اطلعت على المقال المنشور في جريدة "الحياة" ومجلة العربي وعنوانه "محكية عربية جديدة في لحظة الولادة" للأستاذ الدكتور محمد جابر الأنصاري، ولفت نظري بعد قراءتي له أمران، الأول: افلاس المفكرين العرب من الطرح الفكري المنبعث من تجليات العصر الذي نعيش أحداثه لاختلال واضطراب المفاهيم من جرّاء نقائض التفكير الإنساني مما ترك احباطاً امتد أثره على المبدعين والمفكرين في كل المجالات الإبداعية. وأصبح الفكر لدينا يؤسس لمراحل التدجين والتذويب للشخصية العربية في شرايين الأممية المفتعلة لندخل ضمن إطار التبعية المغتربة عن عالمها لتأسيس عالم ديموقراطي حر كما يزعم ساسة القوة امتثالاً لمتغيرات العصر في هذا العالم. وتشكيل معارفه ومناهجه ليكون ضمن أحد المسارات ذات الاتجاه الواحد نرث معتقداته وتراثه ليسمح لنا بدخول نادي الإنسانية الذي يقبلنا بشروطه الخاصة المرغِمَة لنا الرافضة لكل موروثاتنا وأشكالنا ولِباسنا لنتحول الى القطيع العالمي الذي تسوقه الصهيونية من خلال أميركا لتصبح اسرائيل سيدة العالم ونكون نحن عبيداً وخدماً لَها. الأمر الثاني: نجاح الفكر المعادي في استقطاب العقول العربية المبدعة تحت مظلة الدول العظمى حين أحسَّ بعض مبدعي أمتنا العربية بالاضطهاد النفسي... والفكري وعدم النظر الى المفكرين والمبدعين الا من خلال زوايا ضيقة تصب في خيرية الفرد المتمتع بكل صلاحيات الأفراد روحاً وجسماً وعقلاً... ذلك أدى الى هجرة ذوي المواهب الخلاقة من العرب ليعيشوا في وطن يحترم تفكيرهم وانسانيتهم. فمنهم من طاب له المقام بعد لأي ويأس من حال الأمة... ومنهم من عاد ليعمل على تغيير واقع الأمة بعقلية تنشد الأسمى والأفضل فلا تلبث أن تصطدم بالأنظمة المعمول بها في الدول العربية التي لا تسمح بالتفكير إلا بإذن، وكأن هذا المقال الإحباطي أحد دلائل الفكر المنهزم الذي افتتن بالجمال الكوني فلم يجد إلا الحجب وهي تستر مواطن الجمال. وصار كل مفكر أو مبدع يطير بجناحين أحدهما كسرته رياح الغربة التي تلبَّسها ولم تتلبَّسه وتشبَّه بها وهي تحقره لأنه ذلك العربي صاحب الخيمة والجمل منذ القدم وهو اليوم حامل وصمة الإرهاب... لم يعلنها بل إننا عجزنا أن نُقنع بلغتنا المجزأة والمتعددة الصيغ واللهجات ساسة القوة... ولم نستطع أن نوحد لغتنا لنقول اننا "لسنا ارهابيين". هكذا فإن شبح الاستكانة والخوف والضعف قد حدد اقامة اللهجات فارتضت بعزلتها في كهوفها المظلمة ولم تستبن حروف الهجاء العربية فصارت تقرأها بسليقة الوقت والعصر لا بسليقة العلم والعروق والجذور والأمة الواحدة... لذلك ولانعدام تقنية استعمال اللغة الأم تداخلت العجمة ومضت نظرية تصارع الثقافات لتجسيد صوت تولدت منه اللهجات في الدول العربية. وكم من الآراء المتعاقبة كانت تسعى الى تحقيق استقلالية ذاتية تسعى الى تجذير الهوية الى مكوناتها التراثية، والبيئية والجغرافية. تصوِّر الفطرة البشرية منذ القدم واستعدادها النفسي في تكوين الجماعة والقبيلة والأمة وتأصيل طينتها الى طينة الأرض التي ولدت فيها... تلك كانت إحدى الظواهر الطبيعية لخلق الإمارات والممالك القديمة التي سارت عليها الأمم وما زالت تسير... وحتى عندما تطورت اللغات فإن اشكالية الوحدة الغربية لم تتحقق لعدم تحقق اللغة الواحدة. وظلت كل دولة تحافظ على لغتها الى أن فوجئت بواقع أجبرها على ان تتخذ اللغة الانكليزية لغةً للسياسة والاقتصاد تجتمع حولها الدويلات وتظل لغة الشعوب الغربية متعددة ومتنوعة ومتباعدة في الأصوات الكلامية... والمعاني البيانية... فلم تعد اللاتينية القديمة نظراً لدقة تراكيبها لغة العصر السريع الذي يأخذ بالاختزال اللغوي للالتقاء بالبعد المعرفي من دون النظر الى التركيبة اللغوية... الأمر الذي لم يختلف عليه العرب عن بقية الأمم إلا في أن اللغة العربية كثيرة المعاني والمشتقات ولا تصعب على الفهم في الأمصار العربية وانما هي لهجات تتقارب في صيغها لتكوين الوسيلة للغةِ التفاهم ولكنها لم تخرج كثيراً عن اللغة الأم إلا بما أثر فيها من العجمة بحكم التواصل الديني... والهجرات والاستيطان... إضافة الى عدم الاهتمام بالتعريب لكثير من المصطلحات العلمية. كذلك فإن الاستعمار كان سبباً في إضعاف اللغة العربية بما فرضه من واقع يتطلب التَّبدل الى لغة المستعمر... حتى أصيبت هذه اللغة بالكثير من الهجمات العدائية التي تدعو الى اتخاذ اللهجات المحكية مثلها مثل اللغة الأم. وممن نادى بالعناية باللهجة من دون اللغة الجامعة لهذه الأمة الشاعر اللبناني سعيد عقل. ولم تصب هذه الدعاوى حظاً وافراً من الاهتمام لأن الإنسان العربي لم ينسلخ عن لغته ولم يستحدث لغة تخرج عن مفردات وحروف اللغة العربية لتصطنع لكل قطر لغة وليست لهجة تصب في نهاية الأمر في لغة ما... لتكون لها خصوصية في اللغة والتراث. لذلك عمد الأستاذ الأديب د. محمد جابر الأنصاري الى محاولة ترميم الواقع العربي الأليم بتمزيق اللغة في ظل اللهجات المحكية... ولا أدري أهي وحدة اللغة أم وحدة الدين أم وحدة الآمال هي التي حافظت على مفردة "العرب"؟ ولا أدري هل كل معوقاتنا وانهزامنا كان بسبب اللغة؟ وما هذه النغمة التي تعود بين الفينة والأخرى لتزيد مرارة الألم الذي يقتادنا بسلاسل الرهبة ويسوقنا كالخراف الى المذابح؟ أولو تجردنا أو انسلخنا عن هذه اللغة منذ ألف وأربعمئة سنة ونيف هل كان لنا ان نفتح بهذه اللغة الممالك والأوطان والأمصار؟ ألم تمثل اللغة العربية في يوم من الأيام امبراطورية اللغات؟ أيها الأستاذ، بهذه اللغة كتب علماؤنا وأدباؤنا الأوائل علومهم وآدابهم... وأفكارهم... وبهذه اللغة تواصل معنا علماء الغرب وقاموا بترجمة تلك العلوم والآداب بما أثَّرَ في حضارة العالم أجمع... فكيف بالله ندعو الى تبسيط اللغة العربية وهي لغة ذات مدلولات ومشتقات ومعان كثيرة... اضافة الى ان التراث العربي مكتوب كله بهذه اللغة، وان محاولة المساس أو التفكه بتبسيط اللغة العربية هو محاولة مبدئية للتنازل عن التراث وعن اللغة العربية "لمن يهمه الأمر"، وهي دعوى لتقطيع الجذور التي تكوِّن أحد أهم كياناتها اللغة في أمة من الأمم على الرغم من وجود اللهجات المتعددة ولكن يبقى في النهاية المرجع الأول لهذه الأمة العربية هو وحدة اللغة... المتمثلة في التراث الديني والإنساني. أقول للأستاذ الدكتور محمد جابر الأنصاري لم يبق لنا من سحناتنا السمر إلا هذه اللغة... فقد تبددنا كأمة ونكاد نعود الى شعوب وقبائل ينكر بعضها بعضاً يشحذون نصول سيوفهم لقتل بعضهم... وهذا ما يتمناه لنا الأعداء كي ندخل في رهج حروب دامية بيننا وبين أهلنا وعشيرتنا الأقربين... والفاجعة الكبرى أن الغرب وأميركا لا يقبلون بنا ولا بلغتنا لأنه قُدِّر لنا أن نكون ارهابيين كما أرادوا ومن دون ارادتنا ونحن لسنا كذلك. فوالله حتى لو نعمل جراحات تجميل لوجوهنا لعرفوا اننا عرب من دمائنا وصوتنا الواحد. فاجعة كبرى من ناحية وخطر أكبر من ناحية أخرى ونحن ما زلنا نلتقط أنفاسنا من الوجائع التي أشبعتنا مذلة وتكاد تودي بعزائم الشرف والطهر والشجاعة التي تغنى بها العربي في يوم من الأيام. ولا تقل لي انني أتباكى على الماضي، فأنت مثلي تبكي الانهزام النفسي العربي الذي احتقب خلايا عقولنا وما زال يجثم فوق صدورنا. ان المرحلة تنبئ بكوارث عظيمة لأننا تجاهلنا الجزء المهم في حياتنا وهو العناية بالفكر العربي والى دراسة تاريخ الأمة بإيجابياته وسلبياته منذ مئة عام على الأقل. وقد عرضت ذلك مع الأهداف التي قدمتها لمؤسسة الفكر في أول اجتماع لمجلس الأمناء... نودُّ في هذه المرحلة فقط أن نرفعَ أحمال اليأس والخذلان عن أعناقنا وعن صدورنا. نريد أن نستوعب ما يحدث وأن نتدبر... ونتفكر... ونكتب... ونقرأ عن عوراتنا ومصائبنا بلا مواراة أو خوف أو خجل. نودُّ أيها الأستاذ أن نرى دواخلنا وما بها من علل وأمراض... نريد أن نطهر أجسامنا من الداخل، نريد أن نحس كيف يكون الألم... وكيف يضمد الجرح ليعود الجسم العربي صحيحاً معافى، ويعود الفكر العربي سليماً منتجاً للمعارف محيطاً بالفكر العالمي حتى يستطيع أن يعيد هذه الأمة من المؤخرة الى المقدمة "وليس بغير العلم تسود الأمم". نودُّ بهذه اللغة العربية لغة القرآن أن نكون! لأننا بغيرها لن نكون وبضعفها سنضعف وباستخدام اللغات المحكية سوف نصبح بدل "الأمة العربية"، "الأمة المحكية" أوَتقبل أن نكون هكذا؟ لقد نسينا آلامنا ودماءنا وعدنا نلقي باللائمة على لغتنا وكأن اللغة العربية كانت سبباً في هذه الأحداث الأليمة. كنت أتمنى أن أقرأ فكراً يخرج أمتنا من ضيق الانكسار الى رحابة الدراسات الخلاقة ولكن يبدو أن عوامل البناء الفكري انهارت أمام مصطلحات التجارب الانتهازية لنظل مشدوهين غارقين في أعماق الصمت لا نحرك ساكناً. وتركنا فلول الضجر، والريبة تقتحم معاقلنا وقد أرخينا لجام عمرنا لننطلق لا الى الأمام بل الى الوراء... وما زلنا نركب قطار الوهم نحسبه الأمل حتى استهوانا الضياع وتشهَّانا السقوط الى الأسفل بدل الارتفاع الى الأعلى ورحنا نتقاسم الهموم ونملأ نواحينا بقهقهات هي أشبه ما تكون بالبكاء على مصير يتوعدُ فينا الإنسان العربي بالويل والثبور وعظائم الأمور ونحن على مشارف الوقوع في قبضة التسلط، فهل سنحاول رسم خارطة الطريق العربي قبل أن يرسمها لنا المستعمر الأميركي والصهيوني باللغة الأجنبية الفصحى؟