في خطوة مفاجئة دعت القاهرة الجامعة العربية في 14 شباط فبراير الى التحضير لعقد قمة عربية طارئة تعقد في 22 شباط فبراير الجاري، على أن تكون الأزمة العراقية بندها الوحيد. وجاء في التبرير الذي قدمه الرئيس مبارك لدعوته أن تصيغ القمة الطارئة موقفاً عربياً يلتزم الشرعية الدولية، وأن تفتح نافذة للحل السلمي بدلاً من الحرب، مع الإقرار بأن قرار الحرب يتخذ في عواصم أجنبية، وأن المطلوب هو التأثير في هذا القرار. الخطوة مفاجئة بكل المقاييس، فقبل أيام قليلة لا تزيد عن اسبوع واحد فقط، وكما وضح في اجتماعات شرم الشيخ التي حضرها قادة سورية وليبيا ووزير الخارجية السعودي وامين الجامعة العربية، كان الموقف المصري واقفاً بالمرصاد أمام عقد قمة طارئة أو حتى تقديم موعد القمة العربية الدورية المقرر عقدها في الأسبوع الأخير من آذار مارس المقبل. ومثل هذا التحول من الرفض الصارم الذي عبر عنه وزير الخارجية احمد ماهر مرات عدة في الأيام المنصرمة إلى تبني الفكرة والتعجيل بها، يثير الكثير من التساؤلات، ويفتح الباب أمام الكثير من التفسيرات والشروح. وأياً كان التفسير الذي يمكن تقديمه، فسيظل قاصراً عن تقديم شرح واف لدوافع القرار المصري وملابساته، كما سيظل هناك تساؤل جوهري حول مصير القمة الدورية نفسها، والتي يفترض أن يحل موعدها بعد شهر واحد من القمة الطارئة. فبعد أن كان الاتفاق المعلن أن تنقل قمة البحرين إلى مقر الجامعة بالقاهرة، وان يظل ملك البحرين رئيساً لها، بات الأمر الآن محل شك كبير، سواء في عقد القمة الدورية في مقر الجامعة العربية أو في بلدها الأصلي. ومثل هذا الشك من شأنه أن يضعف كثيراً من الآمال المعلقة على مبدأ استمرار عقد القمة الدورية في موعد محدد من كل عام كمدخل لإعادة تنظيم العلاقات العربية - العربية ودفع دماء جديدة في شرايين العمل العربي المشترك الذي يعاني الكثير من اوجه القصور والضعف، سواء لغياب الالتزام من قبل الدول الأعضاء، أو نتيجة فقدان فكرة العمل العربي المشترك ذاتها بريقها كمدخل لإقامة نظام إقليمي فاعل ومؤثر. وإذا كان هذا الشك من شأنه أن يؤثر في قناعة المدافعين والآملين خيراً في جعل الجامعة العربية نموذجاً ثانياً، ولو بعد حين، يضاهي النموذج الأوروبي في الوحدة والعمل الاقليمي، فإنه سيمثل بدوره عنصراً ضاغطاً على القمة الطارئة نفسها حتى لو عقدت بكامل أعضاء الجامعة، وهو الأمر الذي يبدو محل شك كبير. إذاً، ما بين القمة الدورية والقمة الطارئة علاقة تضاد موضوعية سواء لاعتبارات خاصة بالزمن والتوقيت أو طبيعة القضية المستهدفة، فإذا كانت الطارئة تهدف إلى تسويق حل سياسي سلمي يسهم بدوره في تقوية الموقف الدولي الذي تقوده فرنسا وألمانيا بالدرجة الأولى، ومن ورائهما روسيا والصين، وذلك في مواجهة الموقف الذي تقوده الولاياتالمتحدة وبريطانيا الساعي إلى شن حرب ضروس على العراق، فإن الأمر يمكن النظر إليه باعتباره يصب في حماية النظام العربي وحماية بلد عربي، ومن ثم فهو يخدم مصلحة استراتيجية عليا، تخص العرب جميعهم بما في ذلك نظامهم الإقليمي، وهي مصلحة يمكن في سبيلها التضحية، أو بالأحرى تبرير التضحية بعقد القمة الدورية المقررة أصلا في البحرين، والتي يبدو موقفها النهائي غامضاً حتى اللحظة. أما إذا كان الهدف من القمة الطارئة مجرد إصدار بيان يمكن تفسيره على ألف وجه، أو تغطية الموقف الأميركي، أو تقديم التبرير له لشن عدوان يفتقد أدنى درجات المشروعية، فإن الأمر هنا سيتحول إلى محطة تدفع بالنظام العربي كله إلى الهاوية بأسرع ما يمكن. فالتضحية لن تقتصر فقط على الدورية، بل بالنظام العربي نفسه، والذي يراه بعض القادة العرب يحتضر، ولا يستطيع أن يفعل شيئا سوى الانزلاق إلى قدره المحتوم. والحق إن الكثير من المراقبين لا يمكنهم إخفاء تشاؤمهم مما وصلت إليه حال النظام العربي بجامعته ودوله ومؤسساته. ومن غير المتصور أن تقدم القمة الاستثنائية معجزة ما، في ظل هذه الملابسات العربية والإقليمية، والتي تفضح العجز والوهن العربي بصورة لم تحدث من قبل. وفي السياق ذاته لا يمكن لأحد أن يخفي تعجبه من تحول الديبلوماسية المصرية من نقيض إلى آخر ما لم يكن الأمر مدفوعاً بعوامل ومبررات قوية. وهنا لا يمكن لتبريرات شائعة من قبيل الدور المصري القيادي أن تقدم التفسير المناسب، و لا يمكن أيضاً الاستناد إلى مجرد الحاجة إلى إعلان موقف عربي جماعي أو شبه جماعي إزاء أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات، فإذا كانت هذه الحاجة مجرد دافع مصري، فهي قطعاً ليست دافعاً لدى العديد من الدول العربية الأخرى. ففي السابق، وفي مناسبات مشابهة، تواترت فيها دعوات عربية شتى الى عقد مؤتمر استثنائي لمعالجة قضية أو تطور معين كان يستحق بالفعل اجتماعاً عربياً طارئاً على أعلى مستوى، كانت القاهرة تلحّ على الإعداد الجيد وعلى تجنب المؤتمرات التي يمكن أن تؤدي إلى انقسام عربي آخر، يزيد لهيب الانقسامات العربية الموجودة فعلاً. وعلى رغم أهمية الإعداد الجيد، فإنه لم يمنع صدور تفسيرات من كل حدب وصوب تلوم القاهرة وغيرها من العواصم التي عارضت عقد قمة طارئة، وعدم بذلها جهداً مناسباً لتوفير أجواء عربية إيجابية ولو في حدها الأدنى تسهم في بلورة عمل مشترك في صورة طارئة أو دورية. ويبدو الوضع الآن مقلوباً إلى حد ما، فالقمة الطارئة تعني بحكم توصيفها التدافع الجماعي لعمل مشترك قابل للتحقق، وذلك على خلفية موقف أو أزمة طارئة فرضت نفسها بصورة مفاجئة، ومن شأن تطورها أن يلحق الضرر بالجميع. وهذا الأمر لا ينطبق في أي من مفرداته على ملابسات الدعوة لقمة طارئة بعد طول معارضة. فالأزمة العراقية ساخنة ومنذرة بعواقب وخيمة على العراق كما على غيره من العرب منذ فترة تزيد على ثلاثة اشهر متصلة، شغلت العالم بأسره، فيما ظل بعض العرب مشغولاً بالإدانة والتحذير، والبعض الآخر مشغولاً بتبرير موقفه الرافض مساعدة جهود الحرب الأميركية أو تبرير انغماسه في تلك الجهود. كما أن الإعداد الجيد الذي يحتاج إلى مشاورات مسبقة ومكثفة لا يتوافق مع جوهر أي دعوة مفاجئة، والعمل العربي المشترك المنشود يبدو غائباً أو غير محدد المعالم. وليس خافياً أن كثيراً من الدول العربية يرغب في تغيير النظام العراقي ولو بالقوة الخارجية، ولعل مكمن قلقها الرئيسي هو في نتائج ما بعد هذا التغيير غير الممكن التحكم في نتائجه مهما كانت الضمانات المكتوبة أو الشفهية المقدمة من القوة الكبري في العالم. كما أن تحقيق توافق عربي، ولا نقول إجماع بشأن إعمال اتفاقية الدفاع العربي لحماية العراق أو تقديم معونة مادية له تبدو ضرباً من المستحيل في ظل الأوضاع الراهنة، ومن يفكر في مطلب كهذا في ظل الملابسات العربية الراهنة يمكن وصفه بالجنون وضياع العقل بسهولة ويسر شديدين. التساؤل إذاً لا يزال يفرض نفسه حول سبب الدعوة، وسبب التحول المصري، وهل لديه ما يقدمه للعراق والنظام العربي والعالم معا. هنا يمكن استعراض إجابات نظرية واجتهادات شتى. فالديبلوماسية المصرية وما يعرف عنها من صلات خاصة مع واشنطن يمكن أن تقدم تفسيرات مختلفة إلى حد كبير. فأحد العبارات اللافتة للنظر التي جاءت في تصريحات الرئيس مبارك التي شرح فيها أسباب دعوته شملت الرغبة في تسهيل حل سلمي، وان الرئيس بوش قبل 10 أيام وفي اتصال هاتفي أكد له - أي لمبارك - رغبته في حل سلمي. والمعروف أن مسألة الحل السلمي هذه لها معانٍ مختلفة، فما يريده الأميركيون ليس بالضرورة هو ما يريده العرب أو بعضهم، أو ما يريده الأوروبيون الرافضون للحرب والنهج الأميركي برمته. وهنا تتداخل مفردات مختلفة مع بعضها البعض من قبيل التنحي الطوعي للرئيس صدام، واستمرار التفتيش الدولي بعد تعزيزه، وعودة القوات الأميركية إلى ثكناتها، أو تصميم قوات دولية تدخل العراق سلميا تحت مبرر نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية والتعجيل بتلك المهمة. وهنا فقد تقدم القمة الطارئة باباً لحل سلمي ذي غطاء عربي يقبل به الأميركيون، ويكون مخرجاً يحفظ ماء الوجه - للرئيس بوش تحديداً - في التراجع عن شن حرب باتت مكروهة ومرفوضة على نحو متزايد إن في الداخل الأميركي أو عبر العالم كله. المقصود هنا أن القمة يمكن أن تسهم في تقديم طريقة تساعد الرئيس بوش على الخروج من مأزق التراجع عن الحرب من دون الانزلاق إلى هزيمة سياسية كاملة أو تمرير نصر سياسي عراقي كامل. بيد أن الأمر يمكن أن يؤخذ على محمل آخر، وربما متناقض جذرياً. فالموقف الأميركي المأزوم وغير القادر على تأمين مساندة دولية شاملة لمبدأ الحرب في إطار الأممالمتحدة، كما ظهر ذلك في جلسة مجلس الأمن الخاصة بعرض تقريري هانس بليكس ومحمد البرادعي في 14 شباط فبراير، ومن قبل في اجتماعات "الناتو"، بات بحاجة إلى غطاء ما يبرر شن الحرب وفق صيغة تحالف الراغبين. وعلينا ان نذكر هنا ان كوندوليزا رايس اكدت ان كلفة عودة الوقت اكبر من الحرب نفسها. والتكلفة المعنية تشمل المال والمستقبل السياسي والمكانة، وهي عوامل تدفع من وجهة النظر الاميركية السائدة الى الحرب. وهنا يمكن أن يلعب الغطاء العربي، ممثلاً في قرار من القمة العربية نوعاً من التعويض عن غياب الأغطية الدولية الأخرى. بيد أن مثل هذا القرار العربي عن القمة الطارئة، وإذا ما تصور أحد أنه قد يصدر بالإجماع أو الغالبية، فهو واهم الى حد كبير. فحتى إذا تصورنا أن هناك بعض العرب بحاجة إلى دعم الموقف الأميركي وتغطيته معنوياً، فإن الغالبية العربية الأخرى لديها موقف مختلف، وتدرك تماماً أن الشعوب والتاريخ لن يرحما أي قائد عربي يتورط في توفير نوع من الشرعية الزائفة لشن حرب غير مبررة على بلد وشعب عربي إرضاءً لواشنطن وصقورها. اللافت هنا أن الدعوة الى قمة عربية طارئة جاءت قبيل جولة الرئيس مبارك إلى كل من فرنسا وألمانيا، وكلاهما تقودان وبشراسة نادرة وحزم غير مسبوق معارضة القوة العظمى الوحيدة، وتسعيان إلى بناء موقف دولي اكثر شمولاً وتماسكاً لإجهاض المسعى الأميركي. ومن دون مبالغة، فثمة شعبية عربية كبيرة وتقدير راق لهذا الموقف، الأمر الذي يصوغ إطاراً من الحرج للنظام العربي وقادته، والمفترض أنهم الأكثر صلة بالعراق وبشعبه. وهنا يمكن أن يجد أنصار التنسيق المصري العربي الأوروبي ضالتهم في أن تقدم القمة موقفاً عربياً جماعياً رافضاً للحرب بكل قوة وضوح، ليدعم الجهد الفرنسي الألماني ويزيد من شأنه وقيمته ويرسخه عملياً. لكن المعضلة المتصورة هنا أن الديبلوماسية المصرية تجد قدراً من الحرج في الميل التام إلى الجانب الأوروبي، خصوصاً إذا كان الأمر في صورة مفاضلة بين أوروبا من جانب والولاياتالمتحدة من جانب آخر. وأياً كان التفسير المقبول، يبقي الأمر معلقاً في ما هو الموقف السلمي الذي سيقبله العرب في قمتهم الطارئة. لكن المؤكد أن أية قمة دورية كانت أم طارئة لن تحافظ على العراق شعباً وموارد وتدفع عنه - في حدود الممكن - قدر الإبادة والتخريب الذي تبشر به الولاياتالمتحدة، ستظل ملعونة أبد الدهر. * كاتب مصري - رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".