} يصعب التفكير في موجة "جنون البقر" الحالية من دون تأملها بمنظار البيولوجيا التطورية Evolutionary Biology. ويعتبر "بريون" Prion العنصر المحفّز "التهاب الدماغ الاسفنجي البقري" Bovine Spongiform Encephalitis واختصاراً BSE، "فريداً" لكونه جيناً حيوانياً طبيعياً يتحول، بطريقة غير مفهومة الآن، مرضاً معدياً أولاً للحيوان ثم للإنسان. أي ان ما يبدأ كتغيير، لئلا نقول طفرة Mutation جينية في نوع غير انساني، يصير عدوى للبشر .... درج القول وراج على قدرة "بريون" على عبور الحواجز البيولوجية بين الأنواع الحية، كونه ينتقل من الحيوان الى الإنسان، لكن ذلك عين فعل فيروس الإيدز أيضاً! إذاً، لا يلخص عبور الحاجز البيولوجي أمر "جنون البقر"، بل وتنثال أسئلة من نوع آخر. كيف لتغيير موروث أحد الكائنات الحيّة ان يقلب حياة وعلاقات أساسية في مجتمع نوع آخر، بل والنوع الأكثر تطوراً ورقياً؟ وما معنى أن تهتز شبكة العلاقات الكثيفة في الحياة اليومية، بما فيها الثقافة والذوق وأنماط العيش، في "نوع أرقى" تحت أثر تبدّل جسد "نوع أدنى" في موروثه المختزن والمتوارث عبر الأجيال؟ منذ العام 1732، أركن الطب الحديث، وهو نص العلم ومشروع الحداثة التاريخي، الى صلابة الحواجز بين الأنواع استناداً الى ملاحظة عدم انتقال أمراض الحيوان الى الإنسان. ويذهب مرض BSE بالأمر الى أبعد. فإلى أي مدى يصح التفكير في جسد الحيوان والإنسان باعتبارهما أشياء تامة الانفصال؟ يصعب عدم الرجوع الى المفكر الفرنسي جيلبيرت دوران في كتاب "أنثروبولوجيا الأساطير"، حين لاحظ ان العلم الحديث يدأب على اختزال الإنسان وانتزاعه من العالم. وقادت الميثولوجيا والأساطير والنصوص الدينية الكبرى الإنسانية وحضاراتها آلاف السنين، قبل أن يمسك العلم الحديث بالزمام ويحاول ليّ الأعنّة، على قول دوران. ألا يشير تقاطع الأديان الى إنشاء نصوص قوية عميقة بين الإنسان وما تنبت الأرض أو تحتوي من أصناف الحيوان والنبات؟ أولا يشدد الارث المركوز للحضارات الشرقية، وخصوصاً في الهند والصين، على علاقة جسد الإنسان وفكره مع ما تصيبه يداه من طعام أو شراب؟ فإلى أين يقود التأمل في الخلاصات التطورية المنبثة طيّ كل ذلك الارث؟ والأرجح أن لا سبب كافياً للافتراض أن مرض BSE هو ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية المديد. ماذا لو ان المجتمعات البشرية واجهت عند الفجر المبكر للإنسان، أمراضاً تشابه BSE أو تزيد عنها فتكاً أو تختلف في أمراضها وأعراضها؟ كيف التصرف والتفاعل؟ والى أي أوضاع وخلاصات آلت الأمور؟ أسئلة كأنها لا تنتهي... بين بريون والإيدز في مؤتمر "دوربان" جنوب أفريقيا ثار نقاش في العلاقة بين فيروس الإيدز "اتش أي في" والمرض، تضمن شيئاً من صراع المصالح الكبرى. فالقول بوجود علاقة مباشرة بين الفيروس والمرض يفضي الى الزام الدول الصناعية، وخصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية، دفع مساعدات لشراء الأدوية المرتفعة الثمن والتي تحدّ من الفيروس. وما زالت جوانب كثيرة من هذه المسألة غير واضحة تماماً، وتحتاج الى المزيد من الأبحاث للإجابة عنها. ويبدو ان هناك التباساً مشابهاً في مرض جنون البقر. وحتى الطبيب بروسنر مكتشف "بريون" لاحظ وجود حالات من الاصابة بعنصر "بريون"، لا يرافقها التدرج نحو الحال المرضية. ومن المعروف كذلك وجود بعض المناعة الطبيعية لدى بعض الأفراد "تقاوم" بريون.