انحسرت موقتاً سحابة الحرب الوشيكة على العراق، نتيجة التداخل بين مقاومة أكثرية دول مجلس الأمن المصادقة عليها الآن وبين اصرار الرأي العام العالمي على اجماع في المجلس: إما على استمرار التفتيش وإما على نفاد جدواه وضرورة الحسم العسكري. وأدت جلسة المجلس الجمعة إلى "شراء" أيام معدودة، لا تتجاوز شهراً، ليثبت العراق اثناءها خلوه التام من أسلحة الدمار الشامل وليبادر بسرعة فائقة إلى سد الثغرات في بياناته عن برامج وأسلحة الدمار الشامل التي يؤكد أنه دمرها بمفرده. وفيما أصر وزراء خارجية المعسكر المتمسك باعطاء التفتيش فرصته الكاملة، على معارضة خيار الحرب في هذا المنعطف، أوضحوا - وبينهم وزيرا خارجية فرنسا والمانيا - انهم لا يستبعدون الخيار العسكري ودعمه لاحقاً. "لاحقاً" تعتمد على نوع التعاون العراقي مع المفتشين في غضون فترة محدودة، ولا تعني تأجيلاً دائماً للحسم العسكري لاحباطه في كل الظروف. فإحدى نتائج الجلسة المهمة لمجلس الأمن الجمعة أنها ضاعفت الضغوط على القيادة العراقية، ووضعت - كأمر واقع - برنامجاً زمنياً وفترة محدودة لاستكمال الامتثال للقرار 1441 بإقدام، وباجراءات نوعية جديدة. وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان اقترح 14 آذار مارس موعداً لجردة وزارية في المجلس لما أسفر عنه التفتيش، ووزير خارجية بريطانيا جاك سترو لمح إلى 28 شباط فبراير الجاري كموعد للقاء في مجلس الأمن للاستماع إلى تقرير جديد من رئيسي هيئتي التفتيش هانس بليكس ومحمد البرادعي. وتتحمل الاستعدادات العسكرية الأميركية الانتظار إلى منتصف الشهر المقبل قبل اندلاع الحرب، الأمر الذي يترك حيزاً للتجاوب مع الطلب الفرنسي، إذا اتخذت واشنطن ذلك القرار. لكن ما ترفضه الإدارة الأميركية قطعاً هو أن يؤدي التأجيل إلى تأجيل آخر وتمييع العزم "الدولي". وما تخشاه أن تأتي القيادة العراقية ب"زلزال" من التعاون، مثل السماح لعدد كبير من العلماء بالخضوع لاستجواب خارج العراق، ما قد يؤدي إلى منع الحرب مع بقاء النظام العراقي في السلطة. ولأن هناك تداخلاً بين مواقف الرأي العام الأميركي ومواقف أكثرية دول مجلس الأمن، قد توافق الإدارة على حل وسط، شرط أن يكون محبوكاً في صورة تكفل لها تحقيق الأهداف الرئيسية. لندن تريد انجاز ذلك في صيغة قرار جديد لمجلس الأمن، يضمن استعادة الاجماع، بإعادة اصطفاف فرنسا وألمانيا وروسيا والصين مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا في الحزم مع بغداد. وبين مقومات مشروع القرار تضييق الخناق الزمني على القيادة العراقية، وضبط الفترة الزمنية المعطاة لعمليات التفتيش. بذلك، يحدد موعد نهائي لاستهلاك خيار التفتيش وتفعيل الخيار العسكري. وبليكس اوضح ان لا حاجة الى برنامج زمني طويل لاستكمال التفتيش، وقال ان الفترة قد تكون "قصيرة" اذا اتخذت القيادة العراقية قرار "التعاون الفوري والناشط وغير المشروط". والمفارقة أن التفكير البريطاني يلقى مقاومة من واشنطن وباريس، ففرنسا تعارض قراراً يقنّن الحرب في مسار التفعيل قبل استكمال التفتيش، فيما تعارض واشنطن اعطاء فرصة أخيرة من دون التزام مسبق بتفعيل الحرب، وترى أن القرار 1441 كافٍ ويعطيها الصلاحية. وتعتبر أوساط الأممالمتحدة ان هناك مجالاً للتوصل الى صيغة من أجل "انقاذ ماء الوجه" لكل الاطراف، ما يجعلها قادرة على العودة الى الاجماع، وذلك بإنذار اخير في غضون اسبوعين او ثلاثة. والحلقة المفقودة في مثل هذا التصور تتعلق بمصير القيادة العراقية في المعادلات. فواشنطن عازمة على تغيير النظام في العراق، حرباً او سلماً، وقيادات فرنسا والمانيا وروسيا والصين تعارض الحرب وسيلة لتغيير النظام. الطروحات البريطانية قد تتضمن حلاً وسطاً من خلال صياغات مبطنة لمشروع قرار يعطي الانذار الأخير، ليس لمزيد من الوقت للتفتيش بل كفرصة اخيرة للرئيس صدام حسين للتنحي وانقاذ العراق من الحرب. هذا الاسبوع سيكون اسبوع مفاوضات مكثفة بين العواصم وفي نيويورك لاستطلاع امكان الاتفاق على مشروع قرار الحل الوسط. فالجميع يدرك ان ما حدث الجمعة في مجلس الامن وضع "الكوابح" للحرب الوشيكة، لكنه لم يضع العصا في عجلتها الى درجة "قتل" شبحها.