تعد أعمال الأديب السعودي غازي القصيبي الشعريَّة من أبرز الخطابات الشعرية في شبه الجزيرة العربية والعالم العربي. وتتميز أعماله بالغنى والخصب والتجديد. وأسهمت قصائده في تطوير شكل القصيدة ومضمونها وخصوصاً في السعودية، ونقلتها من ركن التقليد والتلقائية الى آفاق التجديد في الشكل والمضمون. لفت هذا التطور متذوقي الشعر والطلاب للبحث في فضاء القصيبي الشعري" فكانت دراسة محمد الصفراني وعنوانها "شعر غازي القصيبي، دراسة فنية منشورات جريدة الرياض، 2002، إحدى هذه المحطات الآيلة الى تسليط الضوء باستمرار على النزعة التجديدية عند القصيبي. قسَّم الصفراني دراسته الى أربعة فصول يطرح من خلالها بنية المضمون وموقف الشاعر من الزمن والمدينة والقومية والحب. ثم يناقش العمارة الأسلوبيّة عند القصيبي وأنماطها في المفرد والمركب والكلي لأن الشاعر كلّ لا يتجزأ في النظرة الى الوجود والكون. وتتعدّى الدراسة آفاق الحاضر استناداً الى التراث المجيد للأمة العربية في الدين والأدب والتاريخ. كل ذلك من خلال دراسة النص وكشف الخبايا وإنارة الزوايا التي تتطاول على المستقبل ممَّا يبشر بأعمال شعرية مبدعة ومنتظرة من غازي القصيبي. وينتقل الشاعر الى تعريف الشعر من الغموض أو الإبهام الذي يحسه الإنسان الى "قفز لحظة" في الحياة على أوتار نغم. وأصبح ذلك مفهومه الخاص للشعر على "انه تعريف سهل، قصير، منظوم، إذا شعرت عندما تقرأ شعراً أنّه يعبِّر عن لحظة في حياتك أنت، ويعبّر عنها بطريقة موسيقية، فاعلم أنك بصدد شعر". وهذا ما أكّده ابن قتيبة في قوله "وأشْعَرُ الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه". وبعد أن تعمَّق القصيبي في دراسة تصاريف الشعر العربي التي صنّفها تقليدية انتهى الى نتيجة فصلاها مثلثا الأضلاع: النتيجة الأولى، ينتقد فيها الذين تنطحوا لنقد التقليدي في المفهوم الشعري العام وصولاً الى العمارة الشعرية العربية. لذلك يرى إنَّ التصريف الشعري القديم على الرغم من الثغرات التي تعتوره يظلُّ أفضل تعريف نعرفه. ويقرر في النتيجة الثانية أن التصريف السابق لا يتطرق الى الالتزام بنوع محدد من الأوزان، أو نوع محدد من القوافي، وبالتالي، فالتعريف أكثر تحرراً وانطلاقاً من النظرة المتعجلة الأولى. أما النتيجة الثالثة فتتلخص بقوله: "ان تعريف الشعر نبت في ظل ظروف موضوعية محددة، حتَّمت حماية الشعر لئلا يختلط بالنثر. إن هذا التعريف في حقيقة أمره سورٌ منيع بُنيَ عمْداً ليمنعَ النثر من التسلل الى قلعة الشعر. ويناقش القصيبي مكانة الشعر ودوره في العصر الحديث مقرراً أن للشعر مكانة مهمَّة عند متذوقي الأدب، ويفند في هذا البحث الآراء المعارضة والمنقوصة لدور الشعر على الرغم من عدم الرضى عن موقع الشعر في اهتمام الإنسان العربيّ المعاصر. ويرى القصيبي، كما ذكر محمد الصفراني، أنّ موقع الشعر ما زال موضوع نزاع بين فريقين: فريق يرى أن دولة الشعر دالت في هذا الزمن، زمن التقدم التكنولوجي" وفريق يذهب عكس ما ذهب اليه الفريق الأول مدّعيّاً أن للشعر رسالة انسانيَّة لا تنتهي... وباعتقاد هذا الفريق أنّ الشعر يقدّم لقارئه متعة جمالية، أُلفة إنسانية بين الشاعر والقارئ، ويربط الشعر قارئه بالتجربة الإنسانية للبشر لأن الشاعر المُلهم هو الذي يستطيع أن يحوّل تجربته الفرديّة الى موقف انساني شامل. ويرى القصيبي أن الشاعر قادرٌ على اختصار مقولة عقلية أو حال نفسية ببيت واحد من الشعر، بينما يحتاج ذلك الى رواية أو بحث مطول عند عالم النفس. أمّا عن دور الشاعر فيتحدد من خلال النص الذي يعتمد على صدق التجربة، ونبل القضية، وسمو التعبير الفني، وهي الأساسيات التي تحدد أهمية دور الشاعر في بيئته ومجتمعه. ويتجاوز القصيبي عالم الرواية وعالم الشعر الى فضاء النقد. فعندما يعالج مسألة الغموض في الشعر العربيّ قديماً وحديثاً يحدد أنواعاً عدّة للغموض على الشكل الآتي: 1 - غموض لغوي يحتاج القارئ الى استعمال المعجمات لإدراك كنه معناه. 2 - غموض رمزي: يستعمل الشاعر هذا اللون من الغموض ليخفي مراده الحقيقي. ويسوِّغ الغموض الرمزي من أسباب عدة أبرزها الخوف على النفس، والخوف على الحبيبية، أو لإضفاء لون سحري على الصيغة الأدبية. فالذات والآخر كانا ولا يزالان من هموم الشاعر نظراً الى فقدان حريَّة التعبير والعمل في غير مكان من دنيا العرب. 3 - غموض ثقافي يأتي عفواً من دون تخطيط من الشاعر، وهذا يعود الى الفارق بين ثقافة المرسِل وثقافة المرسَل اليه. 4 - الغموض النفسي الذي يظهر من خلال النص الذي يعبِّر عن تجربة نفسيَّة معقّدة. 5 - الغموض المركّب وهو الذي يجمع العناصر السابقة. وهذا ما يميّز معظم قصائد الشعر الحديث. ويرى في معالجته موضوع "الرمز" في الشعر الحديث، أنّ الرمز قديم في الشعر العربي، لكنه لا يقرُّ استخدام الرمز وتوظيفه بأسلوب معقّد وبخاصة في استلهام بعض الشعراء الرموز المستوحاة من الآداب الأجنبية. لأن ذلك يجعل الشعر العربيّ الحديث يبكي على أطلال "الأولمب" كما بكى الشعراء العرب القدامى عند "الدخول فحومل" في اشارة الى امرئ القيس. ويحدد في موضوعة الالتزام في الشعر رأيه قائلاً: "إنّ الالتزام الحقيقي هو التزام الصدق مع النفس ومع التجارب الذاتية للشاعر، ومع تجارب الآخرين. ومطلوب من الشاعر ألاّ يزيِّف ضميره أو تجاربه أو يعرض مشاعره للبيع أو للإيجار. والقصيبي في هذه الرؤية يزيل الحدود بين المذاهب الأدبيَّة المتعددة متكئاً على التجربة التي يعدها أساساً لكل عملٍ شعريٍ أصيل. فالتزام الواقعية أو الرومانسية أو الكلاسيكية تضع الشاعر في قفص يتعارض مع مبدأ الحريَّة البنيويّة للشاعر المتميِّز. لعل شعر غازي القصيبي يحتاج الى دراسة متعددة الآفاق والجوانب في الشكل والمضمون، وفي الأصالة والمعاصرة، وفي البناء اللغوي في شعره. يقول في رثاء "عمر أبي ريشة": أين الفتوحُ التي غنيت روعتها؟/ أين الصهيل؟ وأين الجامح الظفرُ/ لا ابن الوليد الى اليرموك يأخذنا/ ولم يصلِّ بنا في قدسنا عمرُ/ وغابَ سعدٌ وغابت قادسيتهُ/ ولم يجئ نبأٌ منها ولا خبرُ/ مضى عليٌّ... ولمّا يمضِ قاتلهُ/ مضى الحسين... وهذا بيننا الشمرُ/ كأنّما اغتصب التاريخ... واختطفت/ منه الرجال... وعاش الخائن الأثر إنّ دراسة شعر غازي القصبي من الزاوية الفنية لمحمد الصفراني دراسة ممتعة على رغم بعض الإطالات في غير مكان وهي ربما اقتضتها ظروف البحث الأكاديمي. وما زال شعر القصيبي في حاجة الى أكثر من دراسة في المجالين الاجتماعي والقومي.