تشهد الولاياتالمتحدة انفصاماً ثقافياً بين خطاب سياسي تعبوي يعدّ للحرب ويمسك بزمام المبادرة، وحالة اجتماعية معارضة للحرب تبحث عن إطار يسمح لها بالتبلور. غير أن المواجهة بين الطرفين ليست متوازنة، حيث أن ثقل النفوذ المعنوي والمؤسساتي للحكومة الأميركية يعمل ناشطاً لتحبيذ الطرف الأول. ومع نجاح حكومة الرئيس بوش في تجيير الشعور الوطني لصالح المجهود الحربي، وصولاً إلى التلميح والتصريح بأن أية معارضة لها لا تقوم إلا على قصر النظر أو على العداء للأسس الأميركية، تجد الجهات المناوئة للحرب نفسها في موقع دفاعي مهمّش، على صعيد الخطاب السياسي كما على صعيد الحضور الإعلامي. ويشكل هذا التهميش حلقة أخرى في تحول خطير تشهده الساحة الثقافية الأميركية باتجاه الصيغ التبسيطية التي تقوّض التعددية الفكرية والسياسية التي تفاخر بها الولاياتالمتحدة. لا شك أن ثمة اعتبارات موضوعية تضع طرح الحرب المتوقعة على العراق في سياق المصلحة الوطنية الأميركية، وأهم هذه الاعتبارات على الإطلاق انعدام الثقة بنظام الحكم القائم في بغداد والخشية من أن يعمد إلى تزويد التنظيمات السرية المعادية للولايات المتحدة بأسلحة دمار شامل تسمح لها بتكرار اعتداء 11 أيلول سبتمبر 1991 في صيغة أكثر إضراراً. والاعتبارات الأخرى تتضمن رغبة الولاياتالمتحدة بضبط الوضع في منطقة الشرق الأوسط وتطويق أعدائها وضمان مصالحها النفطية، أي أنها تنصب غالباً في إطار السعي إلى صياغة منظومة دولية تهيمن عليها القوة العظمى الوحيدة. ويؤكد بعض العقائديين من منظّري الخط المحافظ الجديد والذي نجح في التحكم بمراكز القرار في الحكومة الأميركية، أن فك أسر الشعب العراقي هو، كذلك، من أهدافهم وإن جاءت تصوراتهم لتكشف عن استهتار برغبات هذا الشعب في شقّيه المقيم والمنفي. وثمة أسباب منطقية يمكن للحكومة الأميركية طرحها لتفسير التناقض الظاهر في معالجتها للحالتين العراقية والكورية الشمالية. فعلى رغم مشاعر العداء الشعبي للولايات المتحدة في كوريا الجنوبية وما يتعداها، فإن منطقة الشرق الأقصى، باستثناء كوريا الشمالية، منطقة تمّ "استيعابها" من وجهة نظر المصالح الأميركية، سواء من خلال الربط العضوي، العسكري والتعاقدي، الذي يصل إلى حد الوصاية السياسية في بعض أوجهه ما بين كوريا الجنوبية واليابان من جهة والولاياتالمتحدة من جهة أخرى، أو من خلال الشراكة الاقتصادية غير المتكافئة التي تلزم الصين بمراعاة المطالب الأميركية وتدفع بها باتجاه تحول رأسمالي يتجاوب ومصالح أميركا. وكوريا الشمالية تشكل زعزعة لهذه الحالة، إنما تأثيرها مؤقت ومحدود نظراً إلى تردي أحوالها الاقتصادية والاجتماعية. أما الحالة العراقية، فمصدر تحدٍ للولايات المتحدة في صلب منطقة تعاني عدم استقرار وحروبا وبروز تنظيمات مسلحة مناوئة تعجز عن احتوائها الحكومات القائمة، وهي التي تشهد لتوّها تشكيكاً بصدقيتها بل بمشروعيتها. ويمكن بطبيعة الحال الإشارة إلى علة العلة لافتقار منطقة الشرق الأوسط إلى الاستقرار، كسبب أو كحجة على حد سواء، أي الصراع العربي الإسرائيلي والدور الأميركي غير المتوازن الذي ساهم في استفحاله. لكن الخطاب السياسي الأميركي يبقى مصراً على رفض إدراج هذا الموضوع، وعلى تجنب أي نظر وتحليل يتعدى الصيغة الرسمية المعتمدة التي تعتبر أن أساس الإرهاب في عقائد الآخرين وكراهيتهم للحريات التي تمثلها الولاياتالمتحدة، وحقدهم وحسدهم اللذين يصلان بهم إلى حد الانتحار. فالسؤال الذي لا مفر من طرحه عند المقارنة الموضوعية بين الحالتين العراقية والكورية الشمالية هو حول الدور الأميركي المنحاز لإسرائيل، وإن على حساب المصلحة الموضوعية الأميركية، في الشرق الأوسط. والسبيل إلى تجنب هذا السؤال هو عبر الاكتفاء بالتأكيد على الترابط الدائم بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، والإشارة إلى استفحال الإسلام السياسي كفعل داعم للحاجة إلى هذا الترابط، لا كنتيجة له. ويلجأ العقائديون من منظري اليمين المحافظ، في هذا الإطار، إلى حملة واسعة لاجتثاث أي مخالف لطروحاتهم من واجهة الثقافة الأميركية، وذلك بالتشهير والتخوين والاتهام بالكذب والعمالة. ويعتبر هؤلاء ضمناً أن طروحات الجماعات الإسلامية التكفيرية هي التي تعبر عن جوهر الدين الإسلامي، وأن أية محاولة لإدراج مفهوم الجهاد مثلاً خارج إطار قتل الكفار أينما حلّوا لا تتعدى الاعتذارية المشبوهة. ويجد المحافظون الجدد حلفاء لهم في أوساط اليمين المسيحي الغيبي الذي يجاهر باعتبار المواجهة العالمية القائمة اليوم صراعا دينيا بين الحضارة اليهودية المسيحية والإسلام. وفي المقابل، فالحكومة الأميركية، التي تعمل على التسويق الدعائي في الصحافة العربية ومن خلال إذاعاتها القديمة والجديدة الموجهة إلى العالم العربي حول التسامح والتعددية في الولاياتالمتحدة، تلتزم الصمت داخلياً وتسمح باستفحال هذه الأصوات دون التنصل منها. بل إن واشنطن تقدم لجمهورها برنامجاً يومياً من التعبئة القائمة على الترهيب، فتستحدث مؤشّر الخطر الإرهابي، وهو سلم متدرج من خمسة مستويات منخفض، متوسط، مرتفع، مرتفع جداً، أقصى، وتنقل اعتداء 11 أيلول من كونه حدثاً إرهابياً منفرداً إلى اعتباره ظاهرة مستمرة تحتاج إلى الضبط والمتابعة. فالمواطن الأميركي يتابع حرباً تدور في عقر داره، ومظاهر هذه الحرب التبدل في مؤشر الخطر الإرهابي وهو اليوم مرتفع جداً، والدعوات التي يطلقها المسؤولون إلى التهيوء للاعتداء المرتقب بأسلحة الدمار الشامل، والحملات التي تشنها الأجهزة الأمنية على الجمعيات الخيرية الإسلامية والشركات التي يمتلكها المسلمون، فيما تنقلها وسائل الإعلام بتفاصيلها مهملةً في الغالب الإشارة إلى أن هذه الحملات التي تتجاوز الحقوق المدنية والإنسانية للذين تستهدفهم لم تكشف قط حتى اليوم عن أي ضلوع بنشاط إرهابي، اما اكتشاف "الخلايا" المختلفة والخطط الإرهابية الرهيبة، فسرعان ما تنحسر أخبارها بعد اتضاح المبالغة في المزاعم بشأنها. وأخبار الحرب الوهمية داخل الولاياتالمتحدة تتداخل في التصريحات الرسمية وفي مختلف وسائل الإعلام مع أخبار التحضير للضربة المرتقبة على العراق. وقد أدى هذا الدمج بالفعل إلى توسيع نطاق التأييد لهذه الضربة ليبلغ الأكثرية في أوساط الجمهور الأميركي. فواشنطن، في جهدها لإقناع جمهورها بجدوى إسقاط النظام القائم في بغداد، كما في مسعاها إلى كسب ودّ الجمهور العربي، أضحت تفضل اللجوء إلى الأسلوب الدعائي القائم على الإعلان المنمّق للمواقف في إطار عاطفي وتتجنب الخوض بالتفاصيل الموضوعية. ويشار هنا إلى لجوء الجهات الرسمية الأميركية إلى القطاع الإعلاني للتحضير لهذا النهج. فتسويق السياسة الأميركية، من وجهة نظر حكومة الرئيس بوش، لا يختلف عن تسويق المنتجات الأميركية التي تلاقي رواجاً عظيماً في كافة أنحاء العالم. وسواء كان هذا النهج دليل استعلاء واستخفاف بعقل الجمهور المستهدف، أو دليل جهل لدى من يقدم عليه، فإن نتيجته البديهية نقل المسائل الخلافية من إطارها المنطقي إلى صيغة بيانية خطابية وتبسيطية. وفي حين أن الشعور المناوئ للحرب ما زال منتشراً بشكل واسع في مختلف أوساط المجتمع الأميركي، وذلك على رغم التجاهل الإعلامي والرسمي له، فإن الصيغة الكفيلة بالتصدي للمنحى التبسيطي الترهيبي الذي تعتمده الحكومة الأميركية لم تظهر بعد. فالساحة الثقافية الأميركية تفتقر اليوم الى التعددية بقدر لم تشهده منذ... عقود.