يوم وصول ارييل شارون إلى واشنطن تلبية لدعوة الرئيس جورج دبليو بوش... وقبل يومين من موعد انعقاد القمة الفرنكوفونية في بيروت، يحتفل لبنان ظهر الأربعاء المقبل 16 الجاري بتدشين مشروع جرّ مياه نبع الوزاني إلى قرى الجنوب. ومع أن المصادر الرسمية اللبنانية توقعت احتفالاً حاشداً بهذه المناسبة الاستثنائية يميزه حضور الرؤساء الثلاثة، إلا أنها عدّلت خلال هذا الأسبوع في برنامج التدشين، مكتفية بالحديث عن احتفال شعبي يحضره الرئيس نبيه بري. ويرى المراقبون في هذه الخطوة المرنة التي أظهرتها الدولة اللبنانية تجاوباً مع رغبة واشنطن في عدم استفزاز إسرائيل خوفاً من إقدامها على عمل متهور قد يؤدي إلى صدام مسلح، خصوصاً أن الزيارة السابعة التي يقوم بها شارون لواشنطن أخذت طابع الاستدعاء بهدف التأكد من موقف إسرائيلي غير معطل لحملة أميركا على العراق. وفي هذا السياق اختصر المعلقون والمحللون مطالب الرئيس بوش بثلاثة: أولاً، الاعتماد على الدفاعات الأميركية لحماية المدن الإسرائيلية في حال تعرضت لصواريخ صدام حسين، وذلك حفاظاً على التماسك الاقليمي والدولي مثلما حدث في حرب 1991. ثانياً، ضرورة التخفيف من وطأة الاحتلال داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن هدوء الجبهة الفلسطينية يساعد على نجاح العمليات العسكرية ضد العراق. ثالثاً، اعتماد الوسائل الديبلوماسية في التعاطي مع مشكلة جرّ مياه نهر الوزاني، خشية اندلاع حرب على الجبهة اللبنانية تحوّل الاهتمام عن الجبهة العراقية. ويتوقع المراقبون في واشنطن ألا يكون الاجتماع مع شارون خالياً من الاحتجاج والرفض، لأن مطالب بوش تخالف مقتضيات الأمن القومي الإسرائيلي. وهي مقتضيات ثابتة وضعتها "الوكالة اليهودية" منذ عام 1916 أثناء المفاوضات الفرنسية - البريطانية حول ترسيم الحدود اللبنانية - الفلسطينية. ولقد أخذت في الاعتبار الاقتراب من مصادر المياه بسبب افتقار فلسطين إلى الكميات المطلوبة. وتشير دائرة المعارف اليهودية إلى أن صموئيل توكلوسكي قدم أول مشروع لترسيم حدود إسرائيل قبل إعلان وعد بلفور بسنتين، أي في سنة 1915، مع خريطة مفصلة تظهر التخوم المقترحة شمال نهر الأوَّلي. وكان ذلك بالطبع قبل انشاء "لبنان الكبير" وانهيار الامبراطورية العثمانية. ثم أعقبه المهندس الزراعي أهارون ارونسون الذي طرح مشروعاً ثانياً يرسم حدود دولة إسرائيل عند خط ملاصق لراشيا. ومن بعده عرض حاييم كالورسكي فكرة ضم كل المناطق الزراعية في الجنوب حتى حدود جبل لبنان المرسومة في اتفاق 1861. أما المشروع الثالث فكان بشكل دراسة مستفيضة اشترك في وضعها ديفيد بن غوريون واسحق بن زيفي. ولقد تبنتها "الوكالة اليهودية" وقدمتها إلى أعضاء مؤتمر باريس للسلام 3 شباط/ فبراير 1919. ولاحظ العرض الفرنسي المفاوض ان المشروع الجديد يخفي وراءه اطماعاً في الاستيلاء على مياه نهر الليطاني، بدليل أن بن غوريون اعتبر الوادي السحيق حدوداً طبيعية تفصل فلسطين عن لبنان. وأصرت فرنسا على رفض هذا المشروع المريب لأسباب سياسية تتعلق بحصتها داخل خطة اقتسام مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. ولكن فشل هذه الاقتراحات لم يردع "الوكالة اليهودية" من اللجوء الى اساليب اخرى تناولت اقامة مشاريع مشتركة لاستغلال مياه نهر الليطاني للري ولتوليد الطاقة الكهربائية. وجرت في هذا المجال محاولات عدة كان آخرها مشروع بناء سد على الليطاني اتفق على تنفيذه صناعي يهودي يدعى أبشتاين مع مهندس لبناني هو البير نقاش. لكن حلمهما مات عام 1942 بسبب تدخل السلطات الفرنسية المنتدبة ومنعهما من تنفيذ المشروع. اثر حرب 1948 لم تعد اسرائيل مهتمة بمشاركة لبنان وسورية والاردنوالفلسطينيين في اقتسام مصادر المياه، لان انتصارها العسكري وفّر لها وسائل الاستيلاء على حاجاتها الحيوية. وهكذا بدأت في عملية تجفيف بحيرة الحولة سنة 1951، وانتقلت الى عملية تحويل مياه الاردن وسط احتجاج حكومات لبنان وسورية والاردن. وبعد مرور سنتين من المنازعات ارسل الرئيس الاميركي ايزنهاور مبعوثاً خاصاً بهدف ايجاد مخرج مرض لتقاسم حصص المياه. وامضى اريك جونستون اكثر من سنتين في رحلات مكوكية انتهى بعدها الى وضع مشروع لتوزيع مياه حوض الاردن على سورية 45 مليون متر مكعب والاردن 774 مليون متر مكعب واسرائيل 394 مليون متر مكعب. وكان من الطبيعي ان ترفض سورية والاردن هذا التوزيع غير العادل، خصوصاً بعد التأكد ان الكمية المتوافرة تشير مداورة الى قيام مشاريع زراعية معنية بحل مشكلة اللاجئين. واستثني لبنان من عملية توزيع النسب لان اسرائيل رفضت اثبات حقوقه عن طريق الاعتراف بالاتفاقية الموقعة بين السلطتين المنتدبتين، فرنسا وبريطانيا. وتقضي شروط الاتفاقية بان المياه النابعة من الاراضي اللبنانية توضع بتصرف لبنان، وما يفيض عن حاجته يُعطى للدولة التي تصبّ فيها المياه. وبما ان القانون الدولي يفرض على اسرائيل التقيد بالاتفاقات السابقة المعقودة، فان رفضها الاعتراف بحقوق لبنان في مياه ينابيعه، احلّ الدولة اللبنانية من كل الالتزامات. ولقد ادعى زعماء اسرائيل في حينه ان دولتهم ستقام على ارض التوراة وليس على ارض فلسطين المنتدبة. ومع فشل مشروع جونستون انتقلت اسرائيل الى مرحلة تحويل روافد نهر الاردن. ودعا الرئيس جمال عبدالناصر الى عقد قمة عربية طارئة 1964 قررت بناء سد "خالد بن الوليد" واستغلال روافد نهر الاردن من قبل سورية ولبنانوالاردن. وردت اسرائيل على قرارات الدول العربية بتكثيف اعتداءاتها على مواقع التحويل. واستمرت المناوشات العسكرية مدة ثلاث سنوات انتهت بحرب الخامس من حزيران يونيو 1967. ويعترف زعماء اسرائيل بأن احتلال مرتفعات الجولان لم يكن هدفاً امنياً استراتيجياً كما يشاع، وانما كان لاسباب حيوية تتعلق بأهمية الاستيلاء على مصادر المياه الواقعة عند سفوح هضبة الجولان وجبل الشيخ. ومن المؤكد ان روافد نهر الاردن العليا مثل بانياس والحاصباني ودان والوزاني قد أمنت لاسرائيل تحقيق مشاريعها الطموحة المتعلقة باستصلاح الأراضي الزراعية وانشاء المصانع، اضافة الى توفير مياه الشفة والري والمسابح لآلاف المستوطنات والقرى الجديدة. وبسبب حاجتها المتواصلة للمياه قامت اسرائيل بحفر شبكة ضخمة من الآبار الارتوازية استهلكت حصيلتها خلال السنوات العشرين الأخيرة. ويعترف الخبراء الفلسطينيون بأن الطبقة الأولى من مياه الآبار الموجودة تحت سلسلة جبال الكرمل قد استنفدت، وأن الطبقة الثانية التي ترشح من تحت الأراضي الأردنية هي في طور النفاد أيضاً. لهذه الأسباب وسواها اضطرت اسرائيل الى تجميد المشاريع الزراعية المكلفة وأوصت بالتحول الى المشاريع الصناعية. ولكن هذا كله لم يقلل من أهمية العمل الذي يقوم به لبنان في شأن مشروع ضخ مياه الوزاني. ويستند لبنان في حججه على مبدأ الانصاف الذي يقره القانون الدولي، خصوصاً أن الأهلين في قرى الجنوب يستخدمون المياه للشفة وليس لمشاريع صناعية أو زراعية. وهذا ما طالبت به قمة الأرض الثانية في جوهانسبورغ عندما اعطت مبدأ توفير مياه الشفة الأولوية في سلم الاتفاقات الدولية. المخاوف الاسرائيلية في هذا السياق تركز على النتائج المترتبة عن عملية جرّ المياه، وما إذا كان بحث هذه المشكلة في المحافل الدولية سيثير مجدداً موضوع الاستيلاء على مياه الحاصباني والوزاني بالقوة؟ ويرى شارون أن السكوت عن هذا العمل سيشجع لبنان على ضخ كامل حصته من المياه النابعة في أرضه، كما يشجع سورية على حذو حذوه في الحصول على حصتها من المياه المتدفقة عند سفوح الجولان. وبسبب احتياجات اسرائيل الحيوية لكل قطرة مياه، عقدت مع حليفتها تركيا اتفاقاً يقضي بزيادة كمية المياه لسورية عبر نهر الفرات، مقابل الاحتفاظ بكميات المياه المسروقة من سورية والأردن ولبنان. وتدعي انقرة عدم حصول هذا الاتفاق، مؤكدة لدمشق ان علاقاتها معها لا يمكن أن تحددها المصالح الاسرائيلية. رئيس أركان الجيش الاسرائيلي موشيه يعالون حرض شارون على الانتقام من الدولة اللبنانية ومن "حزب الله" وحركة "أمل" وكل من ساهم في جر مياه الوزاني الى قرى الجنوب. وفي تصوره أن النجاح الذي حققته المقاومة اللبنانية بعد طرد القوات الاسرائيلية كان القدوة التي استلهمتها الانتفاضة الفلسطينية. ولكي لا تتحول عملية استرداد حقوق مياه لبنان الى سابقة يمكن ان تقلدها سورية، اقترح يعالون توجيه ضربة قاسية الى لبنان لعلها تكون الوازع والرادع لكل من يتجرأ على مقاربة هذا الموضوع المحرم. ويبدو أن واشنطن لا تشارك يعالون وشارون فكرة اعتماد الخيار العسكري لحل خلاف تمكن معالجته بالطرق الديبلوماسية. ويرى المحللون ان الرئيس بوش سيطلب من ضيفه يوم الاربعاء المقبل بأن يؤجل قرار المصادمة بانتظار الانتهاء من حربه ضد نظام صدام حسين. خصوصاً ان معلومات البنتاغون ترجح استعدادات "حزب الله" لتوجيه مئات الصواريخ باتجاه المدن الاسرائيلية. ويرى وزير الدفاع رامسفيلد أن حدوث نزاع من هذا النوع سيقوي حجة لبنان المطالب باستغلال أقل نسبة من مياهه، ويمنع عن الولاياتالمتحدة فتح جبهة ثانية ضد العراق. والسبب ان التماسك الاقليمي والدولي سيتفكك في حال قررت واشنطن ضرب العراق المشاغب والسكوت عن اعتداءات اسرائيل على شعب مسالم، كل ذنبه أنه قرر إرواء عطش ابنائه من مياه تنبع في أرضه! * كاتب وصحافي لبناني.