في الأسابيع القليلة الماضية، علت أصوات القلق والتساؤل عن عودة "مرض جنون البقر" بقوة في القارة الأوروبية. وفي مطلع التسعينات، ضربت الموجة الأولى منه الجزر البريطانية وتسببت بهلع عالمي، طاول البلدان العربية، لأن المملكة المتحدة تعتبر من أبرز مصدري لحوم الأبقار الى العرب والعالم. وإذا كانت "النبرة العربية" من القلق أقل من نظيرتها في أوروبا، فإن هذا لا يبرر النوم على حرير الأمان، والأجدى هو عدم الهلع والتزام الحيطة وتقصي الحقائق والأرقام. وخلال السنوات الخمس الماضية، اتخذت أوروبا اجراءات احتياطية بدت صارمة بهدف منع انتقال المرض من المواشمي الانكليزية الى البّر الأوروبي. ومن الواضح ان "بريون" Prion، وهو العنصر المحفّز للمرض استطاع عبور المانش بفعل بعض التراخي في مراقبة الأعلاف، وهو التفسير الرائج حالياً في فرنسا، أو ربما بواسطة سبل انتقال لم تكن معروفة قبلاً. ولا يشكل "مرض جنون البقر" وباءً غير معروف في المواشي، فالأرجح أن أوصافه معروفة لدى أطباء الحيوان منذ فترة طويلة جداً. ويرجع بعضهم تاريخ المعرفة العلمية بالمرض الى القرن الثامن عشر. فما الذي استجد حتى أثار مرض معروف وذائع كل هذا القلق؟ يعرف الأطباء البيطريون المرض باسم Bovine Spongiform Encephalitis، اختصار BSE، اي التهاب الدماغ الاسفنجي. وساد الاعتقاد طويلاً انه كان حصراً على المواشي، وتحديداً الأبقار. ومنذ عقود رصد الطب النفسي مرض "كروتزفيلد - جاكوب" Creutzfeldt-jakob Disease، أو CJD وهو مزيج ثلاثي من الخرف Dementia والحركات اللاإرادية Involuntary Movements والنوبات الصرعية Epilepticfits. ولاحظ الاطباء طويلاً، ان أدمغة مرض CJD تبدو كالاسفنجة الهشة عند تشريحها مجهرياً ولم يصدق احد ادعاء الدكتور ستانلي بروسنر، في العام 1982، بأن "بريون" ينقل المرض من الابقار الى الانسان، وخصوصاً عند أكله أعضاء بقرية معينة مثل المخ والعمود الفقري والكلى والطحال والأمعاء والأنسجة المتصلة باللسان. ويرجع عدم التصديق الى "متانة" الحواجز البيولوجية بين الأنواع، وخصوصاً بين الانسان وباقي الحيوانات. وانهار ذلك الحائط مع أول حال وفاة لإنسان من "بريون" الابقار في العام 1986. بعدها، عاد الطب "معتذراً" الى بروسنر الذي منح جائزة نوبل للطب في العام 1997. ولا يوجد علاج معروف لمرض BSE، ولا تتوافر الفحوصات اللازمة للكشف عن وجود "بريون" في الكثير من البلدان العربية. ونسب بعض المحللين الاجتماعيين الى "مرض جنون البقر" سقوط حكومة جون ميجور المحافظة في بريطانيا الثمانينات. وتخشى حكومات يسار الوسط الأوروبية أن تثير موجة المرض تفاعلات سياسية واجتماعية، خصوصاً ان بعضها ذر قرنه في التظاهرات التي رافقت قمة "نيس" لرؤساء دول السوق الأوروبية المشتركة.