المجتمع العربي مجتمع ضعيف وتابع. لا أحد يختلف على ذلك. نحن ضعفاء اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، ونحن أيضاً مغلولو الإرادة، محكومون بأوامر الغير ومصالحه، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. الخلاف فقط حول أيهما السبب وأيهما النتيجة: هل نحن ضعفاء لأننا مغلولو الإرادة، أم أننا مغلولو الإرادة لأننا ضعفاء؟ والحقيقة، كما تبدو لي، أن كلا المقولتين صحيحتان، فلولا الضعف ما كنا تابعين خاضعين، ولولا التبعية والخضوع لأصبحنا على الأرجح أقوياء. والتقرير الذي صدر منذ أسابيع قليلة عن برنامج الأممالمتحدة للإنماء في عنوان "التنمية الإنسانية للعام 2003" وبعنوان فرعي هو "نحو إقامة مجتمع المعرفة"، يمثل هاتين النقيضتين أحسن تمثيل: فهو تقرير ضعيف وتابع. ولا يجب أن نتوقع غير ذلك، فكل المشتركين في كتابة التقرير، من رؤساء ومرؤسين، عرب، المرموقين منهم وغير المرموقين، والهيئة التي اصدرته برنامج الأممالمتحدة للإنماء UN خاضعة للأهواء والمصالح السياسية والاقتصادية للدول الكبرى، خصوصاً الولاياتالمتحدة، وهي أيضاً الهيئة الممولة الأساسية للتقرير. أما الهيئة الأخرى المشاركة لها في التمويل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وهي عربية، فهي أيضاً مغلولة الإرادة. فما هي الأسباب التي دعتني إلى وصف هذا التقرير بهذين الوصفين... التبعية والضعف؟ صدر التقرير في طبعتين إنكليزية وعربية، وقرأت الطبعة العربية، ولكنني وجدت رائحة الترجمة تفوح من كل جملة من جمله، من المؤكد إذاً أن التقرير، وإن كان كتّابه عرباً فإنهم كتبوه أولاً بالإنكليزية، ثم أعطوه لمن يترجمه إلى العربية. والترجمة جيدة ومع ذلك كنت في مواضع كثيرة أشك في أن يستطيع القارئ العربي فهمها إلا إذا استرجعها في أجنبية الأصل الإنكليزي. والأهم من صعوبة أو سهولة الفهم دلالة هذا الأمر: ان كتّاباً من العرب إذا كتبوا تقريراً الغرض منه النهوض بحال المعرفة في الأمة العربية يجدون من الأسهل عليهم، أدق الواجب، أن يكتبوا بالإنكليزية أولاً. هل السبب أنهم مفكرون بالإنكليزية ابتداء؟ أم أنهم يحتاجون، إذا أرادوا التواصل والنقاش مع زملائهم العرب، إلى الكتابة لهم بالإنكليزية؟ أم أنهم يحتاجون من أجل الحصول على موافقة ممولي التقرير من الأجانب أن يكتبوا لهم بالإنكليزية؟ أم أنهم فاقدو الثقة تماماً بقدرة اللغة العربية على التعبير عن أفكارهم فبحثوا عن لغة أخرى للكتابة؟ سواء كان السبب هذا أو ذاك فالأمر محزن بلا جدال، مما يجعل المرء يترحم على أيام كانت الكتابة عن النهضة العربية، سواء في موضوع المعرفة أو غيره، يقوم بها رجال من نوع الشيخ محمد عبده أو طه حسين، لا يحتاجون إلى إقرار مسبّق من الأجانب لما يكتبونه عن النهضة العربية، ولا يفكرون إلا بالعربية، ولا يتواصلون أو يناقشون زملاءهم إلا بالعربية، وتملأهم الثقة بقدرة اللغة العربية على التعبير عن أي معنى يهمهم أن يعبِّروا عنه. الأهم من مسألة لغة التعبير، كمظهر من مظاهر التبعية والخضوع، نقل التحيزات الأجنبية وكأنها تحيزاتنا، وخدمة مصالح الغير وكأنها مصالحنا. فما هي التحيزات الأجنبية الشائعة في هذه الأيام؟ إنها التأكيد على الحرية والديموقراطية السياسية والتسامح مع "الآخر"، ولا بأس أيضاً من التأكيد على مزايا الانفتاح الاقتصادي والثقافي. ومن التحيزات الشائعة أيضاً في هذه الأيام التشهير بالعرب والمسلمين، خصوصاً بمن يسمون الإرهابيين الإسلاميين من ذوي الفكر الأصولي. قد يقال هل تسمى هذه "تحيزات"؟ هل تفكر أن الحرية والديموقراطية والتسامح مع الآخر مبادئ خالدة وثابتة وصالحة لكل زمان ومكان؟ وهل تنكر أن الانفتاح الاقتصادي الثقافي شيء مرغوب فيه على مر العصور؟ وهل تنكر أن العرب والمسلمين في حال يُرثى لها سواء في أمور المعرفة أو في غيرها من الأمور، وأن كشف نقائضهم أمر مطلوب وخطوة ضرورية الى طريق الإصلاح؟ وهل تنكر أن الإرهاب شيء فظيع سواء كان إسلامياً أم غير إسلامي؟ وردّي على هذا أن أفضل الأمور يمكن أن تصبح أسوأها إذا أُسيء فهمها، أو طبقت في غير مجالها أو في غير وقتها، أو إذا رفع لواءها شخص سيئ النية لتحقيق مآرب خاصة به، وأن إظهار العيوب قد يكون خيراً أو شراً على حسب المراد بة ووقت حدوثه وطريقة التعبير المستخدمة فيه، وأن النقد الذاتي قد يستحق التقدير والثناء إذا صدر عن قوة وثقة بالنفس وقد يستحق اللوم إذا صدر عن خنوع وخضوع ورغبة في إرضاء الغير. ولديّ أسباب كثيرة للاعتقاد بأن هذا الذي فعله تقرير التنمية الإنسانية للعام 2003 نحو إقامة مجتمع المعرفة هو من النوع الذي يستحق اللوم. خذ مثلاً موضوع الحرية والديموقراطية السياسية، إنه أكثر المواضيع تكراراً في التقرير، سواء تعلق الأمر بالتشخيص أو التفسير أو التوصيات. ففي التشخيص كان أول عيب يذكره التقرير، في ما يتعلق بحال المعرفة في البلاد العربية هو أن "أكثر أساليب التنشئة أي التربية انتشاراً في الأسرة العربية هي أساليب التسلط والتذبذب ما هي الكلمة الإنكليزية يا ترى التي تُرجمت إلى التذبذب؟ والحماية الزائدة" ص3. وفي الحديث عن وسائل الإعلام كان أول ما يذكره التقرير بعد أن يشكو من تدني عدد الصحف أن "معظم البلاد العربية محكومة ببيئة تتسم بالتقييد الشديد لحرية الصحافة والتعبير عن الرأي... وهيمنة الإعلام الرسمي ذي الرأي الواحد على الساحة الاعلامية"، وعند الكلام عن الانتاج العلمي في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، كان أول ما يشكو منه التقرير هو "تدخل السياسة والقوانين المتصلة بها... في رسم الخطوط الحمر للبحث العلمي في هذا المجال". وأما عن الإبداع الأدبي، فيشكو التقرير من أن "وصول ناتج الإبداع للناس من خلال الكتب ووسائل الإعلام يبقى قليلاً في غياب الحريات". والإذاعة المسموعة والمرئية "لا تتمتع في رأيهم أي عينة من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات بمستوى معقول من الحرية". هذا عن التشخيص، أما في التفسير فيؤكد التقرير أن نظام القيم السائد لا يشجع على ازدهار المعرفة، ولكن تلعب الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوراً حاسماً في تشكيل هذا النظام "إذا ظل هامش الحرية محدوداً، وساهم القمع والتهميش في قتل الرغبة في الانجاز والسعادة السعادة أيضاً؟ والانتماء، ومن هنا ساد الشعور باللا مبالاة والاكتئاب السياسي، ومن ثم ابتعاد المواطنين عن المساهمة في إحداث التغيير المنشود في الوطن" ما أجمل استخدام كلمة "الوطن" هنا بعد كل هذا التقريع. وأما عن التوصيات فيذكر التقرير خمساً منها، أولاً: "إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح". ما قولنا في هذا الأمر؟ هل يمكن أن ينكر أحد مزايا الحرية وأهميتها لكل شيء، بما في ذلك المعرفة؟ لا يمكن أن ننكر هذا بالطبع، بل أحياناً يسأل المرء نفسه عما إذا كان هذا الأمر لا يزال يحتاج إلى تأكيد من باحثين كبار ودعم مالي من برنامج الأممالمتحدة للإنماء، السؤال المهم ليس هو ما إذا كانت الحرية شيئاً طيباً ومرغوباً فيه أم ليست كذلك، وإنما السؤال هو: هل غياب الحرية هو فعلاً أهم سمات انحطاط حال المعرفة في البلاد العربية؟ وهل هو السبب الرئيسي لهذا الانحطاط؟ وهل هو أهم ما يستحق التأكيد عليه في ظل الأوضاع الحالية للبلاد العربية؟ وأي نوع من الحرية، من بين أنواعها المتعددة، هو فعلاً ما نفتقده بشدة في هذه الأيام ونحتاج إلى استعادته؟ إني سأزعم في هذا المقال أن كتّاب هذا التقرير لم يعطوا موضوع الحرية، على أهميته، حقه من التفكير، بل اكتفوا بترديد الكلام الإنشائي الشائع على ضرورة الحرية والخسارة التي تعود علينا من فقدها من دون تعمق كاف في الأمر ولا تأمل كافياً في تاريخ الأمم، عربية كانت أو غير عربية، لمحاولة استخلاص الدروس الحقيقية منه. نعم، الحرية شيء عظيم، والمعرفة شيء عظيم بدورها، ولكن ليس كل شيئين عظيمين يأتيان دائماً معاً وفي الوقت نفسه، بكل أسف. فقد تحصل على الحرية من دون أن تظفر بكثير من المعرفة، كما لو سيطر الرعاع والسوقة على حال المعرفة في أمة من الأمم واستولوا على وسائل الإعلام وطبعت رغباتهم وأهواؤهم نظام التعليم بطباعها، وتمتعوا "بكل الحرية" في الوصول بأحوال التلفزيون والمسرح والسينما والتعليم إلى مستوى بالغ الانحطاط. كما أن أحوال العلم والمعرفة قد تتقدم تقدماً عظيماً في ظل نظام الحكم المطلق، وفي ظل حاكم مستبد برأيه ولكنه مستنير، كهارون الرشيد مثلاً أو المأمون، أو عندما تكون الظروف الاجتماعية مؤاتية لهذا التقدم. حدث مثل هذا في بلادنا وفي بلاد الغرب على السواء. فجامعات أوروبا الشهيرة التي نشأت في عصر النهضة، من أمثال أكسفورد وكامبردج، لم تنشأ في ظل نظام ديموقراطي برلماني، بل في ظل الحكم المطلق، ومحمد علي الذي بدأ نظام البعثات العلمية إلى أوروبا وجمال عبد الناصر الذي استمر في إرسال البعثات إلى الشرق والغرب لم يكونا حاكمين ديموقراطيين، بينما تدهور حال المعرفة في عهد خلفائهم "الأكثر ديموقراطية" وحقبة ازدهار الفكر العربي والإسلامي التي يشيد بها التقرير لم تتسم بنظام سياسي ديموقراطي من نوع نظام الرئيس بوش في الولاياتالمتحدة، بل كانت حقبة حكم فردي مطلق. كان من المفيد بالطبع أن يقارن كاتبو التقرير بين ما حدث "للمعرفة" خلال نصف القرن الماضي في الهندوالصين مثلاً، حيث تمتعت الهند بنظام أكثر ديموقراطية بكثير من الصين من دون أن ينعكس هذا على تفوق واضح للهند في ما يتعلق بأمور "المعرفة"، بل وربما كان من الملائم أن يميز كاتبو التقرير بين الأنواع المختلفة من المعرفة، بين العلمية والأدبية والفنية، أو بين البحث العلمي وفحص جميع المعلومات وتحليلها ونشرها، أدبية نشر المعرفة من طريق المدارس، أو الكتب أو التلفزيون، من حيث تأثر كل من هذه الأنواع المختلفة بدرجة الديموقراطية السياسية المتاحة أو بأنواع الديموقراطية المختلفة. ولكن يبدو أن حماية كاتبي التقرير للديموقراطية السياسية، أياً كان نوعها، ولهفتهم على إصدار التقرير بسرعة كافية في ظل المناخ السياسي السائد الآن في العالم، قد منعاهم للأسف من إجراء هذه المقارنات المهمة والتمييز الكافي بين أنواع المعرفة المتعددة وبين أنواع الديموقراطية المختلفة. ولكن هذا الاستعجال غير المبرر وهذا التلهف على المشاركة في جوقة التصفيق والتهليل للديموقراطية والحرية أوقعا كاتبي التقرير في خطأ أشنع من هذا، وهو إغفال التمييز بين المعوقات المختلفة للحرية. فقارئ التقرير يخرج بانطباع أكيد أن الحرية ليس لها إلا عدوّين: الدولة المستبدة من ناحية والتطرف الديني من ناحية أخرى. الأولى تكمّ الأفواه وتفرض رأياً واحداً على الجميع، وتضيق فرص التحاور والنقاش، فتضيع فرص الإبداع وتصيب المبدعين المحتملين بالقنوط، والاكتئاب، والتطرف الديني يمنع الاجتهاد في الدين ويحرم الحلال، بما في ذلك بعض أنواع البحث العلمي والانتاج الأدبي الفني بحجة تعارضه مع مبادئ الدين، كما أنه يضيق من فرص الانفتاح على الآخر بحجة أن هذا الآخر كافر أو ينتمي إلى دين مختلف، فتضعف فرص تفاعل الافكار وتبادل المعلومات والخبرات مما لا بد من أن يقلل بدوره من فرص التقدم العلمي والإبداع الفني. لا شك في أن كل هذا صحيح، عيبه الوحيد أنه ناقص نقصاً خطيراً. فالذي يقرأ كلام هذا التقرير عن الآثار السيئة للاستبداد ونقص الحرية يتصور دائماً أن الحاكم المستبد المقيد للحريات لا بد من أن يكون من بين أهل المنطقة المستبد بها، فإذا كانت المنطقة عربية فلا بد من أن يكون الحاكم المستبد والمقيد للحريات عربياً، ويتجاهل التقرير تجاهلاً تاماً ما يشكله الحكم الأجنبي من تهديد للحريات أو المعرفة. ففي الفصل الثامن مثلاً المعنون "السياق السياسي"، الذي يتوقع القارئ أن يجد فيه مناقشة لمختلف المعوقات السياسية لتقدم المعرفة، لا يذكر التقرير جملة واحدة تتعلق بالاستبداد الناتج عن احتلال دولة أجنبية لدولة عربية، وهذا الاغفال معيب جداً بالطبع فضلاً عن أنه مدهش في هذا الوقت بالذات. فالعرب يعيشون في هذه الأيام أوقاتاً عصيبة من أهم سماتها قيام جيوش أجنبية، أميركية وبريطانية، باحتلال العراق ناهيك عن تنكيل الإسرائيليين بالفلسطينيين منذ زمن، وزيادة هذا التنكيل في السنوات الأخيرة، فلماذا لا يذكر أثر هذا أو ذاك في إعاقة تقدم المعرفة في البلاد العربية؟ أليس السيد بريمر الاميركي هو بدوره حاكماً مطلقاً أَوَلا يستبد السيد بوش ورجاله برأيهم في ما يُعمل في العراق وما لا يُعمل، الى درجة تقريرهم نوع التعليم الذي يجب أن يتلقاه العراقيون؟ أم أن الذي يمكن أن يضر بحال المعرفة في العراق لا بد من أن يكون عراقياً، ولا يمكن أن يكون أميركياً أو بريطانياً؟ وأما التطرف فهو قطعاً، إذا بلغ حداً معيناً، لا بد من أن يكون وخيم الأثر على حال الإبداع والمعرفة، وإن كان لا بد من الاعتراف بأن بعض أنواع التطرف، إذا لم تتجاوز حداً معيناً، قد تكون مفيدة للإبداع والمعرفة، إذ لا شك في أن الفنان المبدع أقرب إلى "التطرف"، بمعنى من المعاني، من الشخص عديم الموهبة والهمة، والعالم العبقري والألمعي قد يعود جزء من عبقريته وألمعيته إلى نوع من أنواع التطرف، إما في جمع المعلومات عن الظاهرة التي يعكف على دراستها أو في السهر على تحليلها، أو في تعقب أسبابها وآثارها إذ نرى كثيراً من العلماء لهم بعض الشبه بالمصابين بالهوس الديني. ولكن ليس هذا بالطبع ما يقصده كتّاب هذا التقرير بالتطرف، بل يقصدون التطرف الديني بالذات، بسبب علاقته بما يسمى ظاهرة الإرهاب التي لا يكف الأميركيون عن الكلام عنها في الوقت الحاضر. ولكن لماذا نخص بالكلام هذا النوع بالذات من التطرف والإرهاب وأثره السيئ على حال المعرفة؟ إن تصرفات الرئيس بوش مثلاً ورجاله، منذ 11 أيلول سبتمبر 2001 على الأقل، لها شبه كبيرا جداً بالهوس الديني والتطرف، سواء في كلامهم عن أسلحة الدمار الشامل أو عن المقاومة الفلسطينية أو عن ضرورة تأديب الدول المارقة أو عن العرب عموماً والمسلمين. كان أثر هذا الهوس وهذا التطرف وخيماً على حال المعرفة داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، فقد دفع هذا الهوس والتطرف الجميع داخل الولاياتالمتحدة وخارجها إلى ترديد الكلام نفسه الممل والمعاد خوفاً من الأذى أو طمعاً في المكافأة، إلى درجة أن ناشري الكتب ورؤساء تحرير المجلات، ناهيك عن أصحاب القنوات التلفزيونية، لم يعودوا يجرأون على نشر أو إذاعة أي كلام مخالف لما تقوله السلطة، وأصبحت المكتبات العامة تمارس نوعاً من المراقبة على القرار أو مشتري الكتب. فأي نوع من المعرفة يؤمل في انتشاره وذيوعه في مثل هذه الأجواء؟ طبعاً نحن لا نتوقع ولا نطالب كتّاب تقرير التنمية الإنسانية العربية بالخوض في التطرف والهوس الاميركيين وأثره على المعرفة، فهم معنيون فقط بالتطرف والهوس العربيين، وأثرهما على المعرفة في البلاد العربية، ولكن ألا يستحق هذا النوع الآخر من التطرف والهوس ولو جملة واحدة منهم خصوصاً أنه لا يخلو من آثار وخيمة على حال المعرفة العربية نفسها؟ إن كتّاب التقرير لم يفتهم التأكيد على الخسارة التي لحقت بالبلاد العربية بسبب ما ترتب على أحداث 11 أيلول من تقييد لحرية العرب في دخول الولاياتالمتحدة، ما حرم العرب من فرص الإفادة من العلم الاميركي الغزير ومن انتشار المعرفة فيها، فكان جديراً بهم أن يكتبوا ولو فقرة قصيرة عما حرم منه العرب في ميدان المعرفة بسبب مجيء الولاياتالمتحدة بنفسها إليهم، وما أدى إليه التطرف والهوس الاميركيين من كمِّ الأفواه داخل البلاد العربية نفسها، وهو ما لا بد أن يكون أثره على "الاجتهاد" وخيماً مثل أثر التطرف الديني بالضبط، فكما أن المتطرفين في الدين يسمون أي اجتهاد في تفسير الدين "بدعة" يجب منعها، يعتبر المتطرفون الاميركيون أي اجتهاد في تفسير ما حدث في 11 أيلول ترديداً لنظرية "المؤامرة" يجب منعه أيضاً. ولكن لا هذا ولا ذاك ينهي الكلام عن معوقات الحرية. فلا الاستبداد، داخلياً كان أو خارجياً، ولا التطرف والهوس، دينياً كان أو سياسياً، هما كل ما يمكن أن يعوق الحرية ويضر بالمعرفة. بل هناك أيضاً المصالح التجارية، وهي أيضاً مما سكت عنه التقرير سكوتاً تاماً. وهذا التجاهل التام لأثر المصالح التجارية في الإضرار بحال المعرفة غريب جداً في حد ذاته، وفي هذا الوقت بالذات، ومن كتّاب عرب خصوصاً فمن المعروف والمشهور أن المصالح التجارية في العصر الحديث تشكل تهديداً مهماً لموضوعية المعرفة وحيادها، فهي قد يهمها نشر معلومات خاطئة، ليس فقط عن السلع والخدمات التي تنتجها، بل وعن سياسات معينة تحبها أو تكرهها، وعن بلاد تريد تلويث سمعة حكامها لأنهم يقفون في وجه هذه المصالح التجارية، أو تريد إحداث انقلاب فيها للسبب نفسه، وإذا كانت هذه المصالح التجارية تتعلق ببيع الأسلحة فلا نهاية لما يمكن أن تقوم به من غسيل للدماغ من أجل تسهيل إشعال حرب أو زيادتها التهاباً، وفي عصر تتمتع فيه هذه المصالح التجارية، أكثر فأكثر، بمراكز احتكارية قوية، تزداد قدرتها على التأثير في المعرفة السائدة، فلا تقتصر سيطرتها وتأثيرها على وسائل الإعلام المألوفة والمعروفة بهذا الاسم من راديو وتلفزيون وسينما وصحف، بل وتمتد إلى نظام التعليم نفسه، حيث يأخذ سلطان الدولة في الانحسار شيئاً فشيئاً أمام زحف هذه الاحتكارات. وتقرير التنمية الإنسانية الذي نتكلم عنه، المفروض أنه يهتم بالمستقبل أكثر من الماضي، بل وعنوانه الفرعي يتعلق بالمستقبل "نحو إقامة مجتمع المعرفة"، إذاً المتوقع منه أن يتكلم عن الأخطار الحالية والمستقبلة ومن أهمها التهديد التي تمثله المصالح التجارية أكثر مما يتكلم عن خطر الدولة المستبدة، الذي كان يمثل التهديد الأساسي لبعض أنواع المعرفة في دولة كالاتحاد السوفياتي أو ألمانيا النازية، وأكثر من يتكلم عن خطر التطرف الديني الذي كان يمثل التهديد الأساسي لمعظم أنواع المعرفة في أوروبا في العصور الوسطى والبلاد العربية تخضع حالياً لحملة استعمارية جديدة تستهدف من بين ما تستهدفه تغيير "حال المعرفة" في بلادنا، وتنشط بشدة في ميادين الإعلام المختلفة، فتنشئ قنوات تلفزيونية وصحفاً وإذاعات جديدة، وتستهدف عقول الشباب وتحاول أن تحل فيها أفكاراً ومعتقدات جديدة بدلاً من المعتقدات السائدة، وتسخِّر ما يسمى "ثوابت الأمة" لمجرد أنها تريد اقتلاعها من جذورها. بل وتنشط في مجال تغيير المناهج الدراسية ونظم التعليم بحجة إحلال الديموقراطية محل الديكتاتورية. وهناك شكوك قوية تحوم حول دور المصالح التجارية في هذه الأمور كلها، من شركات النفط، إلى أصحاب مصانع الأسلحة، إلى أصحاب الاستثمارات الأجنبية، إلى منتجي مختلف السلع والخدمات الذين يهمهم الاستئثار بأسواق هذه المنطقة من دون غيرهم، أو على الأقل فرض إرادتهم على غيرهم في ما يتعلق بتقسيم غنائم هذه المنطقة. كيف يمكن أن نفسر في هذا المناخ أن يأتي تقرير جديد عن التنمية الإنسانية العربية، فلا يذكر كلمة واحدة عن أثر المصالح التجارية في إفساد حال المعرفة ووقوفها عقبة في وجه إصلاحها؟ ليس لديّ إلا أحد تفسيرين، هما ما بدأت به هذا المقال: إما الضعف أو التبعية، أو الاثنان معاً. * كاتب مصري.