قبل رحيل عادل العوّا 25/12/2002 بأيام قليلة ظهر الى الوجود آخر مؤلفاته، وعنوانه "التسامح، من العنف... الى الحوار"، صدر عن "دار الفاضل" في دمشق. وقد لعبت الصداقة دورها في أن أقرأ الكتاب قبل صدوره، وأن أبث الراحل اعجابي بمقدرته الفائقة على البحث والتحليل والتدقيق. قلت له: "لقد ذكرتُ لصديقنا الناشر، رجل الأعمال السوري أديب الفاضل إن عنوان الكتاب "التسامح" لا يغري القارئ بسبر أغواره، ناهيك عن مدلول الكلمة اللغوي الذي لا يعبر كلياً بل جزئياً عن مضمونه، والهدف المرجو منه". فقال رحمه الله: "أوافقك - بتحفظ - على الشطر الأول، لأننا نعيش عصر التطرف، والمتطرف لا يجذبه إلا ما يجاريه أو يواكبه أو يزيد عليه... انما التسامح - قديماً وحديثاً - هو فلسفة لها عُمُدُها وأركانها. أما الشطر الثاني فأين وجه القصور عن المرمى؟". قلت: "التسامح يوحي بامتلاك حق تخلّى عنه صاحبه، بينما التسامح في الكتاب هو الحق الأساس، إذ هو اعتراف بوجود الآخر، والآخرين، ورضى بهذا الاعتراف وسلوك يتسق مع هذين: الاعتراف والرضى في آن، أما العنف المتخلى عنه فليس حقاً لصاحبه". فقال: "السماح والسماحة في اللغة هما الجود"، فقلت: "هذا صحيح لكن الجود هو أيضاً يتضمن في مدلوله التخلي، إذ الكرم أن تجود بما لديك - كلياً أو جزئياً -، وفي الكتاب لا يعتبر العنف حقاً لصاحبه فيتخلى عنه كرماً منه، بل هو خطأ في المطلب الأخلاقي والاجتماعي والديني، لأن الأصل أن يحب المرء غيره حبه لنفسه، وأن يمضي في سلوكه نحوه على هذا الصراط وبالمقدار". فقال رحمه الله: "ولكن لا تنس أن للسماح في "لسان العرب" أكثر من معنى، منها: الجود والكرم، ومنها الموافقة على المطلوب - سمح لي بذلك أي وافقني - والمسامحة: المساهلة، وكلها توصل الى ما رمت الوصول اليه وهو: نفي العنف وتذكير الناس جميعاً بأنهم أخوة". كان لتلك المحادثة المرتجلة في ذهني هدف مباشر، هو تحريضه كي يغوص في المدلولات الجوانيّة للنص المنقول، باستخدام الأداة اللغوية وما تحمله من إمكان واحتمال، وفي ذلك اكمال لفلسفة اللغة العربية التي ما وفّاها حقها الفيلسوف العربي المصري عثمان أمين، والتي غاص في دهاليزها ابن جني، وابن فارس، فيما استقام حديثاً بالمصطلح الأكاديمي: فقه اللغة العربية، وفتح فيها آفاقاً عظيمة الباحث الدكتور ميشيل اسحق في كتابه المهم: "المعاني الفلسفية في لسان العرب - الفلسفة العربية الأولى". تبدأ رحلة الكتاب بتتبع النظر الى سلوك البشر الاجتماعي في الصعد كلها، البشر أجمعين، والعرب بعض منهم، نظرة تنوس بين منزعين متباعدين هما: منزع الأثَرة، ومنزع الإيثار، وبجدلهما الدائب، وتفاعلهما اللازب في الواقع الراهن يتضح سلوك الإنسان تجاه الإنسان، بين قبول الآخر والآخرين، أو رفض الآخر، حيث ينشأ التسامح أو اللاتسامح... ويطنب الدكتور العوّا في وصف الحالين، وفي تدرج شدة كل منهما، ويضرب الأمثال على اللاتسامح، ويشير الى ان جلّها مموّه بذرائع شتى يكشف التحليل عن تمازج عنصرها المعوِّقة، ولا سيما عنصري الدين والسياسة. الأثرة إذاً شر ما في الشر. وضدها الإيثار. ويشرح الحدّين المتناقضين شرحاً مستفيضاً، يصل الى ضرورة ابتكار حل يقع موقعاً ملائماً بين الأثرة والإيثار، هذا الحل المبتكر يدعى "التسامح"، والتسامح اعتراف بوجود الآخر والآخرين، ورضى بهذا الاعتراف، وسلوك يتسق مع هذين: الاعتراف والرضى في آن. وانطلق الدكتور العوّا باحثاً في مجالي الفكر العربي والفكر العالمي، فخصص لكل منهما باباً، بدأ بالباب الأول "في الفكر العربي" محدداً قطبي التقويم حيث تتفاوت القيمة التي يطلقها المرء، أو يطلقها المجتمع، في موضوع يحظى باهتمامها اهتماماً مشتركاً فيؤدي ذاك التفاوت في الحكم الى تباين المواقف ونوسانها بين قطبي تعصب وتسامح. ثم يغوص في تباين المواقف، وتساؤلات الفكر عن الحقيقة العلمية والحقيقة الاعتقادية، ومدى حرية الرأي المحمود والرأي المذموم، وموضحاً ان مجال العلم هو مجال الاحتمال، ومجال العقائد هو مجال القطع، فاختلاف العلماء في ميدان العلم والبحث العلمي إمكان جائز، والاتفاق ثمة اتفاق حميد، أما اختلاف الرأي بين أهل العقائد أو الايديولوجيات فأمر راهن، واتفاق أصحابه لا محالة موسوم بإحدى سمتي التسامح واليسر، أو التزمّت والعسر. ولا يترك الدكتور العوا الحبل على غاربه، بل يشير أيضاً الى ان ثمة نهجاً آخر لطرح اشكالية التعصب والتسامح في المجال الفكري، ويعني بها وجهة النظر الفلسفية، بل الفلسفية القيمية التي تنطوي على نقد الأفكار وتقويم مدى صوابها أو خطئها، وتقويم الأعمال بإضافتها الى حصيلتها ونتائجها، وعقابيلها، أي بنسبة مرجعيتها الى أغراضها وغاياتها. يقول: "إنما القيمة جاذب ترجيح باختيار وجود ما يراد وجوده، أو اختيار لا وجود ما لا يراد وجوده، وبين الطرفين ساحة تضيق أو تتسع، هي ساحة التسامح، ساحة الإمكان المقبول، ساحة الجواز من دون ترجيح". ذلك ان فاعلية التقويم تنطوي على عاطفة آمرة مواكبة اسمها عاطفة "يستلزم". فهي شعور يصحب كل حكم معياري يعرب عنه صاحبه بالقول أو بالحركة أو بالقدوة والرمز... وقوامه دعوة مضمرة في الغالب، أي قرينة لازبة تشف عن اعتقاد بتخطي التصور الذهني ليمسي عقيدة أو إيماناً. وهذه القرينة تزداد سمتها الآمرة قوة وإلحافاً كلما اشتد الإيمان وعظمت سيادته فعلاً وأصبح تزمتاً أو تعصباً وتطرفاً. ويجول بنا الباحث في مسائل التسامح والتدين، من البدائيين الى الأسرة فالقبيلة، من سلطة الرجل الزوج الى سلطة الرجل الأب، فالمالك أو السيد، فالحرب في القبيلة الواحدة، حتى الحروب الدينية، ومنها الى التعصب والاستشهاد ومحاكم التفتيش، ومن ثم يتوقف مليّاً أمام حلّ "التسامح" وهو الحل الوسط الأكرم، الذي ولد وسط مخاض أليم، وأسفر عن شأو عظيم في تقدم الفكر البشري، وازدهار الحضارة الإنسانية، فيفرد فصلاً للتسامح الإسلامي... ولعل كل ما تقدم هو استهلال للخوض في خضم هذه الرؤية العقلية التي يمكن تلخيصها على النحو الآتي: من تقابل الحقوق بالواجبات، وتفاعلهما، تتكون علاقات تشد الناس بعضهم الى بعض، وتتيح تقدير أفعالهم في ضوء القيم المشتركة بينهم، والمقررة في مجتمعهم، بل السائدة فيه، وهنا ينبثق امكانان في هذا التقدير: امكان السلوك المنفتح المتسامح المعترف بالذات والآخر، المعترف بالآخر اعترافه بالذات، ثم السلوك المغلق المتزمت الكاره سواه، وربما الكاره نفسه وجلاّدها في بعض الأحوال. ويصوغ الباحث فكرته بمقاربة دينية فكرية فيقول: "يترتب على الشخصية الإنسانية السوية فهم الكائن وما ينبغي أن يكون، ولا مناص لأفاضل الناس من أن يقوّموا، في وجودهم وفعالهم، الامكانات الإنسانية المتاحة لهم تقويم اختيار عقلاني على الدوام، وبهذا الاختيار يرجحون عملاً على عمل، وسلوكاً على سلوك، وقد يكون اختيارهم العقلاني ذا صفة دينية الرجحان، ويعرف اصطلاحاً عندئذ باسم التكليف، أو يكون اختياراً عقلانياً بترجيح انساني المنطلق، فيكون اختياراً نقدياً، اختياراً ذاتياً بشرياً أو دنيوياً، وكلا الاختيارين سلوك راهن يعدّ التسامح في إطار الثقافة العربية الإسلامية قيمة مرموقة أبداً". التكليف في الاصطلاح الزام ما فيه كلفة، ومناطه في الثقافة الإسلامية الإيمان بالله تعالى وببلوغ دعوة الرسل، وثمة من يستعيض عن هذا البلوغ باستطاعة العاقل أن يستدل بالمصنوعات الكونية على وجود صانعها، فإذا رقى فكره لإدراك ذلك وجب عليه ما يجب على من بلغته دعوة الرسل، وقد ذكر أبو البقاء في "الكليات" أن: "أكثر المحققين يرون ان التكليف بما لا يطاق غير جائز عقلاً وسمعاً، لأنه عبث"، ولقوله تعالى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". التكليف ينوس بين قطبين: أحدهما أقصى الايجاب وهو الفرض، أو ما أمر الله تعالى به على وجه اللزوم، وتاركه مستحق العقاب، والآخر هو أقصى المنع، وهو المحظور، أي ما نهى الله عنه وفاعله يستحق العقاب، وبين هذين القطبين تقع ساحة الأفعال المتوسطة الشأو، فثمة الأقرب الى الواجب وهو المسنون، والأقرب الى الممنوع وهو المكروه، وفي وسطهما فسحة المباح، وهي ميدان التسامح والمساهلة، وحدّه ما ليس في فعله ثواب، ولا في تركه عقاب. ويغوص الدكتور العوّا في أعماق الرؤى الفقهية، متسلحاً بالعقل والنقل معاً، مبيناً الحدود القصوى المتطرفة سلباً وايجاباً، وما بينهما، من الأقرب فالأقل قرباً، الى الوسط وفسحته... يقول اعتماداً على رأي الفقهاء: "إن كان الحلال بيّناً والحرام بيّناً، فإن النشاط الفقهي لاستشفاف الحكم الديني بما يقع بينهما هو الاجتهاد، والاجتهاد طريق مواءمة الوقائع المتجددة في تغير الحياة بالأصول الثابتة في الشرع، وهو نشاط موصول يبرع فيه العلماء الراسخون إذ يدركون حكم الجديد في ضوء القديم إما بنص أو إجماع أو قياس أو استصحاب... إلخ. أما سائر الناس فهم المقلون الذين يربكهم تعارض الأدلة لحل لبس المتشابهات. والمتشابهات محل اختلاف الأحكام لاختلاط الحلال بالحرام، ومن المشهور في الأثر ان اختلاف الأئمة رحمة، وفيه رجحان تقدير اليسر على العسر، والتساهل على التشدد، والتسامح على سواه". وفي هذا المنحى يشير الى بعض التفصيلات الشرعية مما يطرحه مسعى تكيّف المكلّف مع ظروفه الشخصية والمجتمعية وفق الأحكام الشرعية الآمرة الناهية، ولا سيما تلك التي تتيح ألا يأخذ نفسه، ولا يأخذ غيره من ثم، بالعَنَتِ والحرج والعناد والعسر، والاتجاهان كلاهما ماثلان سرمداً، ويورد مثلاً ابن حزم الذي ينسبه الى "صرامة هي أقرب الى الشدة والعسر"، وأبا حامد الغزالي الذي يفصح في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" عن تبرّمه من ضيقي الصدر والمتعصبين الذين يسارعون بإلصاق وصمة الكفر بالآخرين، ويجد من المعاصرين من يذهب الى التسامح مذهب الشيخ الإمام محمد عبده مثلاً وهو القائل: "هلا ذهبت الى ما اشتهر بين المسلمين، وعرف من قواعد أحكام دينهم، وهو إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مئة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه الى النار". ويذكر آراء عدد من المفكرين والباحثين المسلمين الذين امتدحوا اختلاف البشر في معتقداتهم منطلقين من الآية القائلة: "لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". وقد فهموا من هذه الآية ان اختلاف الناس في معتقداتهم خير، وأنه من سنَّة الله تعالى في خلقه. وبقول آخر: يقر مع أولئك المفكرين والفقهاء بأن التسامح الديني تسامح بقبول صنوف أخرى من الإيمان أو من المؤمنين، وهو واجب لأنه أمر واضح صريح جاء في القرآن الكريم، وهو فرض على المسلمين، وواجب يلزم المسلمين بألا يرغموا أحداً على ترك دينه واعتناق الإسلام، حيث يقول تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس 99. أي أن هذا ليس بمستطاع لك، ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أن تُكره الإنسان على الإيمان. وعلى هذا المبدأ أقام المسلمون صلاتهم، بأهل الأديان الأخرى سلماً وحرباً. الفصل الرابع من الباب الأول خصصه لمناقشة الحلول الفلسفية في الثقافة العربية الإسلامية حيث يورد تفاصيل جمّة عن الإيمان الديني وبعض نظراته الى مشكلة التسامح واللاتسامح، والى نوسان تعاليم الإسلام بين تفسير المتزمتين وتفسير المياسرين، مبيناً رجحان جانب التسامح والتوسعة والمساهلة بالاستناد الى فهم النص الإيماني فهماً مؤيداً بالاجتهاد والاستدلال والمناظرة والحوار. ثم ألمح الى حل آخر لمشكلة التسامح واللاتسامح لا يعتمد الحل الديني بمثل اعتماده الفكر العقلي المنطلق مباشرة من تفحص الوقائع الطبيعية، الإنسانية والكونية، واستخلاصه بالقوة العقلية سبل السلوك الإنساني حدود قيم النظر والعمل، وعقابيل التقيد أو اللاتقيد بمفهومات الحقوق والواجبات. الباب الثاني من الكتاب خصصه للتسامح في الفكر العالمي، ولعل رحلته في هذا الباب مع فلاسفة أو مفكري الغرب من أهم الأبحاث المستخلصة في طبيعة الوجود الإنساني، فهو لا يترك مسألة إلا ويناقشها: التقليد، العنف، الإيحاء، التعاطف، الصلاح والتسامح، اللاتسامح، الاضطهاد... الخ. وهذه المسائل يناقشها من خلال رحلة مكثفة ومعقدة لآراء المفكرين الغربيين البارزين في تاريخ الفكر الإنساني لكنها ممتعة للعقل، بل تشكل راحة له في خضم الفلسفات الإنسانية، لأنه يبين كيف انجرفت الدول والامبراطوريات وراء العنف تارة باسم الدين، وأخرى باسم المصالح، وثالثة ورابعة... وبالمحصلة كان اللاتسامح اضطهاداً ذا صبغة دينية، أو سياسية مغلّفة بإهاب ديني. رحل الباحث الفلسفي الدكتور عادل العوّا عن دنيانا قبل غزو العراق بثلاثة أشهر تقريباً، وكانت التهديدات الأميركية تتصاعد متواكبة مع بدء الاستعدادات العسكرية، والمقاومة العالمية لها تزداد، وكان الشك مختلطاً باليقين في إمكان حدوث الغزو... لكن ملامح الثور الهائج كانت شبه مكتملة، ولم يمهل الأجل المحتوم فقيدنا لوصف الدوافع الذاتية المحركة، التي تهيج الدوافع الأخرى المعلنة، الى جانب الدوافع المستنتجة الواضحة، الاقتصادية، وفلسفة القوة المهيمنة، والمصالح الشخصية، لا سيما بعد أن ثبت بطلان الحجج المعلنة بوجود أسلحة الدمار الشامل، وفرض الديموقراطية بقوة السلاح... * كاتب سوري.