Jeremi Suri. Power and Protest: Global Revolution and the Rise of Detent. السلطة والإحتجاج: الثورة الكونية ونشوء سياسة الإنفراج. Harvard, Cambridge. 2003. 355 pages. كانت الأعوام اللاحقة على أزمة الصواريخ الكوبية، في نهاية 1962، بمثابة انقطاع في السياسة الدولية مصحوب بإحساس شامل بالتورط والاحراج. فلقد أدرك الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، وهما الجباران اللذان استوليا على حلبة التنافس الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن أياً منهما لن يسعه فرض سياسته والحض على اتباعها، خارج حدوده ومناطق نفوذه التقليدية، من دون المجازفة بمواجهة مع الآخر قد تودي الى هلاك شامل. وعلى رغم ان زعماء ذلك العهد عوّلوا على ضرب من القيادة "الكاريزمية" كسبيل لتجاوز الحدود الصارمة التي أملتها سياسة التسابق على التسلّح النووي، الاّ أن مثل هذه القيادة، على ما يخلص جريمي زوري، لم تعد على أصحابها والأمم التي زعمت تمثيلها بغير رطانة العظمة المزعومة والوعود الكبيرة التي لم تفز بجائزة التحقق. وبينما أوصلت سياستا خروتشوف وكينيدي العالم الى شفير الهاوية، خلال أزمة الصواريخ الكوبية، فإن الجنرال ديغول لم يفلح في بناء قوة أوروبية جبارة ومستقلة عن حلف "الناتو" والهيمنة الاميركية، ولا تمكّن ماوتسي دونغ من أن يقدم مثال تجربة إشتراكية متحررة من قيود البيروقراطية التي قيّدت التجربة السوفياتية وأوهنتها، ولم تسفر أي من "الوثبتين"، الصغرى والكبرى، عن ظهور الصين كقوة جبارة تضاهي الجبارين القائمين والمتحكمين بشؤون السياسة الدولية. وما كان في وسع القادة الكاريزميين إلا الإذعان لحقيقة أن الحرب لم تعد، منذ توافر أسلحة الدمار الشامل، بمثابة إمتداد للسياسة بطرق اخرى. وهم حينما حاولوا التمرد عليها أو التنصل من تبعاتها، انتهوا الى منافسات ومواجهات، متفاوتة الأخطار والعواقب، نظير المواجهة الصينية السوفياتية أو التورط في حرب غير عادلة، ودموية، كحرب فيتنام. وهو ما زاد الإحساس بالتورط والعجز شدةً وبروزاً. فلئن برهن الإنقطاع في السياسة الدولية على بهتان وعود القادة المزعومين وخواء رطانتهم، فهو مهّد السبيل ايضاً الى ظهور الإحساس بانقطاع السياسة في المدار الداخلي والمحليّ، بل في ضوء التسليم الواضح بعجز القيادات السياسية عن حماية مواطنيها من خطر حرب مُهلكة للجميع، تفاقم هذا الإحساس تفاقماً أدى الى الخلوص الى النتيجة التالية: إن وعود السياسة الداخلية التي أطلقها خروتشوف وكينيدي وماو وديغول ، ولاحقاً جونسون وبريجينيف، ليست أقل خواءً من وعود السياسة الخارجية. وعلى ما تبيّن من أدبيات عقد الستينات، خاصة كتابات كينيث غالبرايث ومايكل هانغتون والكسندر سولجنتسين وهربرت ماركوز ووا هان، ومن شكّلوا، بحسب تصنيف المؤلف، "لغة الإنشقاق" للعصر المعني، فإن معطيات الواقع الاجتماعية والاقتصادية في الولاياتالمتحدة وفرنسا والصين والإتحاد السوفياتي وغيرها من الدول الشرقية والغربية التابعة والموالية، لم تكافىء احتفاءات الزعماء الكارزميين بمزاعم الوفرة والتقدم والعدل والاشتراكية والحرية. ولئن بيّن غالبرايث، من خلال تحديد نسبة المواطنين الذين يعيشون عند خط الفقر وما دونه، خواء مقولة "مجتمع الوفرة" في الولاياتالمتحدة، فإن رواية شأن رواية سولجنتسين "يوم في حياة ايفان دنيزوفيتش" إنما رسمت صورة واقعية للحياة في ظل النظام الإشتراكي أبعد ما تكون عن الصور الملونة والزاهية التي تبناها قادة هذا النظام واتخذوها عنواناً ثابتاً لإنجازاتهم المشرّفة. وفي حين أن قائدين شأن ديغول وماو استثمرا قيادتهما الكاريزمية من خلال مزاعم تقول بتعدي مؤسسات الدولة وجهازها البطيء وغير الإبتكاري، فإنه لم يغب عن العديد من الفرنسيين والصينيين حقيقة تعاظم جهاز بيروقراطية الدولة وتنامي سيطرته على كافة أوجه المجتمع من سبل لا شخصيّة، تُهمّش السياسة وتتعامل مع المواطنين كإجتماع لا إرادة له ولا مزاج. وقد حصل هذا في وقت تضاعفت نسبة المواطنين الشبان وازداد عدد الطلاب الجامعيين الذين نظروا بعين العداء الى المؤسسة البيروقراطية المتعاظمة ورأوا الى إدارتها بمثابة أداء قمعيّ منظم وشامل. ولئن بدأ انفجار 1968 على شكل تحدٍ عنيف للسلطة البيروقراطية، بإدارتها غير الشخصية وأساليبها التي تهمّش الإنضواء السياسي او تستبعده أصلاً، فقد تعدى حدود هذه السلطة مُشهراً إفلاس القيادات السياسية التي انتحلت لنفسها صفة الكاريزمية. وعلى رغم أن قائداً مثل ماوتسي دونغ تبنى الحرس الأحمر وشجع على "الثورة الثقافية"، إلا ان تبنّيه لها لم يدم حتى النهاية. إذ سرعان ما أدرك أن أبوّته المزعومة موضوع عدائها ايضا، تماماً كما كان جونسون والإدارة الأميركية موضوعي عداء الحركات الإحتجاجية في بيركلي وواشنطن، وكانت السلطة السوفياتية مصدر غضب المحتجين في براغ، ولم يسلم ديغول في باريس من عداء الحركة الإحتجاجية الطلابية ولا سلم القائد الإشتراكي الألماني ويلي برانت من غضب الطلاب في برلين، حتى وإن كان حافز الإحتجاج الوجود الأميركي. لكن هذه الثورة الكونية لم ترم، على ما يلاحظ الكاتب، الى تقديم بديل عمليّ عن السلطة القائمة، وذلك ليس لانعدام أطروحات ومشاريع التغيير. فهذه كانت متوافرة بكثرة، ومختلفة اختلاف الجماعات التي انضوت في الحركة الاحتجاجية، وإنما تحديداً لأنها كانت حركة احتجاج بالاصل، دافعها إنعدام الرضا على ما آلت اليه السياسة، الخارجية والداخلية، من انقطاع وفراغ، الى إدارة غير شخصية ومنزوعة الصفة السياسية، والأدهى حصول ذلك في ظل تهديد بمواجهة عسكرية مُدمرة للجميع. وشأن كل حركة احتجاج، صاخبة وعابرة، وغير محدّدة الأهداف والمطالب ما خلا الإعراب عن إنعدام الرضا، فإن حركة 1968 لم تؤد، بحسب تحليل المؤلف، الى تغيير يُذكر في بنية النظام السياسي. على العكس من ذلك، مهدت السبيل الى ثورة "محافظة" مضادة عملت على تكريس دعائم السلطات القائمة. وخلافاً للمزاعم الشائعة، يجادل المؤلف أولاً، بأن سياسة الانفراج الدولي التي ظهرت بعد نهاية الستينات لم تكن نتيجة جهود السلطات السياسية في الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدةوالصين، وغيرها من الدول الموالية والحليفة، الساعية الى درء خطر مواجهة بالأسلحة النووية، وإنما خوفاً من حالة عدم الرضا التي شملت مجتمعاتها. بيد أن الكاتب يستدرك بأن سياسة الإنفراج المزعومة ليست بالإنتصار الذي يمكن ان يُعزى بإفتخار الى حركات الإحتجاج الطلابية طالما أنها لم تؤد في الحقيقة الى تجاوز حالة الإحراج والإنقطاع التي شهدتها السياسة، الدولية والمحلية، في عقد الستينات. وعلى رغم أهمية الإتفاقيات الأمنية والعسكرية التي أسفرت سياسة الإنفراج عنها، والتقارب السياسي ما بين كلٍ من الولاياتالمتحدةوالصين من جهة، والولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، من جهة أخرى، إلا أن السياسة الجديدة منحتها زمام المبادرة السياسية ومكّنهتا، بالتالي، من قطع الطريق على أية قوة راديكالية، يسارية أو يمينية، جديدة لكي تحلّ محلها، أو حتى إجراء تنازل بشأن بنية النظام السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والتقارب ما بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، او الولاياتالمتحدةوالصين، طبّع، وإن على وجه صوري، تجاور وتوافق النُظم المتباينة، او التي تزعم التباين، وهو ما جعل السعي الى نظام سياسي قابلاً للإختزال الى اختيار نظام من النُظم القائمة، والمتوافقة. لا يكتب جيريمي زوري عن حقبة انقضت، حتى وإن حصر همّه بعقد الستينات وما شمله من حالة انقطاع في السياسة الدولية الرسمية وحالة الإحتجاج الكوني عليها، وأخيراً سياسة الانفراج. وإنما يحاول الخلوص الى أن ما يجري اليوم، سواء منذ نهاية الحرب الباردة، أم بعد اعتداء 11/9، لهو عاقبة مكّنت القوة "المحافظة" من تكريس سلطانها. وهذا الحرص على ردّ ما يجري اليوم الى ما جرى قبل ثلاثة عقود، قد يصدر عن حقيقة أن زوري كاتب أميركي، وكأي أميركي لا يمكن أن يغفل عن حقيقة التحدي الصادم لاعتداء 11/9، ومن ثم فإنه يحاول أن يلتمس تفسيراً له في حوادث عقد الستينات. لكن حتى وإن كانت العلاقة ما بين حوادث اليوم وحوادث الأمس واهية، أو عصيّة على التعيين الواضح، فإن عامل انقطاع السياسة الدولية أمام تهديد كوني الحرب النووية بالأمس، والإرهاب الكوني اليوم ليبدو قاسماً مشتركاً ما بين الحاضر والماضي، موضوع الدراسة. وما محاولة النُظم السياسية القائمة اليوم من مراوغة حقيقة انقطاع السياسة، دولياً ومحلياً، خاصة حينما تؤدي هذه المراوغة الى الإنضواء في حروب هامشية، وإن دموية أحياناً، وما تثيره من حركات إحتجاج جماهيرية واسعة، شأن المظاهرات المعادية للحرب، إلا بقاسم مشترك إضافي مما ينبغي التشديد عليه.