لعله ختام مؤسف للعام 2003، لكن العلم سجل تراجعاً جديداً وتاريخياً على "جبهة مشتعلة" منذ تسعينات القرن الماضي. وتمكن مرض جنون البقر من اختراق الارض التي كانت عصية عليه على مدار التاريخ. انها نقطة تحوُّل تاريخي في علاقة الانسان مع الحيوان، او بالاحرى البيئة مع كلها. والمعلوم ان "التهاب الدماغ الاسفنجي"، وهو الاسم العلمي ل"جنون البقر"، نجم من اعتداء الانسان على عالم الحيوان والنبات. ففي اواخر الثمانينات في بريطانيا، عمد الساعون الى الربح الى إطعام الأبقار المكدسة في المزارع علفاً ممزوجاً بعظام وبقايا حيوانية مطحونة. والنتيجة؟ انفجار موجة جنون البقر في تسعينات القرن الماضي. وسرعان ما انتقل المرض من البقر الى البشر. وهكذا صار اللحم، احد اعز المأكولات على الانسان واكثرها ارتباطاً بتاريخه الاجتماعي والجنسي، مصدراً للهلع والخوف من الموت والجنون والخرف والشلل، وهي ما يسببه الشكل البشري من جنون البشر! البقرة التي هزت العالم ما ان اعلنت واشنطن العاصمة ان فحوص بقرة واحدة من نوع هولشتاين، وهو ارقى انواع الابقار، اظهرت اصابتها ب"التهاب الدماغ الحيواني الاسفنجي" BSE ، حتى بادرت دول عدة في آسيا الى منع استيراد الابقار الاميركية ولحومها في صورة فورية وشاملة. والحال ان اميركا هي المصدر الاول للحوم الابقار في العالم. إذ فاقت صادراتها 27 بليون دولار العام الماضي. وتذهب ثلث هذه اللحوم الى اليابان، المستورد الاول، وتليها كوريا الجنوبية. ومنعت الدولتان لحم البقر الاميركي كلياً. وحذت حذوهما سنغافورة وماليزيا واستراليا وتايوان وروسيا واوكرانيا. ولم يحتج الاتحاد الاوروبي لفرض أي حظر لأنه منع اصلاً استيراد اللحوم الاميركية، نظراً الى محتواها العالي من الهرمونات. انظر الصفحة الاقتصادية. وجاء الاعلان الاميركي بعد فترة من الشك امتدت منذ التاسع من الشهر الجاري، حين ظهرت اول الشكوك عن اصابة الابقار الاميركية. وورد التأكيد على لسان وزيرة الزراعة آن ايفييت، التي اشارت ايضاً الى ان من المبكر القول ان الاصابة تمثل حالة وحيدة مفردة! وبادرت السلطات الصحية الى فرض عزل على المزرعة التي اكتشفت فيها الاصابة، في مدينة يكاما في ولاية واشنطن، المحاذية للحدود الكندية. وفي باريس، اشار جان- لوك انغو، رئيس "منظمة صحة الحيوان العالمية"، الى ان وصول جنون البقر الى اميركا ليس مفاجئاً. وذكر بأن المرض عالمي الانتشار، وان حالات ظهرت في كندا في ايارمايو الماضي. ولأن ظهور حالة يؤشر الى وجود اعداد اخرى كامنة وغير مكتشفة، اعتبر انغو ان دخول المرض الى اميركا لم يكن سوى مسألة وقت. والحال ان المرض يسببه بروتين في اعصاب دماغ البقر، يتحول الى عنصر مؤذ، اسمه "بريون" Prion. ويأكل البريون الدماغ، تاركاً فراغات وبقايا لزجة. ويصبح شكله مثل الاسفنج، وهذا مصدر اسمه العلمي. ويترافق التآكل مع اعراض الجنون. ويصاب البشر ايضاً بالبريون الذي يضرب ادمغتهم، ما يؤدي الى خرف مبكر، واضطراب عصبي وحركي، ويصل بهم الى الموت. وتتركز البريونات في انسجة الدماغ والنخاع العظمي والطحال والكبد والعين والامعاء، فتعتبر ناقلاً اساسياً للعدوى.