ثمة الكثير مما يقال عن أزمة الذات على الصعيدين التاريخي والفكري، إلا أن الأهم هو ما يقال عن أزمة الذات على الصعيد الفني الذي يجعل من الرواية الفن الأكثر تعبيراً عن تجليات الأزمة. فتاريخ تكوّن الرواية العربية يكاد ينطبق على تاريخ البحث عن الهوية، إذ تطور نضوج الفن واستقلاليته في بناء واقع فني مواز للواقع الاجتماعي مع التعبير عن وعي الهوية. كذلك فإن نجاح الرواية في الامتلاك المعرفي للواقع أكثر من بقية الأجناس الأدبية السردية والغنائية، لأنها تقارب طبيعة البحث، ولأنها فن متعدد الأصوات، فلا تقول وجهة نظرها من صوت واحد هو صوت المؤلف أو أحد شخوصها. هذا ما يحاول معالجته الكاتب السوري عبدالله ابو هيف في كتابه الصادر حديثاً عن مؤسسة رياض الريس في عنوان "الجنس الحائر، ازمة الذات في الرواية العربية". فمن خلال معالجة مماثلة يمكننا أن نقرأ تاريخ مصر الحديث في روايات نجيب محفوظ مصر أكثر من كتب التاريخ والمجتمع مجتمعة. وهذا هو شأن الروائيين المجيدين، أضف الى ذلك مقاربة الرواية العربية لموضوعها وللموضوع القومي على وجه الخصوص، حتى ان هذا الموضوع القومي هو مدار تجارب روائية برمتها لبعض أبرز الروائيين كنجيب محفوظ، وفتحي غانم وعبدالرحمن الشرقاوي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وصنع الله ابراهيم في مصر، وصدقي اسماعيل وأديب نحوي وهاني الراهب وحيدر حيدر ونبيل سليمان في سورية، والطاهر طار وواسيني الأعرج في الجزائر، وعبدالكريم غلاب ومبارك ربيع في المغرب، وإلياس خوري في لبنان، ومؤنس الرزاز في الأردن... الخ، وهذه مجرد أمثلة. ان تجربة الرواية العربية السياسية بلغت شأواً عالياً في مقاربة قضايا المجتمع العربي الحساسة والساخنة كقضية الحرية والسجن والسلطة والتحزب والمشاركة السياسية وسواها، بل ان تقصي معالجة الروائيين العرب للموضوعات السياسية يفضي الى اليأس والخذلان. وفي دراسته المهمة "المثقف العربي والسلطة" لاحظ سماح ادريس لبنان ان استغراق الروائيين العرب في الموضوعات السياسية آل الى اخفاق ذريع. وفي دراسته أزمة الذات العربية، التي هي الموضوع - المحور في هذا الكتاب، يقسم عبدالله أبو هيف تلك الدراسة الى خمسة أقسام: يتناول في الأقسام الثلاثة الأولى بعض الزوايا التي تحيط بالتعرف الى هذا الموضوع. وهي: رؤى الواقع، رؤى التاريخ، رؤى الآخر. ووجد الباحث أن هذه الزوايا تفي بحاجة الدراسة، معتقداً أن أي تقسيم هو تعسفي، وأن التداخل بين الواقع والتاريخ والآخر قائم في عمليات وعي الذات والكشف عن مظاهر تأزمها أو مآزقها. نادرة هي الروايات المخصوصة بهذه الزاوية أو تلك. ففي الروايات المكرسة لرؤى الآخر صور عميقة للذات، ومثلها رواية حميدة نعنع من سورية "من يجرؤ على الشوق"، كما أن في الروايات المعنية برؤى الواقع صلات لا تغفل الآخر، وهذا جلي في رواية صنع الله ابراهيم مصر "ذات". أما روايات رؤى التاريخ فتضم في تضاعيفها وعياً جذرياً بالواقع والآخر معاً، ومن أمثلتها التي عالجها الكاتب في هذه الدراسة، رواية نبيل سليمان سورية "مدارات الشرق" ورواية نجيب محفوظ "حديث الصباح والمساء". من جهة ثانية، رأى الباحث أن هذه الزوايا الثلاث تحيط بالموضوعات السياسية والاجتماعية الأخرى كموضوعات التنمية والمرأة أو السلطان بأنواعه، وهي كلها ذات صلة بالتحقيق الذاتي. وفي القسم الرابع تناول حدثاً كبيراً يغطي زاوية أخرى من زوايا الدراسة، ألا وهو، الانتفاضة التي تشخص اليوم مظاهر تأزم الذات من وجوه مختلفة، مخصصاً القسم الخامس لحدث آخر ضاغط على الوجدان القومي هو رواية الحرب اللبنانية، لأنها مثال شاخص ومستمر للتأزم الذاتي القومي. واتبع الباحث في دراسته هذه المنهج النقدي التقويمي، الذي يستفيد من بعض معطيات المناهج الحديثة، من دون أن يرتهن إليها كالعلاماتية والشكلانية، إذ انه وجد أن بحث قضية أو موضوع في جنس أدبي محدد يحتاج الى تضافر التوصيف التاريخي والتحليل الموضوعي والنظرة النقدية. وهو يقول إن العلاماتية والشكلانية قد تصلحان لدراسة نصية مفردة، ولكنهما لا تحيطان بحاجات مثل هذه الدراسة، لذا اكتفى بعرض خاطف لهذه الرؤى أو تلك، لهذا الحدث أو ذاك، ليتبعه بعرض نقدي لبعض الروايات المعبرة أكثر عن هذه الرؤى أو تلك، عن هذا الحدث أو ذاك.