Jean Baudrillard. The Spirit of Terrorism. روح الإرهاب. Verso, London. 2002. 52 pages. ما لا يسع المرء نسيانه من أمر حادثة الحادي عشر من سبتمبر ايلول وبعد إنقضاء عام واربعة اشهر على وقوعها، الصدمة البصرية التي صاحبتها: فكانت هناك التلفزة المباشرة للحادثة اولاً، ومن ثم التغطية الإعلامية، المسرفة الصوّر، من خلال التلفزة والمطبوعات اليومية والاسبوعية. لقد كانت الصورة مشهدنا الاول، على ما يذكّرنا الفيلسوف الفرنسي جين بودريار، في نصين هما من بعض أشجع ما كُتب عن هذه الحادثة، وأُعيد إصدارهما مؤخراً في كتاب بالانكليزية. كانت الصورة مستقلة عن المعاني المنسوبة اليها لاحقاً، بل المقحمة عليها. ولئن جعلت الحادثة المذكورة وضع العالم أشدّ جذرية، فإنها ايضاً جذّرت العلاقة ما بين الصورة والواقع. وانه لمن خلال البث المباشر والمتصل، عظّمت الصورة من شأن الواقع، لكنها في الوقت نفسه، إتخذته رهينة. فهي قد ضاعفت الحادثة على شكل غير نهائي، ولكنها، وكما يعمد الإعلام غالباً، حيال حوادث من هذا القبيل، حرفتها وأسبغت عليها صفة الحياد. فهي إمتصت الحادثة، ومن ثم أعادت إنتاجها في سبيل الإستهلاك العام، وبما يُمليه الإستهلاك العام للصوّر مانحة إياها مظهراً غير مسبوق للحوادث، وهو المظهر الذي يشدّد على ان الحادثة لهي "صورة/حادثة". هذه الصورة الحادثة تفيدنا، على ما يزعم الفيلسوف الفرنسي، بأن هذه هي الحقيقة التي لا حقيقة بعدها. هذا هو الواقع الذي يتجاوز الخيال. بيد ان الواقع المطروح، على ما يستدرك بودريار، لم يتجاوز الخيال الا بمعنى انه إمتصه وإكتسب طاقته وبما جعله الواقع المتخيّل. فالواقع في الحقيقة أُضيف الى الخيال ، وهذا ما تبرهن عليه حقيقة ان الذين شاهدوا اللقطة الخبرية، الصوريّة للهجوم، ظنوها لقطة سينمائية. فالمتخيّل لم يعد مرعباً رعب أفلام الكوارث فقط، وإنما مرعباً وواقعياً. وحيث يكون الخيال، اي الصورة في هذه الحالة، هو الأول، والواقع محض إضافة تصير عملية نسب المعنى امراً مفتعلاً، اما التفسيرات التي قد تُساق فلا تخلو من الإقحام والشطط. ومثل هذا التوقف عند حدود العامل "الجمالي"، اذا ما جازت العبارة، ليس بالأمر المريح لمن يشاء إدراج الأمر في سياق خبرمستقيم حول هجوم إرهابي لا يستحق سوى التنديد والإدانة, ويستحق مدبروه سوى العقاب. على ان ما هو غير مريح فعلاً، ومثير للقلق ايضاً، من أمر التوقف عند العنصر الجمالي، انه وإن لا يُرجىء الجانب السياسي ستبعد البُعد الأخلاقي فقط، بل يجعل قراءة لرموز ودلالات الحادثة المذكورة كتلك التي يقدمها بودريار أشد إستجابة لها. ويرى الفيلسوف الفرنسي في إعتداء الحادي عشر من سبتمبر ايلول حادثة عظيمة، ولكن حادثة رمزية ذات دلالات شتى تتفاوت ما بين موقف المتفرجين إزاء ما حصل، والصورة التي إنجلى عنها إنهيار برجي "مركز التجارة العالمي"، وهو الانهيار الذي تكاد الحادثة المذكورة ان تقتصر على صوره. وايضاً لدلالات علاقة التصميم المعماري للبرجين المنهارين بطبيعة السلطة السياسية العالمية في ما بعد الحرب الباردة، وتلازم التعاظم المفرط للقوة العظمى الوحيدة مع نزعة التدمير الذاتي. ان الضمير الأخلاقي الغربي، على ما يجادل بودريار، يرفض حقيقة ان الغربيين قد حلموا هم ايضاً بوقوع هذه الحادثة: "هم الآخرون قد أقدموا على فعلها، بينما نحن تمنينا حدوثها". لكنها الحقيقة طالما ان الجميع هبّ ل"طرد الشرّ" المنتشر في كل مكان. وهذا "الشر" يتمثل في حقيقة ان احداً لا يمكن ان يتجنب الحلم بتدمير سلطة بلغت هذا المبلغ من الهيمنة العالمية. وهذه سلطة العولمة المركزية، بما هي إجتماع قوى شركات ضخمة ودول في إطار يرمز برجا مركز التجارة العالمية اليها. ومعمار هذا الرمز بالتحديد ليرمز الى طبيعة السلطة المركزية الواحدة، الى تسلطّها وهشاشتها في أن معاً. فبرجا المركز لهما توأم، وهذه "التوأمية" بالذات لتدل على سيادة فلسفة إستنساج التصميم نفسه، وبما يراكم من شأن السلطة الواحدة. وبخلاف المباني الشاهقة الاخرى التي تنتشر في نيويورك، فإن برجي مركز التجارة من حيث انهما توأم لا يقران بمفهوم المنافسة، الاقتصادية والسياسية، التي سارت شؤون القرن العشرين بموجبه، ومن خلال مراعاة التوازن ما بين القوى المتنافسة وعدم إستفراد قوة او معسكر بحق تقرير مصير العالم. والمعمار التوأمي لبرجي المركز يدل على إنقضاء هذه المنافسة بعد إنهيار النُظم الإشتراكية وزوال الحدود امام العولمة الأقتصادية وسياسة التدخل العسكري. وما صار هناك من مبانٍ او قوى سياسية وإقتصادية لا ترتفع وتجري تبعاً لحالة منافسة قائمة، وانما تُدرج في سياق عددي وإحصائي على نحو ما تندرج فيه سلسلة مقاصف "ماكدونالد" ومقاهي "ستارباكس". وهذا ما يوضح الموقف المتواطىء للمتفرج. فنظراً لنفوره من النظام المحدد والسلطة المحددة، وبرجا المركز التوأم، في توأميتهما لهما التجسيد التام لهذا النظام، فلقد وجد نفسه يتفرج على ما يتمنى وقوعه. وهذا النفور كوني الطابع، لا يقتصر على كراهية السيطرة الطبيعية من قبل المستغَلين والمنتمين الى ذلك الشطر من العالم المحروم من التمتّع بعوائد العولمة، وإنما يشمل المستفيدين ايضاً. ولعل هذا هو الفحوى الفعلي ل"الشر المطلق"، الذي صير الى الكلام عليه عقب وقوع الحادثة، وبإعتبار ان الشر في كل مكان وانه اشبه ب"موضوع غامض للرغبة". لا يقتصر التواطؤ على الرغبة المضمرة للمتفرج، وانما يظهر على وجه لا شعوري في النظام العولمي السيطرة، وقد تعاظم إستفراده بإدارة شؤون العالم ، وتعاظمت، من ثم مركزيته تعاظماً يجعله هشاً امام اي هجوم يُفلح في إستهداف نقاط ضعفه. فحيال غياب تعدد القوى المتوازنة، يكون الهجوم على النظام المسيّطر أخطر وأبعد أثراُ، طالما إنعدمت البدائل التي يمكن ان تحل محله وتتولى القيام بوظيفته. والأدهى من ذلك ان إنعدام البدائل يمهد أصلاً لما يقع من إرهاب. لكن هذا لا يعني بأن الهجوم الإرهابي كان تعبيراً عن مقاومة نظام مستفرد في السيطرة العالمية على وجه خانق، وحتماً ليس إعلاناً عن صدام الحضارات والأديان. فهذا إرهاب معولم، فيروس، على ما يجادل بودريار، من أعراض العولمة و"إرهاب ضد إرهاب"، حتى وإن سعى نحو تغيير لعبة الصراع الداخلية من خلال إقحام عناصر لم تكن في الحسبان الهجوم الإنتحاري. بل ان هذا العنصر غير المحسوب لم يكن، هو نفسه، بعيداً عن مخيلة نظام بلغ حداً من السيطرة بحيث لم يعد هناك ما يشكل خطراً عليه سوى خطر التدمير الذاتي، الإنتحار. ولقد إستخدم الإرهابيون كل أدوات النظام الحديث، من وسائل الإتصال والمواصلات الى التسهيلات القانونية التي وجدت في سبيل الفاعلية الإدارية الاقتصادية، بطبيعة الحال، فلماذا لا يكون فعلهم الإنتحاري تحقيقاً لهاجس التدمير الذاتي الذي إنطوى عليه النظام المفرط السيطرة؟ وكما قلنا، فهذا كلام غير مريح. وهو غير مريح لانه يبدو أشبه بتعبير موارب عن، اولاً، عداء تقليدي ومجاني ما إنفك البعض يُظهره حيال اي مظهر من مظاهر العولمة او الغرب عموماً. وثانياً عداء عنصري الدافع تجاه الاميركيين على وجه الخصوص، وهو ما نجده شائعاً في أوروبا، وخاصة البلدان الحليفة للولايات المتحدة، فرنسا والمانيا وبريطانيا. وشبهة العداء الفرنسي للأميركيين بيّنة في محاولة بودريار هذه، وفي غيرها من أعماله السابقة. وهي الى ذلك غير مريحة لانها تجادل، وبدرجة من المصداقية والإقناع، بأن حلول المدى القصير ليست هي الحل لمواجهة الإرهاب، هذا في حين ان حلول المدى الطويل تعني مواجهة سؤال العدل، وهناك الكثير من الناس مما لا يشاء مواجهة هذا السؤال. ترى أليس في هذا التنصل من مواجهة سؤال العدل ما يُفسّر سر اسبقية الصورة على المعنى، والجمالي على الأخلاقي؟