هل من الممكن ان نطرق قضايا الترجمة ومسألة الأنا والآخر في ما وراء الامانة والخيانة، بعيداً عن مفهوم الجدل وعن نظرية الاستلاب؟ للاجابة عن هذا السؤال المزدوج، اقترح على القارئ ان ننطلق من تأمل نصين اساسيين، احدهما مأخوذ من شذرات ف. شليغل، والآخر من "خواطر الصباح" لعبدالله العروي. يقول شليغل: "يتّسم العرب بطبع مجادل الى ابعد الحدود. فهم، من بين الأمم جميعها، اكثر الأمم قدرة على النفي والاتلاف. ما يميز فلسفتهم في روحها هو ولعهم المرضي بإتلاف الاصول والقضاء عليها بمجرد ان تتم الترجمة". وكتب عبدالله العروي في خواطره: "في الوقت نفسه وصلت رسالتان من بيروت تحملان الطلب نفسه: الترخيص بنقل "الايديولوجيا" الى العربية. ماذا كان يكون رد القارئ المشرقي لو ألّفت الكتاب اصلاً بالعربية كما كانت نيتي أاول الأمر؟ الاهمال من دون شك. كل اتصال بيننا المغاربة او العرب او المسلمين يمر عن طريق الغرب، كما هو حال الاوروبيين اليوم بالنسبة الى اميركا. هذا هو مؤدى الكتاب في الواقع". الاشكالية التي يشترك في طرحها هذان النصان تتعلق بعلاقة الترجمة بالآخر. فبينما يحاول النص الاول ان يقف عند العلاقة التي اقامتها الثقافة العربية الكلاسيكية بالنصوص التي نقلتها الى لغتها، يحاول الثاني ان يعين العلاقة التي تقيمها الثقافة العربية المعاصرة مع ذاتها وآخر، والدور الذي تلعبه الترجمة في ذلك. لا يهمنا هنا، بطبيعة الحال، الوقوف عند نص شليغل في محتواه الايديولوجي. كما اننا لسنا بحاجة الى اختبار مدى صدقه في حرفيته، ولنكتفِ بالتساؤل عما اذا كانت النتائج التي تتمخص عمّا يثبته تفصح عن واقع الترجمة في ثقافتنا التقليدية؟ لتحديد تلك النتائج لنتساءل في البداية عما يعنيه شليغل بإتلاف الأصول، او كما يقول هو: "اتلافها والالقاء بها جانباً"؟. انه يعني ان الثقافة العربية الكلاسيكية كانت، عندما تنقل النص الى لغتها، تؤقلمه وتضمه اليها، كانت تحمله على الرضوخ وتقضي على عنصر الغرابة فيه فتبتلعه وتدخله في دائرة الانا شعوراً منها انه لم يعد آخر. لذا فسرعان ما تستغني عنه كأصل بعد ان "ترقى" به الى لغتها. في اطار علاقة القوة هذه، والتي يقهر فيها كل اختلاف نفهم ان تولد تلك الترجمة مكتملة منذ الوهلة الاولى، كما نفهم الا تتهم الترجمة الا من جانب واحد، فتنطلق من اللغات الاخرى نحو العربية، وليس العكس. ان الثقافة الكلاسيكية كانت تعتبر ان لغة الثقافة هي العربية، لذا فإن القدماء الذين كان حملة العلم فيهم "أكثرهم العجم"، "وان كان منهم العربي في نسبته، فهو عجمي في لغته" كما قال ابن خلدون، ان العرب كانوا يشعرون على رغم كل ذلك انهم لم يكونوا يخاطبون الا قراء يتقنون العربية. والترجمة الوحيدة التي كانوا يتصورونها هي اما للنقل الى العربية او الشرح والتعليق والحاشية، اي ترجمة داخل اللغة نفسها، ان شعور القدماء بنوع من الاكتفاء الذاتي، وبأن أدبهم لا يهم في مجمله الا من يتقن العربية جعلهم يعمدون الى ضرب الحصار على ثقافتهم، ولم يكتفوا بنبذ الترجمة من تفكيرهم، بل "حرصوا" من غير عمد، على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل" عبدالفتاح كيليطو فطوروا اساليب تستعصي على النقل. لعل هذا الانغلاق هو سر ما يفسر كون كبار فلاسفتنا لم ينتَبْهم الشعور مطلقاً بالربط بين اعادة التأويل والشرح، وبين اعادة الترجمة، والرجوع من جديد الى الأصول. ويتعذّر علينا نحن الآن ان نتفهم عدم شعور فيلسوف مثل ابن رشد، وهو يقرأ او لنقل بتعبير معاصر: وهو يعيد قراءة المعلم الأول، بضرورة اعادة الترجمة على غرار ما نلحظه اليوم عند كبار المفكرين. لكن ما يثير استغرابنا اكثر هو استمرار هذه العلاقة عند بعضنا حتى اليوم. أليست هذه هي العلاقة التي ما نزال نقيمها مع النصوص الاغريقية؟ فمن منا يشعر، وهويعيد قراءة جمهورية افلاطون او اورغانون ارسطو، بضرورة الرجوع الى هذه النصوص في اصولها؟ بل اننا نلاحظ امتداد هذه العلاقة الملغية للآخر حتى مع النصوص المعاصرة ويكفي ان نتذكر بعض النصوص التي نقلت الى العربية، ومنذ عهد غير قريب، كزرادشت نتيشه او فرتر غوته، دون ان تعرف امتدادا او تثير انتباهاً او تطرح اشكالاً او تلج شبكات جديدة من العلائق او تدخل في حوار مع الثقافة المنقولة اليها؟ انها نصوص تنقل الى العربية نقلاً ولا تترجم اليها. وقبل ان نعود للتساؤل عما قد يكون وراء ذلك، لنحاول تحديد العلاقة التي تربط الثقافة العربية المعاصرة بآخرها من خلال نص العروى. فمقابل الذوبان في الأنا الذي رأينا انه طبع العربية الكلاسيكية، نجد شكلاً آخر للذوبان يطبع الثقافة العربية المعاصرة يتم في اتجاه معاكس. يقول العروى انه لم يكتب مؤلفه في الايديولوجية العربية المعاصرة بغير العربية، لكان مصير ذلك المؤلف في العالم العربي هو الاهمال. لعل اهم نقطة يؤكدها العروي هنا هي ان المعني بالنص، حتى عندما يكتب لغة اجنبية هو القارئ العربي. هنا تغدو الترجمة هي الطريق الموصلة الى القارئ المعني. لكي يتلقى القارئ العربي النص يحسن، بل ينبغي ان يصله مترجماً، ينبغي ان ينقل اليه عبر لغة اخرى. فعلى عكس الموقف الاول، هنا لا بد ان يتدخل الآخر وسيطاً بين العربي المؤلف والعربي القارئ، بين العربي المبدع والعربي الناقد. في مكان آخر من الخواطر، وتفسيراً لعدم اقدام العرب على الكتاب نفسه يقول العروي: "عندما يتعرض الفرنسيون بالنقد سيجترئ عليه الكثيرون بالاعتماد على ردود الخصم ويكون في ذلك السلوك اثبات لما جاء في الكتاب من ان العرب يجيبون دائماً على اسئلة يطرحها الغرب". فكأن المثقف العربي لا يمر الى ذاته اليوم الا عبر الآخر، ولا يتكلم لغته الا عبر لغة اخرى. فلا معنى هنا لما نكتبه او نقرأه الا في ترجمته. اننا اصبحنا نكتب كي نترجم، مثلما اننا نترجم كي نكتب. فمن منا يستطيع اليوم ان يكتب من غير ان يترجم. معظم نصوصنا ترجمات. كتاباتنا في معظمها كتابات ثانية. اصولنا فروع. كيف يمكن والحالة هذه الا نميز بين البدايات الزمنية والاصول؟ والاغرب من ذلك ان منا من يعمل هو نفسه، بعد ان يكتب بغير العربية، على ان يترجم هو نفسه ما قد كتب. وهذا ما سيحصل للاستاذ العروي وبالضبط مع هذا المؤلف عينه. يشير عبدالفتاح كليليطو في كتابه الاخير الى ان بعض الروائيين العرب يكتبون وهم يفكرون في مترجمهم المحتمل. انهم يبدعون بدلالة الترجمة المحتملة فيعملون على تيسير مهمة المترجم باجتنابهم التعابير والاحالات التي قد لا تتلاءم مع اسلوب لغة أخرى. وغالباً ما ينتظرون ظهور ترجمة لما كتبوه، او يعملون هم انفسهم على تيسير الظروف لترجمتها الى اكثر من لغة، وحينئذ وحينئذ فقط فحسب، يشعرون بالفعل بقيمة اعمالهم. ندرك دلالة ذلك ومغزاه اذا علمنا ان كاتباً مثل الجاحظ او شاعراً مثل المتنبي او فيلسوفاً مثل ابن رشد لم يكن يأمل، ولم يكن يتوقع، بل لم يكن يتصور، وبالاولى لم يكن يعمل، على ان ينقل الى لغة غير العربية. لقد غدت ابداعاتنا تتم بدلالة الترجمة، فكأن الاصول هنا مفعول لترجماتها، فحتى ان كان لا بد وان نتكلم عن خيانة فربما ينبغي ان نقول مع بورخيس "ان الاصول هي التي تخون ترجماتها". نقطة مهمة لا ينبغي ان نمر عليها وردت مرتين في نصي "الخواطر" اللذين اوردناهما، وهي التي يؤكد فيها الاستاذ العروي ان واقع الترجمة في العالم العربي يؤكد محتوى كتاب "الايديولوجيا". ان واقع الترجمة هو واقع الفكر العربي، واقع الثقافة العربية المعاصرة. فهذه الثقافة اليوم لم تعد تدرك ذاتها، ليس فقط الا عبر آخر، وانما عن طريق الادراك الذي للآخر لها، فهي اذن لا تحيا الترجمة كحركة تأليف ونشر، وانما كاسلوب عيش ونمط وجود. وهكذا فقد اصبحنا لا نقرأ ادبنا ولا نكتبه، الا مقارنين موازنين "مترجمين". فليست المقارنة وقفاً على بعض المتخصصين منا. انما تعم كل من يقترب من الثقافة العربية ويقاربها. ان القارئ الذي يطلع على نص عربي سرعان ما يربطه بصفة مباشرة، او غير مباشرة، بنص اوروبي او لنقل بالاولى انه لا يطلع عليه الا بعد ان يربط بنص اوروبي: وهكذا فهو لا يقرأ حي بن يقظان الا ليقارنه بروبنسون كروزو، ولا يقرأ المتنبي الا ليبحث فيه عنه نيتشه، ولا رسالة الغفران الا ليجد فيها الكوميديا الالهية، ولا اللزوميات الا بحثاً عن شوبنهاور ولا دلائل الاعجاز الا بحثاً عن سوسور، ولا المنقذ من الضلال الا بحثاً عن ديكارت، ولا تهافت الفلاسفة الا بحثاً عن هيوم، ولا المقدمة الا بعين أ. كونت. "وويل للمؤلفين الذين لا نجد من يقابلهم عن الاوروبيين" كما يقول كيليطو. الا ان هذا الربط يذهب ابعد من ذلك كما نعلم، وهو يحاول ترجمة الاجناس الادبية ذاتها، ويتساءل عما يقابل جنس "الرواية" في الادب العربي، وعما يقابل "المسرحية" وعما يقابل l'essai كما يتساءل هل للمقامة ما يترجمها خارج الادب العربي؟ وهل لعلم العمران ما يضاهيه؟ الآن وقد استخلصنا النتائج التي تتمخض عن النصين اللذين جعلناهما منطلقاً لتأملنا، لنستاءل عما يجمع بينهما؟ ونحن نستطيع ان نؤكد بناء على ما سبق ان الثقافة العربية في الحالتين كلتيهما تلغي الاختلاف اما بجر الآخر نحو الذات، او بإذابة الذات في الآخر بحيث تكون مهمة الترجمة اساساً هي توليد القرابة واستبعاد الغرابة. لسنا هنا مطلقاً بصدد التحسر على هوية ضائعة وتحويل نظرية الترجمة الى فرع من فروع الاستلاب. اننا نسعى الى طرح مسألة الترجمة في ما وراء الامانة والخيانة، لكن ايضاً بعيداً عن كل نزعة انسية، ودون اغفال وضعية الصراع، الوضعية البابلية التي تعيشها اللغات، وضعية البلبلة وسوء التفاهم الاصلي الذي يطبع كل قراءة وكل تأويل وكل ترجمة. اننا نروم اقحام الترجمة ضمن علائق القوة التي تحكم الكائن، وتطبع الارادات وتتحكم في اللغات وتسود الثقافات. ذلك ان الأمر لا يتعلق بلعنة تصيب ثقافة دون اخرى. وفي هذا الصدد لا بد ان نرجع الى جملة اعتراضية وردت في نص العروي الذي انطلقنا منا، والتي يشبّه فيها علاقة الثقافة العربية بالثقافة الغربية، بعلاقة الاوروبيين بأميركا. ويكفي ان نذكر ان كثيراً من الكتّاب الفرنسيين اليوم اصبحوا هم كذلك، يأتون الى القارئ الفرنسي عبر اللغة الانكليزية. ولعل اهمهم جاك دريدا الذي كتب نصه الاساسي حول الترجمة باللغة الانكليزية. لا مفر للترجمة اذاً من ان تتم بين لغات تربط بينها علائق قوة. هذه العلائق قد تستثمر في بعض الاحيان لتدخل في عراك مع اللغة الاجنبية لقهرها واستبعاد كل ما في النصوص يتنطع ويمتنع عن الرضوخ. هنا لا تكون الترجمة استشكالية. انها لا تنهزم امام النص ولا تحاول ان تقف عند "ما تتعذّر ترجمته" L'intraduisible، عندما يمكن ان يشهد على غرابة وبعد ومسافة و"غيرية"، وبالتالي على امتناع عن الرضوخ والانصياع لا تكون الترجمة هنا استراتيجية لتوليد الفوارق تفتح اللغة على "خارج"ها، وتفتح الغريب، بما هو غريب، على فضاء اللغة المترجمة. ذلك ان هذا الانفتاح رهين بالاعتراف بالآخر كآخر، والوقوف عند "ما تتعذر ترجمته" كما يؤكد غوته في احدى رسائله عندما يكتب "لا ينبغي ان نخوض في عراك مباشر مع اللغة الاجنبية. ينبغي ان نتوصل الى ما لا يقبل فيها الترجمة، وان نبدي شيئاً من الاحترام ازاءه. اذ في هذا تكن قيمة كل لغة، ويتجلى طابعها الخاص". هذا الوقوف عند "ما تتعذر ترجمته" يتنافى بطبيعة الحال مع اتلاف الاصول. انه على العكس من ذلك اعتراف ضمني بالحاجة الدائمة الى الاصول والرجوع اليها والاستئناس بها. انه تأكيد بأن الترجمة ابداع متواصل وانها لا يمكن ان الآخر ذاته، وانها ليست هي النص الذي كان سيكتبه المؤلف لو انه تكلّم لغة المترجم وان المسافة بين الذات والآخر لا يمكن ان تلغى الغاءً تاماً، وان النص المترجم ما يفتأ يعلق بترجمته، وان كل ترجمة تظل شفافة لا تستبعد النص المترجم ولا تصبح بديلاً عنه. لعل هذا ما يفسر ظهور منشورات مزدوجة اللغة. ولعل هذا هو ما يفسر غيابهما في ثقافتنا. واقصد تلك المؤلفات المرايا التي تضع امام قارئها ومنذ البداية، النص وترجمته، الأصل ونسخته، وجهاً لوجه، معترفاً بشفافية النسخة واحالتها الضرورية الدائمة الى النص الاصلي، طالبة من القارئ ان ينتج نصاً ثالثاً ويولده بمقارنة النصين وعقد "قران" بينهما. هذا العقد، ككل عقد، يحترم الطرفين كطرفين. اي انه يكرس الغرابة في الوقت الذي ينتج فيه قرابة، ذلك ان الاصول اذ تبقى وتدوم سرعان ما تدخل في مسلسل الاستنساخ اللامتناهي فتتجدد وتتحول وتغترب. عنصر الغرابة والتحويل يبعث في النص المترجم حيوات اخرى، ويحوله ويجدده ويقحمه في شبكة جديدة من العلائق، ويجعله منفتحاً على ثقافات لم يكن ليتوقع الحياة داخلها. كتب غوته بمناسبة ظهور الترجمة الانكليزية لثلاثية شيلر: "ان المترجم لا يسدي خدمة لأمته فحسب، وانما حتى للأمم التي تتكلم اللغات التي ترجم اعمالها. فقد يحدث ان تمتص امة من الامم رحيق عمل من الاعمال وتستنفد قواه، فلا يبق مجال للتمتع بذلك العمل ولا للاستفادة منه والارتواء من معينه. وهذا يهم الالمان الذين سرعان ما يلتهمون ما يعرض عليهم من اعمال، فيقضون عليها ويذيقونها شتى محن التقليد والمحاكاة. لذا فلا غرابة ان تبدو لهم ابداعاتهم الخاصة وقد انتعشت واسترجعت حياتها بفعل ترجمة جيدة". هذا الشعور يعبر عنه غوته نفسه بعد ان اطلع على ترجمة لانينيه لاحدى قصائده: "لم اقرأ منذ سنين هذه القصيدة التي اعزها من بين جميع قصائدي، والآن انا اتأملها كما لو كنت اتأمل مرآة. والمرآة كما نعلم تتوفر على قوة سحرية جبارة. ها انا ارى الآن احساسي وشعري، في الوقت ذاته، مطابقاً لنفسه متبدلاً متحولاً يقطن لغة اكثر احتمالاً. لقد تبيّنت ان اللاتينية تنحو نحو المفهوم فتحول ما يظل في اللغة الالمانية مقنعاً متوارياً بنوع من البراءة". يجسد لنا غوته العظيم في هذا النص الكثيف لا فعالية الترجمة وقوتها المرآتية الجبارة على التحويل وتوليد السيمولاكرات فحسب، وانما اساساً الجدلي الذي يطبع كل ترجمة. ذلك ان الاختلاف الذي يضعه غوته هنا بين اللغة الالمانية واللغة اللاتينية، بين الفكر الذي يعتبر الطبيعة احتشاماً وتقنعاً وتوارياً، وبين ذاك الذي ينحو نحو المفهوم والوضوح، ان هذا الاختلاف يتخلل كل ترجمة، بل يطبع عمليات توليد المعاني. كل ترجمة هي جدل عنيف بين الروح الجرمانية والروح اللاتينية، بين الفكر التركيبي الذي يجعل المعاني نتائج جهد وعراك وعنف، وبين الفكر التحليلي الذي يبلغها في حضورها ووضوحها، بين الفكر الذي يضع سوء التفاهم اساساً لحياة المعنى ويجعل الدلالات بنات الليالي المعتمة وبين ذاك الذي يراها عند الصباحات الوضاءة. هذا العراك والعنف لا بد وان يجعل مرآة الترجمة منكسرة. مما يضعنا في النهاية، لا امام اصل ونسخة، وانما امام لعبة مرايا يغدو فيها الاصل نسخة والانا آخر بحيث ان التحول الذي يسري على الآخر سرعان ما يلحق الذات نفسها. انه يكف عن ان الذات في بعد عن نفسها، وانها آخر بالنسبة لذاتها. ذلك ان الترجمة لا تحول النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله، تحول في الوقت ذاته اللغة المترجمة. وفي هذا الصدد كتب احد المنظرين الالمان: "ان احسن ترجماتنا الالمانية تنطلق من مبدأ خاطئ. وهي تزعم اضفاء الطابع الالماني على السنسكريتية والاغريقية والانكليزية بدل العكس، اي اعطاء الالمانية طابعاً سنسكريتياً واغريقياً وانكليزياً. ان اعظم الاخطاء التي يمكن للمترجم ان يقع ضحيتها هي ان يعمل على تجميد الحالة التي توجد عليها لغته بفعل الصدفة، عوض ان يخضعها للدفع العنيف الذي يتأتى من اللغة الاجنبية" بانفيتز. لعل هذا ما يبرر رائحة اللغتين الفرنسية والانكليزية التي اخذنا اليوم نشتمها في نصوصنا العربية حتى غير المترجمة منها. ذلك ان المترجم كما يقول ولتر بنيامين لا بد وان "يفجر الاطر المنخورة للغته". على هذا الاساس فليست الترجمة هي ما يضمن حياة النص اي تحوله ونموه وتكاثره فحسب بل ما يضمن حياة اللغة والفكر. كتب هايدغر، وبالضبط تقديماً لاحدى الترجمات الفرنسية لكتبه: "بفعل الترجمة يجد عمل الفكر نفسه وقد تقمص روح لغة اخرى. وبذلك فهو يتعرض لتحول لا محيد عنه. الا ان هذا التحول قد يغدو خصباً لانه يبرز الطرح الاساسي للسؤال على ضوء نور جديد". كتب هايدغر هذه المقدمة سنة 1938، اي بالضبط السنة التي ظهر فيها اول كتاب لسارتر، متنبئاً بالاخصاب والانتعاشة التي سيعرفها فكره في ترجماته الفرنسية، والحياة التي ستعرفها الفلسفة الالمانية في الفكر الفرنسي، ليؤكد بذلك ان ازهى عصور الفكر لا بد وان يقترن بازدهار حركة الترجمة. ذلك ان الترجمة ليست ابداً علامة على تبعية. انها ليست قهراً للآخر ولا ارتماء في احضانه، وانما هي تحول وتجدد وترحال وانفتاح وتلاقح وتكاثر وحياة.