكثير من الخلافات وتبعتها الانسحابات، وظلت الجريدة التي أصدرها تدور في أوساط الجالية العراقية من غير ان تتجاوزها في التوزيع أو التأثير. وتكمن قوة الجلبي في تحصيله مبالغ الدعم، وهو يوزعها بسخاء على المعارضين، ما سمح له بتصدر مائدة اللقاءات والاجتماعات التي يعقدها المؤتمر أو لجنة المتابعة. ويصفه الذين عملوا معه بأنه طموح، تتحكم بتصرفاته روح فردية عنيدة، تخفيها ليونة أثناء الحديث وقبول مهذب لرأي آخر، ثم تجاهله أو العمل عكسه. عُرف ايضاً بأسلوبه في جرّ الأحزاب والشخصيات الأوسع شهرة للعمل الى جانبه وتهميش دورها في ما بعد. مع هذا استطاع الرجل عقد ثلاثة مؤتمرات للمعارضة العراقية فيينا - أربيل - ولندن 2002 بضغط من واشنطن لمعرفة الأداء الوطني العراقي، ما إن صحا المشاركون في آخرها من نشوة الكاميرات حتى بدأت الخلافات والانسحابات والشكاوى من توزيع الحصص، كما هي الحال في المؤتمرات السابقة التي اتهم فيها الجلبي بالمماطلة لعقد المؤتمرات والمناورة أثناءها للتلاعب بتوزيع الحصص! لكن المشاركين تعلّموا الذهاب الى عرين الجلبي واشنطن للشكوى، فقلب السياسيون العراقيون، وجميعهم أصحاب خبرة عريقة في التشكي والتآمر، المائدة على رأسه، ليصبح الجلبي وجماعته الصغيرة آخر المشتكين لدى الادارة الأميركية من عدم توازن الحصص! وعلى رغم ان هدف المؤتمر الوطني وشعاره "إنقاذ العراق والديموقراطية" الا ان المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في التنظيم يستحوذ على أكبر الحصص 24 من 65 وهو حزب ديني، طائفي، تربطه بايران علاقة عتيدة، وتثير حصصه داخل المؤتمر مخاوف العراقيين ابناء الطوائف الأخرى، اضافة الى مخاوف شريحة كبيرة من الشيعة ذوي الاتجاه الوطني العلماني أو الديموقراطي! لذلك انتهى مؤتمر لندن بانسحاب عدد جديد من الأحزاب. الحلم الذي يشتعل في مخيلة الدكتور أحمد الجلبي، كأنما بوقود نووي، هو تولي رئاسة أول حكومة بعد صدام حسين، لكنه ليس الوحيد في هذا، إذ يزاحمه على الحلم آلاف المعارضين، من كبار القوم وصغارهم، قديمهم وجديدهم. وما ذكرناه عن الجلبي ينسحب على الآخرين، مع اختلاف بسيط في نوعية الوقود ومصدره. فالمعارضون يتنازعون منذ عشر سنين على الحصص، حصص الدعم المالي، وحصصهم في الحكم المقبل، لهذا عجزوا عن توحيد صفوفهم، ولهذا ايضاً قررت الادارة الأميركية في النهاية "ان الحكومة التي تخلّف النظام الحالي تُشكل في الداخل ومن الداخل". وفي رأيي ان هذا أنسب قرار، لأن الداخل، الميدان التاريخي للمأساة، يختزن العديد من العراقيين الذين تعلّموا وكبروا ونضجوا وعملوا ولزموا الصمت مجبرين، وهم يعرفون أكثر من غيرهم الوجه الكئيب للأرض المحروقة التي سيتركها صدام. فالخارج تربة خصبة للفساد، وكثيراً ما أوقف الأميركيون ضخ الدعم للمؤتمر الوطني لسوء ادارته المالية، وعدم تقديمه المستندات الخاصة بانفاق 97 مليون دولار منحها له الكونغرس بقرار خاص بتحرير العراق لوس انجليس تايمز 2/12/2002. والادارة الأميركية التي اختارت ياسر عرفات لتوقيع معاهدة السلام مع اسرائيل، اكتشفت بعد فوات الأوان ان تجاهل الداخل الفلسطيني سمح لرئيس منظمة التحرير بنقل كل مظاهر الفساد وعناصره التي ولدت بين ثناياها في الأردن، واشتدّ عودها في لبنان، وأُعدّت بتونس ليعتمدها في ادارة السلطة على الأراضي التي انسحبت منها اسرائيل، فكانت النتيجة تعليق اتفاقيات السلام، وتدمير مؤسسات السلطة، بينما أوقفت دول أوروبا الدعم المنتظم الذي كانت تقدمه للمستشفيات والمدارس وسكان المخيمات، عقاباً لفلسطينيي الداخل على فساد حكوماتهم الوطنية الآتية من المنفى! ويبدو ان الأميركيين في موقفهم الجديد من المؤتمر الوطني، أرادوا تجنب ورطة مشابهة في العراق، قد تسبب دماراً أوسع، وأخطر، يحمّلهم العالم مسؤوليته المباشرة. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.