قد تكون مؤلفات الكاتب والطيار الفرنسي انطوان دو سانت اكزوبري 1900 - 1944 من المصادر التي يمكن العودة اليها لتأريخ الانطباعات التي عرفها الطيارون في العقود الأولى من القرن المنصرم. فهذا الكاتب الذي كان طياراً دوّن كل ما يمكن أن يواجه الطيار من أحداث ومخاطر ومخاوف ناهيك بالأحاسيس الغامضة التي لا يشعر بها إلا من يقود الطائرة في سماء شاسعة. على أن طائرة هذا الكاتب كانت، في مطالع القرن المنصرم، تتيح له أن يرى الجبال والوديان والمنازل وأن يكتشف روعة المناظر الأرضية من السماء، فيصبح صديق الأرض مثلما هو صديق الغيوم والزرقة السماوية. واستطاع هذا الكاتب - الطيار أن يدرك من وراء مقوده في السماء الشاهقة أن الأرض هي "أرض البشر" كما يفيد عنوان أحد كتبه وأن الطائرة هي التي ساعدته على اكتشاف "بشرية" الأرض. ولا عجب أن يشبّه الطائرة ب"المحراث" معتبراً إياهما وسيلتين تخدمان الانسان: الطائرة تشق السماء في مغامرة شبه مجهولة والمحراث يشقّ التربة ويجعلها خصبة. لم يكتب سانت اكزوبري الا عن الطيران وعن عالمه الضيق والرحب في آن واحد. كتب عن الطائرة والبريد الذي تنقله، وعن الاعطال التي تحلّ بها، مثلما كتب عن الطيارين الذين جعلهم أبطالاً وعن شركات الطيران والهموم التي تواجهها. وكتب كذلك عن المشاعر والأحاسيس التي تخامر الطيار في مغامراته، وعن عزلة الطيار في الجو والأفكار والرؤى التي تعبر رأسه. فالطيران الذي احتل حياته احتل أدبه أيضاً فإذا به يجمع بين "حرفتين" أو "مهنتين" لا تجمع بينهما أصلاً إلا المغامرة وخوض المجهول ومواجهة الذات عارية من أي قشور، علاوة على مجابهة الخطر وربما الموت. وليس من قبيل المصادفة أن يموت سانت اكزوبري مثلما مات بطلاه: الطيار فابيان في رواية "طيران الليل"، والطيار جاك في رواية "بريد الجنوب". وهو لم يشأهما شهيدين إلا ليجعل من شخص الطيار بطلاً درامياً ذا معاناة انسانية عميقة. وكم كان حدسه مصيباً عندما صوّر موت هذين الطيارين وكأنه موته الشخصي. هو مات في حادثة مأسوية حين كان يحلّق فوق كورسيكا 1944 فيما مات "فابيان" وسط السماء بجرأة وهدوء، وسقط جاك ضحية رياح "السموم" في قلب الصحراء. أول قصة كتبها سانت اكزوبري كان عنوانها "الطيار" 1926، وكان خارجاً لتوه من معهد الفنون الجميلة ومن معهد الطيران. لكنه سرعان ما تفرّغ لمهنته الخطرة التي اختارها صدفة ووجد نفسه فيها أو حقق حلمه الدفين الذي باحت به رواياته لاحقاً. وكان كلما انقطع عن الطيران عاد اليه برغبة جامحة وشوق مضطرم. فهو عمل مراسلاً صحافياً فترة وكاتب تحقيقات متنقلاً بين بلد وآخر. وأقام فترة في نيويورك حيث كتب نصوص كتابه "القلعة" الذي سيصدر بعد أربع سنوات من وفاته. في الحرب العالمية الثانية اضطر الى المشاركة كطيار في المعارك، وكانت هذه تجربة مريرة. فالطيران في نظره هو لخدمة البشر والتقريب بينهم وتسهيل مناسبات لقائهم. وهكذا عمل فترة طويلة طياراً في البريد الجوي على غرار الكثير من أبطاله ولا سيما بطل رواية "بريد الجنوب". فهذه الرواية التي صدرت في 1929 تدور حول الطيران بين أوروبا وأميركا الجنوبية وتحديداً الطيران البريدي، وفيها يصبح الطيار أشبه بالجندي الذي يجابه التحديات و"المفاجآت" ولا سيما رياح "السموم" التي تجبره على أن يحط بطائرته في الصحراء، وهناك يلقى موته. في رواية "طيران الليل" 1931 يختبر الطيار فابيان معنى التضحية ويموت إثر حادثة مأسوية في وسط السماء. أحداث الرواية تجري في أميركا الجنوبية، في الزمن الذي سمّي حينذاك "الزمن البطولي للطيران التجاري". البطل الأول يدعى ريفيير، مدير شركة الطيران، رجل قاس و"صانع إرادات"، يشجع الطيارين ويدفعهم الى المغامرة والى عدم خشية الموت، وهمه، كل همه، أن يثبت ان الطائرة أسرع في نقل البريد من القطار، شرط أن يُعتمد "طيران الليل" الذي كان خطراً جداً في ذلك الحين. فخلال الطيران الليلي يتمكن الطيارون من إنهاء مزيد من المهمات. أما رواية "أرض البشر" 1939 فهي ترسخ "الطقوس المقدسة" للطيران، ومنها تلك الصداقة التي يعقدها الطيار مع المناظر الطبيعية المتوالية أمام عينيه فيما هو وراء المقود. هذا الكتاب ليس رواية بل دفتر مذكرات وتأملات وشهادات كتبها سانت اكزوبري برهافته المعهودة وغنائيته ودفء لغته. ويروي خلال هذا "الدفتر" الكثير من المغامرات التي خاضها والتجارب الحقيقية التي واجهها كالتيه في الصحراء والجوع والعطش والوحدة ومجابهة الأخطار الجوية والأرضية... وفي هذا الكتاب تتبدى النزعة "الانسانوية" التي تكمن في روحه والتي دفعته الى تسمية كوكب الانسان "أرض البشر". يكتب سانت إكزوبري قائلاً: "إننا، إذ ننضم الى اخوتنا عبر هدف مشترك، قائم خارج ذواتنا، فإنما نحيا فقط، وقد علّمتنا التجربة أن المحبة ليست في أن ينظر واحدنا الى الآخر بل أن ننظر معاً في الوجهة نفسها". جعل سانت اكزوبري مهنة الطيران مهنة وجودية ذات خلفية فلسفية. فالطيران كما عاشه هو فعل نبيل وإنساني يوازي فعل الكتابة. ولعل إصراره على قصر أدبه على عالم الطيران يدل على انصهار شخص الكاتب في شخص الطيار، واندماج الأدب بالحياة بصفتها تجربة دائمة أو اختباراً مفتوحاً على المجهول. وقد تختصر روايته "الأمير الصغير" التي كانت ربما آخر أعماله، صدرت قبل سنة من رحيله المأسوي، فلسفته الانسانية التي تعتمد العقل مثلما تعتمد المخيلة، أو الوعي والحلم في وقت واحد. وإذ تبدو هذه الرواية كأنها تتوجه الى القارئ الصغير، طفلاً أو فتى، فإنما هي تتوجه أيضاً الى القارئ الكبير، رجلاً وربما عجوزاً. فالحكمة التي تشغلها يمكن مقاربتها من زوايا عدة، وكذلك يمكن تأويل الرواية بحرية مطلقة. فهي تخفي وراء بساطتها ومناخها الطفولي والحلمي الكثير من الرؤى والمجازات والأفكار. وإن لم تدر الرواية كلها حول الطيران فهي تكتفي بهبوط الطائرة في الصحراء من جراء عطل أصابها، وهناك سيلتقي الطيار "الأمير الصغير" الآتي من كوكب آخر وستحصل تلك المغامرات الجميلة والباهرة. مَن يقرأ اليوم روايات سانت اكزوبري، أي بُعيد الثورة التقنية التي حصلت في عالم الطيران، يكتشف أنه يقرأ الانطباعات الأولى عن تجربة الطيران. لكنها انطباعات مشوبة بالتأمل والتساؤل الفلسفي والحكمة. وقد جمعت هذه الروايات بين التوثيق والغنائية فإذا بها تسرد وقائع الطيران عبر لغة صافية، ملؤها الصور والايقاع الداخلي والشفافية. عاش سانت اكزوبري حياته طياراً وكاتباً ومات شهيد الطيران وشهيد الأدب، هو الذي "أنسن" الكتابة وكان بمثابة "الطيار الصوفي" كما سمّي، وخصوصاً من خلال رفضه "عبودية" الآلة أو سيطرتها على الانسان. ولعلّ موته الفجائعي جعله هو نفسه بطلاً تراجيدياً، في ملحمة هي حياته نفسها تلك التي لم تتخط الأربع والأربعين سنة.