أولاً، مع افتراض أن الموقف تجمد عند مستواه الحالي ولم تذهب أميركا إلى الحرب وقرر مجلس الأمن الدولي استمرار عمل المفتشين، فماذا يكون عليه الحال؟ موضوعياً سيكون الحال انتصاراً كبيراً لهذه الإدارة الحالية، فهي نجحت في تغيير قواعد اللعبة بالكامل وألزمت المجتمع الدولي بلعبة جديدة هي التي تقرر قواعدها وتمسك بخيوطها. العراق الآن مذنب إلى أن يثبت براءته... ولديه أسلحة دمار شامل تحت كل سرير إلى أن تقرر أميركا ذاتها امتثاله، وإذا أجمع المفتشون ومعهم كل أعضاء مجلس الأمن الآخرون براءة العراق فلدى أميركا حق النقض / الفيتو. أيضاً، لم يعد أحد يتحدث مثلاً عن رفع العقوبات والحصار عن العراق، بل المطروح هو المزيد منها، لم يعد أحد يتوقف عند نتائج 12 سنة من العقوبات والحصار المستمر وتأثيراتها القاتلة على الشعب العراقي إنسانياً واقتصادياً. لم يعد أحد يتحدث عن قيام مفتشي الأممالمتحدة في السنوات 1991/1998 بتدمير أسلحة عراقية تبلغ ثلاثة أمثال ما دمرته أميركا للعراق في حرب 1991. لقد جرى شطب كل تلك الاثنتي عشرة سنة السابقة وما جرى فيها وفرضت أميركا على المجتمع الدولي التحدث عن العراق كما لو كنا لا نزال في سنة 1990/1991 حينما ألحت أميركا على العالم بأن العراق يملك رابع أقوى الجيوش على مستوى العالم. في الحرب تبين أن هذا غير صحيح بالمرة. بل ثبت أيضاً أن ما قامت به أميركا لم يكن حرباً ضد العراق بالمرة وإنما مجرد حملة تأديبية واستعراض عضلات على المسرح الدولي حشدت له أميركا نصف مليون جندي، ليس لأن الحملة العسكرية تتطلب ذلك ولكن لمجرد أن فواتير التكلفة مضمونة الدفع مقدماً على حساب دول الخليج وحلفا أميركا من اليابان إلى ألمانيا، البعض حتى يرى أن الحملة العسكرية الاميركية ضد العراق في 1991 كانت مربحة اقتصادياً لأميركا تماماً، سواء من خلال الفواتير المباشرة أو من خلال صفقات الأسلحة التي جرى فرضها على دول الخليج أو تكاليف المعاهدات الأمنية والوجود العسكري الأميركي المستمر. الآن، بعد كل ما جرى منذ سنة 1991، تطرح أميركا على العالم عراقاً شيطانياً جديداً لديه كل أسلحة الدمار الشامل نووياً وبيولوجياً وكيماوياً وصاروخيا. أما كيف حدث ذلك في ظل حصار محكم براً وبحراً وجواً فلا بد أن صدام حسين هذا يرتدي طاقية الإخفاء هو وأسلحته. فإذا أخذنا الطرح الاميركي على علاته يصبح السؤال: كيف دخلت تلك الأسلحة الى العراق رغم الحصار؟ ما أسماء الشركات المورّدة وجنسياتها؟ ولماذا صادرت أميركا تقرير العراق 12 ألف صفحة الموجه إلى الأممالمتحدة وصممت على أن تتفحصه هي أولاً قبل وصوله - بعد المونتاج - إلى الأعضاء الآخرين في مجلس الأمن أو حتى لجان التفتيش؟ وحينما يضع المرء نفسه مكان المواطن الاميركي العادي ويتابع الطرح الدعائي المستمر عليه على مدار الساعة فلابد أن يتصور ذلك المواطن أن العراق هو بضخامة وقوة الصين وفرنسا وألمانيا والاتحاد السوفياتي في عز قوته بما يتطلب كل هذه الحشود العسكرية في المنطقة والتخويف من وصول أسلحة العراق للدمار الشامل إلى شوارع المدن الأميركية ذاتها. لم يذكر أحد لهذا المواطن أن أميركا القوة العظمى المسيطرة عالمياً وب280 مليوناً من السكان وأكبر موازنة عسكرية في التاريخ وأكبر اقتصاد عالمي هي الآن التي تدعي أنها المصابة بالخوف والذعر من عراق فقير محاصر يتشكل من 23 مليوناً من السكان وكل إنتاجه القومي أقل من نصف من واحد في المئة من الإنتاج السنوي الأميركي فضلاً عن أنه لم يكن منتجاً للسلاح في أي وقت وكل ما لديه من أسلحة حتى سنة 1990 كان يعلم الولاياتالمتحدة وبتشجيع من استخباراتها بالحجة الاميركية المعروفة: هو شيطان ولكنه يعمل لحسابنا. في الموقف الحالي أيضاً حققت أميركا لنفسها مكاسب هائلة بغير إعلان ولا ضجيج ولا معارضة إقليمية. قواعد عسكرية ضخمة جديدة أقامتها في المنطقة وأساطيل وطائرات تراقب المياه والأجواء الدولية لكل المنطقة المحيطة بالخليج شرقاً حتى البحر الأحمر غرباً وسلطة أعطتها أميركا لنفسها - ولا يسمح لها بها أي قانون - بتفتيش أي سفينة عابرة في المياه الدولية. وعشرات الآلاف من الجنود الاميركيين يتدفقون على بلاد لا يعرف مواطنوها بما يجري إلا من خلال ما تذيعه أميركا نفسه. هكذا أصبح الوجود العسكري الاميركي الكثيف مسألة عادية بحد ذاتها ومعلنة على الملأ بغير تأفف للمرة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية. في هوس الحرب الذي فرضته هذه الإدارة الاميركية على الرأي العام الاميركي، وعبأت له إعلامها الدعائي بدرجة مدهشة، جرى تغييب حقائق أساسية أو استخدام حقائق بعكس مضمونها، الرئيس جورج بوش مثلاً ألح على الشعب الاميركي بأن مهمة المفتشين لن تنجح في العراق لأن البلد متسع بمساحة ولاية كاليفورنيا، هذا على الورق. أما في أرض الواقع فإن العراق جرى اختصاره منذ سنة 1991 إلى مجرد الثلث. أما ثلث العراق جنوباً وثلثه شمالاً فأصبحا خارجين تماماً عن سلطة الحكومة المركزية، بل وتحت حماية جوية أميركية / بريطانية على مدار الساعة، حماية مفروضة قسراً بحكم القوة السافرة ولا علاقة لها بأي قرارات من مجلس الأمن والأممالمتحدة. والعراق غني ببتروله الذي يحقق له موارد تبلغ عشرين بليون دولار سنوياً، هذا أيضاً على الورق، إنتاج البترول العراقي تراجع بشدة لعدم صيانة الحقول ومعدات الإنتاج بحكم الحصار. ولأن ما يتبقى له للتصدير تتسلم الأممالمتحدة ثمنه وهي التي تقرر أين تذهب تلك الحصيلة حسب برنامج "البترول مقابل الغذاء" وحتى إذا نحينا كل هذا جانباً فإن العراق مكبل الآن بديون تبلغ 380 بليون دولار بحيث لو اكتملت له قدرته التصديرية يوماً ما في المستقبل - يعني بعد رفع الحصار - فسيحتاج إلى 19 سنة على الأقل لتسديد الديون المحكوم بها عليه منذ سنة 1991. وبالتعبير الأميركي الذي وضع قبل سنة 1991، أصبح العراق بحكم العقوبات والحصار موضوعاً داخل صندوق محكم الإغلاق. وحينما سئلت مادلين أولبرايت وقت كانت وزيرة للخارجية الاميركية في عهد بيل كلينتون عن رأيها في موت عشرات الآلاف من أطفال العراق سنوياً بسبب الحصار أجابت بغير أن تطرف لها عين: هذا ثمن بسيط يبرر استمرار الحصار وسجن العراق داخل صندوق العقوبات. وأمام هوس الحرب الذي تلح به أميركا على العالم قال مسؤول فرنسي أخيراً وبكل استغراب: "العراق موجود في علبة مقفلة يقوم المفتشون الآن بعملهم في داخلها، فلماذا الحرب؟". وحينما ألحت إدارة جورج بوش طوال شهور على حلفائها لكي يدعموها في الحرب ضد العراق بحجة أن في حوزته أسلحة دمار شامل، كان كل ما طلبوه هو الأدلة، وأن تضع أميركا تلك الأدلة على المائدة، الإدارة الاميركية لم تقدم أية أدلة، لا إلى مجلس الأمن ولا إلى الأممالمتحدة ولا إلى المفتشين الدوليين ولا حتى إلى حلفائها في منظمة حلف شمال الأطلنطي. أخيراً وبعد أشهر من المراوغة والتهرب طرح وزير الخارجية الاميركي على مجلس الأمن ما قال إنه الأدلة المفحمة، ليس فقط لحيازة العراق أسلحة دمار شامل، وإنما لعلاقات ثابتة بين العراق وأسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة". جزء من الأدلة قدمتها الاستخبارات البريطانية لأميركا، واعتبرتها أميركا بالغة الأهمية بما جعل وزير الخارجية الاميركي يكرر شكره لبريطانيا على دقة معلوماتها المفحمة هذه، من اليوم التالي مباشرة تبين أن 11 صفحة من بين 19 صفحة قدمتها الاستخبارات البريطانية مسروقة بالكامل، وبأخطائها المطبعية، من قصاصات منشورة بالصحف في ظروف أخرى، وكذلك من بحث أكاديمي منشور في العام الماضي ويعتمد على ما كان مفتشو الأممالمتحدة قد حصلوا عليه من العراقيين في سنة 1991. الرئيس الاميركي نفسه، ووزير خارجيته، نسبا إلى لجان التفتيش الحالية وقائع لم تحدث بالمرة. هذا بحد ذاته اضطر هانز بليكس كبير المفتشين إلى أن يعقد مؤتمراً صحافياً في مقر الأممالمتحدة لكي يعلن فيه أنه لم يحدث أن وجد المفتشون أمامهم عملاء استخبارات عراقية متنكرين كعلماء.. ولم يحدث أن العراق قام بتهريب علماء أو اسلحة إلى سورية والأردن تفادياً للتفتيش. كما لم يحدث أن سلطات العراق تسربت إليها مسبقاً معلومات عن الأماكن التي سيقصدها المفتشون داخل العراق. حتى الرئيس الباكستاني برويز مشرف نفى تماماً ما ذكره وزير الخارجية الأميركي كولن باول من أن السفارة العراقية في إسلام أباد كانت نقطة اتصال بين تنظيم "القاعدة" وبغداد. فإذا كانت أميركا متأكدة من ذلك كما تقول. فلماذا لم تخطر حكومة باكستان بذلك مطلقاً؟ لا إجابات أميركية، مجرد هوس الحرب، بل كان ملفتاً أيضاً - في هوس الحرب أن تستخدم الإدارة الاميركية عنواناً مختلفاً في كل مرة لتبرير قيامها بضرب العراق. في البداية لإرغام العراق على إعادة المفتشين، وبعد أن اتفق العراق مع المفتشين قامت أميركا بإلغاء الاتفاق وقالت إنه لابد من إعطاء المفتشين سلطات استثنائية أولاً. بعد أن حصل المفتشون على السلطات الاستثنائية قالت الإدارة إن الهدف هو إزالة أسلحة الدمار الشامل التي تقرر هي مسبقاً أنها موجودة لدى العراق. بمجرد أن يمضي المفتشون في عملهم قالت أميركا إن الهدف هو اسقاط النظام في العراق. وهددت أميركا حلفاءها بأنهم إذا لم يشاركوها في الحرب فستحرمهم من أي نصيب في الغنيمة بعد احتلال العراق، أخيراً قالت أميركا، وبصريح العبارة - إن احتلال العراق سيتبعه إعادة تشكيل خرائط ونظم الشرق الأوسط بما يجعل المنطقة أكثر تكيفاً مع المصالح الاميركية. لقد حققت أميركا حتى الآن مكاسب هائلة وغير مسبوقة لصالحها، حتى من قبل أن تضرب العراق. لكن كل مكسب بدا وكأنه يفتح شهيتها أكثر وأكثر للمزيد، لا أحد يجادل في أن أميركا قادرة عسكرياً على محو العراق من الخريطة لو ناسبها ذلك. لكن الجدل كله هو: ماذا بعد ذلك؟ المخططون في واشنطن، ومع هوس الحرب الذي يسيطر عليهم، لا يرون في العراق سوى بترول وحقل تجارب لأسلحة وسياسات هدفها النهائي هو أن تقول أميركا للعالم: "أنا ربكم الأعلى"! والعياذ بالله. * كاتب وصحافي مصري.