قال لي صديق، وهو شيوعي عراقي، انه يشعر ان تلك الوفود العربية التي تؤم بغداد وتنزل في ضيافة النظام، شريكة في تبديد قوت الشعب العراقي الجائع اصلاً والمعرض لحصارين، اولهما حصار النظام الذي يبدد ثروات البلاد في نزواته الكثيرة، والثاني الحصار المفروض على هذا الشعب. هذا الكلام وكالكثير من الكلام العراقي فيه شيء من المجازية التي تحتمل المبالغة، لكنه ايضاً، وكونه كلاماً عراقي، اشعرني بلا مجازيته. فهو يقارب الوقائع. عراقي يتهم عرباً بالمشاركة في السطو على مقدرات العراق. وهذا الكلام حين تسمعه في لبنان، في هذه الأيام، تتعزز صدقيته. فقبل سنوات قليلة كان ممنوعاً على اللبنانيين اقامة اي نوع من العلاقات مع العراق، لا بل ان مناصري العراق في لبنان زجوا في السجون. كثيرون منهم بدلوا ولاءاتهم فانتقلوا من التحالف مع العراق الى الحضن السوري الدافئ. وهؤلاء هم اليوم من عاد وتولى العمل على خط بيروت - بغداد، وهو احد الخطوط الموازية لخط النفط مقابل الغذاء. لكن الأمر في لبنان تجاوز هؤلاء "الناشطين"، اذ يبدو ان لبنان خط الدفاع الأول عن النظام العراقي، وربما التقى مع بعض مصر في ذلك. اليافطات في الشوارع اللبنانية حملت عبارات ظهر جلياً قدر من الارباك في كتابتها. فميل كاتبيها الى الدفاع عن النظام في بغداد واضح، لكن ثمة قدراً قليلاً من الخجل، وهنا مصدر الارباك. فيكتب مثلاً على يافطة في بيروت عبارة: "العراق هو الصخرة التي ستتحطم عندها المؤامرة الأميركية". لكن الخجل الذي يلف نشاط الناشطين على خط بيروت - بغداد شرع بالتبدد في الأيام الأخيرة. فهذا رئيس المؤتمر القومي العربي معن بشور يظهر على التلفزيون ويتحدث عن لقائه بالرئيس العراقي صدام حسين، مؤكداً معنوياته المرتفعة وتأمله الدائم في مستقبل الأمة العربية. بعد استعراضك هذه الحقائق تقول لا بأس. فلبنان مطلوب منه ان يكون فاتورة المصالح الاقليمية المتجددة دائماً، وتطلب من صديقك العراقي تفهم ما نحن فيه. المسألة شخصية وصديقك هذا لن يخسر كثيراً اذا ما طويتما الحديث. لكن اليوم الثاني حمل ما هو افدح. اذ يبدو ان المطلوب صار اكثر من حافلات التضامن التي تنقل ضيوفاً لبنانيين على شعب جائع. فقد تحول لبنان الدولة ايضاً الى خط دفاع اول عن النظام العراقي في مؤتمر وزراء الخارجية العرب، متجاوزاً مصالحه الفعلية مع عدد من الدول التي طالما يممنا طرف صناديقها طلباً للمساعدة. انها الكويت المساهم الأول في الدعم والقروض الطويلة الأجل ومشاريع نزع الألغام وبناء المستشفيات. ويبدو ان لبنان الضعيف والمنتهك خارج ذلك البحث المحموم عن المصالح الوطنية، تلك العبارة التي صارت ملازمة لتصريحات المسؤولين في الدول التي على حافة هذا الحدث. علينا من جديد ان نخدم مصالح اولياء امورنا من دون ان نفكر بما سيجره علينا ذلك. صديقنا الشيوعي العراقي عاد الى الحديث مجدداً عن مسؤوليتنا تجاه القوافل اللبنانية الى بغداد. وقال: "ان لبنان الذي اقام دعوى في محاكم دولية ضد آرييل شارون لاشرافه على ارتكاب مجزرتي صبرا وشاتيلا، هو نفسه الذي استقبل قبل ايام علي حسن المجيد علي الكيماوي الذي احرق حلبجة وأغرقها بالمواد الكيماوية، ولم نسمع صوتاً لبنانياً واحداً يسأل عن المسؤولية الأخلاقية التي يرتبها استقبال هذا الرجل". كان من الصعب هذه المرة طلب التفهم، خصوصاً ان حافلة جديدة اطلقها معن بشور الى بغداد أخيراً ولنا فيها أصدقاء كثر.