قامت الروائية المصرية - البريطانية اهداف سويف اخيراً بزيارة ثانية الى الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وكتبت التحقيق التالي الذي نشرته الأسبوع الماضي "الغارديان" البريطانية وفي ما يأتي النص العربي للتحقيق وهو خاص ب"الحياة". ظننت قبل ثلاث سنوات أن الأوضاع سيئة. أما الآن فاختلف حتى المنظر الطبيعي: بَنَت إسرائيل في هذه السنوات الثلاث أكثر من 60 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية. في إمكانك أن ترصد تحول كل منها من حفنة من سيارات ال "كارافان"، إلى ال"بورتاكابين" ثم البيوت الصغيرة ذات الطابق الواحد، وأخيراً إلى المستوطنة الإسرائيلية المتبلورة: حصن اسمنتي مدجج يعتلي قمة جبل. لا تكاد توجد قرية فلسطينية واحدة تستكين في مكانها القديم في حضن جبل، من دون مستوطنة إسرائيلية تتوعدها من قمته. وفي كل مكان ترى عمليات البناء الضخم: طرق واسعة يقتصر استعمالها على الإسرائيليين تصل بين المستوطنات، أكوام عالية من الطوب والتراب وبوابات من الصلب الأصفر تغلق الطرق القديمة بين القرى والمدن الفلسطينية. وأناس ينتظرون. يحملون الأكياس، وحقائب رجال الأعمال، والأطفال، وينتظرون. على البوابات، على مفارق الطرق المسدودة، على الحواجز. ينتظرون لقضاء أبسط حاجاتهم اليومية. تعلن إسرائيل للعالم أن كل هذا يتم لاعتبارات أمنية. في أول صباح لنا هنا نتجه شمالا في الضفة لنرى أكبر عمل إنشائي تقوم به اسرائيل: الجدار الأمني. حاجز وحش من الصلب والأسمنت المسلح يفصل المزارع عن أرضه واللاجئ عن الدار التي حصل عليها بعد شقاء سنين. التكنولوجيا في صورة بسيطة بشعة تُقَطِّع أوصال كيان حي من الأرض والناس، تتشكل في جدار مارد يحجب شمس الغروب ونسيم البحر عن أهل قلقيلية، ثم تنبسط لتبتلع مساحات من مزارع القرى المجاورة. بنوا هذا الجزء من الحاجز لصق الحدود الغربية لبلدة جيوس. تراه، من نافذة المجلس المحلي، يأتي من اليسار، ينزلق من فوق الجبل ليمر ملتوياً على الأراضي ويختفي وراء المزارع في جهة اليمين: شريط عريض من الأراضي الفلسطينية تم الاستيلاء عليها. عرضه بين 50 و100 متر، تحده من الجانبين أسوار من السلك الشائك الملفوف. وتتشكل المنطقة العازلة داخل السلك الشائك من خندق عميق، يليه طريق اسفلتي لسيارات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، ثم سور إلكتروني صلب ذو كاميرات فوتوغرافية على مسافات متفاوتة، ثم طريق من الرمل المسوي، يشي بآثار الأقدام. وإلى جانب هذا الحاجز زرعت لافتات حمراء كتب عليها بالعربية والعبرية والانكليزية: "خطر الموت منطقة عسكرية. كل من يعبر أو يلمس الجدار يعرض نفسه للخطر." لا تستطيع قراءة اللافتات من هنا، من هذه النافذة، لكنك تراها "تزركش" أراضي "عمدة" هذه البلدة. منذ أربعين عاماً وحياة هذا الرجل في زراعة هذه الأراضي، والآن، من هذه النافذة، يرقب أرضه على الجانب الآخر من الحاجز: يرقب أشجار الزيتون تنتظر الحصاد، يرقب فاكهة الجوافة تتساقط من الشجر إلى الأرض. في كل من حاضناته الزجاجية الثلاث الضخمة يرقد 40 ألف كيلوغرام من الخيار الذي بدأ يتلف. من هذه البلدة ذات الثلاثة آلاف نسمة استولت الحكومة الإسرائيلية على 2300 فدان لبناء الحاجز. وفصل الحاجز بين البلد وبين 2150 فداناً أخرى من أراضيها وستة من أبيارها و12 ألف شجرة زيتون و120 حاضنة زجاجية ضخمة. وطرد الجيش الإسرائيلي 3500 رأس من الماشية من مراعيها. هنا تعتمد 300 أسرة اعتماداً تاماً على الأرض ومحصولها، ويرقبون اليوم هذا المحصول يتلف وهم لا يطولون جمعه. بوابات الحاجز الصلب الصفراء مغلقة، المزارعون في حال حركة فوّارة: البعض يحاول الاتصال هاتفيا بالقيادة وبالقرى المجاورة. البعض يذهب الى الحاكم العسكري الإسرائيلي ليطالب بفتح البوابات. بعد فترة يأتي الجنود فيجدون أنفسهم أمام جمهرة من الرجال والنساء والأطفال. يجمع الجنود هويات الأهالي ثم ينادون عليهم فرداً فرداً. اليوم قرروا عدم السماح لأي ذكر بين الثانية عشرة والثمانية والثلاثين الدخول إلى أرضه، كما لن يسمحوا لأي أنثى غير متزوجة أو أي أنثى دون سن الثامنة والعشرين بالمرور. تقف غالبية الأهالي أمام البوابة، يحول بينهم وبين المحصول الذي يعتمدون عليه وعلى مدخوله الحاجز وجنود إسرائيل. ينفصل بعض الرجال عن المجموعة، ينوون محاولة التسلل إلى أراضيهم، أما البقية فيعودون إلى المجلس المحلي. صباح اليوم، ظهرت في البلدة كمية من التصاريح، وهي ترقد الآن على مكتب "العمدة": نحو 600 تصريح، كل واحد منها عليه اسم أحد المزارعين، أصدرتها السلطات الإسرائيلية. نصف التصاريح تحمل أسماء خاطئة: بعضها لأطفال رضع، بعضها لرجال غادروا البلاد منذ سنين. وليست هذه هي النقطة الأساسية. المسألة أن الأهالي يعلمون انهم إذا استعملوا هذه التصاريح فسيعتبر انها قبلت بكل ما جاء بها: بأن السلطة الإسرائيلية تسمح للفرد بالدخول إلى الأرض في أوقات محددة لمدة ثلاثة شهور لكنها لا تعترف بأي حق له في هذه الأرض. يعلم الأهالي أنه عند انقضاء الأشهر الثلاثة ستبدأ السلطة الإسرائيلية في اللعب بهم، وأن تصاريح مثل هذه كانت إحدى الآليات التي استعملها الإسرائيليون للاستيلاء على أراضي آبائهم وأجدادهم إبان نكبة 1948. ماذا يفعل الناس اليوم؟ أيستعملون التصاريح ويحاولون إنقاذ المحصول ويتعاملون مع المشكلات المترتبة على ذلك في ما بعد، أم يقاطعونها؟ وإن قاطعوا فمن أين تأتي أسباب معيشتهم هذا العام؟ في اليوم التالي، عند حاجز أبو ديس في القدسالشرقية، سوفتعطينا سيدة إسرائيلية من ناشطي حقوق الإنسان نسخة من الأمر العسكري الذي صدرت بمقتضاه هذه التصاريح. تعطينا النسخة وهي تقول: "إنها قوانين نورمبرغ عادت إلينا من جديد". يطلق هذا الأمر لقب "سيم زون"، أي منطقة الوصل، على الأرض الواقعة بين الحاجز والخط الأخضر. ويقرر الأمر أنه لا يُسمح بالوجود في هذه المنطقة من دون تصريح إلا لحاملي الجنسية الإسرائيلية أو لأي شخص تحق له الجنسية الإسرائيلية بموجب قانون العودة الإسرائيلي، أي لأي شخص يهودي من أي مكان في العالم. على رغم أن هذه المنطقة هي موطن نحو 11550 فلسطينياً. "عمدة" البلدة يروح ويجيء لا يدري ماذا يفعل. يحاول الحصول على تعليمات من المحافظ أو من القيادة. يقول شاب ذو صوت هادئ أن أباه الذي يبلغ من العمر 65 عاماً يفكر بشراء المتفجرات. ويضيف "لا حياة لنا من دون الأرض على أي حال". المقاتلون وأصحاب العمليات الاستشهادية أتوا عادة من بؤس المخيمات. الآن سيأتون أيضاً من القرى والمناطق الزراعية. الإثنين: القدس يقول سائق التاكسي: "الإسرائيليون نبهاء. يبنون الحاجز الذي يتحدث العالم عنه. ما الحاجز إلا جداراً تم بناؤه وتمكن إزالته. القضايا الحقيقية تتعلق بالحدود، بالمستوطنات، بالقدس واللاجئين". الأربعاء: بيت لحم بقي حتى عيد الميلاد أقل من شهرين وشوارع بيت لحم مهجورة لم يأت إليها زائر ولا حاج. الحوانيت في شارع النجمة مغلقة. السوق التي تعمر بالخضر والفواكه من القرى المجاورة مهجورة. الأوامر العسكرية الإسرائيلية تمنع المزارعين من المجيء إلى بيت لحم وتمنع أهل المدينة من مغادرتها. في عام 2000 شيدت المدينة نصباً تذكارياً للسلام، قامت الدبابات الإسرائيلية هذا العام بتدميره. أما مركز السلام العالمي، الذي شيد على قطعة من الأرض كانت مركزاً للبوليس التركي، ثم البريطاني، ثم الأردني، فتمركز فيه الجيش الاسرائيلي عند حصاره لكنيسة المهد. "وضعوا آلة رافعة ونصبوا فوقها كابينة". رأيناها في التلفزيون. زودوها أنواراً وكاميرات وقناصاً آلياً وتسجيلات صوتية. كانوا يذيعون تسجيلات صوتية فظيعة: انفجارات، حيوانات تعوي، أناس تصرخ. يبثونها إلى الكنيسة ليل نهار". في الكنيسة اليوم يغفو قس عجوز على كرسي من خشب فيما يعمل اثنان من الرهبان الفرنسيسكان في صمت حول المحراب الأرمني. أرى شاباً، أحد المقاتلين الذين حوصروا في الكنيسة، يشرح جدارية تمثل شجرة الحياة لمجموعة من التلميذات، وثلاث شابات محجبات يتذاكرن في أحد الأركان،. تحاصر مستوطنات جيلو وحار جيلو وحار حوما المدينة. الأوامر العسكرية الإسرائيلية تضيّق عليها الخناق، لكن بيت لحم لا تستسلم. يستضيف "مركز السلام العالمي" معرضاً لصور ومجسمات تمثل ميلاد السيد المسيح اشتركت فيه مدارس من أنحاء العالم، فيما تعج "دار الندوة" بالنشاط. "دار الندوة" مركز ثقافي جديد، العاملون فيه من الشباب المليء بالحيوية والنشاط، يرأسه القس الدكتور متري الراهب وهو رجل هادئ يتحدث لغات عدة بطلاقة. الدار تضم مركزاً إعلامياً حديثاً، ومسرحاً وورشة للخزف والزجاج، ومحلاً لبيع منتجات المركز، وقاعة للعرض تعرض اليوم أعمالاً لفنانة نروجية. اليوم منعت السلطات الإسرائيلية الدكتور الراهب من السفر إلى واشنطن لحضور اجتماع كنسي. أغلق الإسرائيليون كل الطرق المؤدية إلى بيت لحم والخارجة منها. تصور أنك تقود سيارتك، كما اعتدت دائماً، فتفاجأ بتل من التراب أقيم في الليل يعترض طريقك. تواجهك عند هذا التل مجموعة من الجنود، يصرخون فيك بلغة غريبة، أو بلهجة عجيبة مكسرة من لغتك، يأمرونك بالنزول من سيارتك. لن يسمح لك بقيادة السيارة هنا بعد اليوم، وإن سمح لك بالمرور فعلى قدميك. يصرخون فيك لتنضبط في صف، يأمرونك بإظهار أوراقك ويتمهلون في تصفحها. يسألونك إلى أين أنت ذاهب، ولماذا؟ يطالبونك بإثبات أنك ذاهب لترى ابنتك/ طبيب أسنانك/ أعز أصدقائك، وعلى بعد أمتار ترى الطريق الحريري الجديد يمر عبر شارعك القديم، تجتازه السيارات المسرعة، يقودها أناس من ذلك الشعب الآخر، الشعب الذي ينتمي إليه هؤلاء الجنود. نقف عند أحد هذه الحواجز، ويبدأ إبني في تصوير الأهالي الذين ينتظرون السماح لهم بالمرور على الأقدام إلى البلدة المجاورة. يترك اثنان من الجنود الحاجز ويتجهان إلينا، يشرعان ال "إم 16" إلى مستوى رؤوسنا ويصرخون بالإنكليزية: لا تصوير! أعطنا الكاميرا! أنت! لا تصوير! - لا نرى لافتة تقول ممنوع التصوير. الكل يعلم. أعطني الكاميرا. أستطيع أن أطلق عليك النار. أنت تصورني. - صورنا الناس المنتظرين. "أنت تصورني. أستطيع أن أطلق عليك النار. - ما المشكلة؟ أتخجل مما تقوم به؟ أريد أن أرى الأمر العسكري الذي يمنع التصوير. هذا هو طوني، صديقنا الفلسطيني الذي اصطحبنا إلى هنا، وهو يعمل مع وكالة أنباء عالمية ويحمل جوازاً أميركياً. لا أحتاج أمراً. أستطيع أن أقتلك. هذا كل الأمر الذي أحتاجه. - أرني الأمر العسكري. هذه إسرائيل وأنا أفعل ما يحلو لي وأستطيع أن أقتلك، أنا هنا أفعل ما يحلو لي. - نحن لسنا في إسرائيل. نحن هنا في الضفة الغربية. الضفة؟ ما هذه الضفة؟ يستدير الجندي إلى زميله متسائلاً. يحاول ابني أن يدخل في الحديث فأدوس على قدمه لأمنعه. "أنظروا" يقول الجندي مشيراً إلى بيت لحم: "هناك في الداخل فلسطين. هناك تعملون ما يحلو لكم. هنا نحن في إسرائيل. في بلدكم هل يسمح لكم بتصوير الجنود السريين؟. تستمر المشادة ثم يقرر طوني أن يهاتف العلاقات العامة في الجيش الإسرائيلي. يخلع الجنود نظاراتهم السوداء ويتحولون إلى شبان تعساء: "أتظن أني أحب هذا العمل؟ أتظن أني أريد أن أقف هنا طوال اليوم مرتدياً هذا وهذا وهذا أفعل ذلك لأضمن الأمان لأمي في تل أبيب. نقترح عليهم أن المكان الأنسب للحراسة هو على الخط الأخضر. "الخط الأخضر؟ يستطيعون التسلل تحت الخط الأخضر. اسمعوا. نحن نعطيهم كل شيء. وهم دائما يطلبون المزيد. نعطيهم الأرض. نعطيهم الماء. نعطيهم الكهرباء. يريدون المزيد". - أنتم تسرقون أراضي هؤلاء الناس. تسرقون بلادهم. ألا ترون هذه المستوطنات؟ هذه أمور سياسية. نحن لا نعلم شيئاً عن المستوطنات. هذه أمور لأهل السياسة. وهنا يتركوننا ويعودون إلى الحاجز. لم نعطهم الكاميرا، لكن طوني سيضطر الى أخذ الفيلم الذي صورناه إلى إدارة الرقابة في الجيش الإسرائيلي خلال 48 ساعة. والد طوني يعمل في شارع النجمة، قرب كنيسة المهد. منذ أربع سنوات جمع طوني وأبوه مدخراتهما وبنيا بيتاً كبيراً للعائلة من خمسة طوابق: طابق لكل من الأبناء والبنات والأعلى للأب والأم. تزوج طوني من فلسطينية من أهل الشتات عادت من أوروبا لتعيش معه في بيت لحم. رزق بطفله الأول منذ أسبوعين، وأتصور أنه منشغل جدا بنوعية الحياة المتاحة لهذا الطفل هنا. على حوائط البيوت ظهرت صورة إدوارد سعيد مع صورة كريستين سعدة، الطفلة ذات السنوات العشر التي قتلها الرصاص الإسرائيلي وهي في سيارة أبوها في مارس الماضي، وعابد اسماعيل ذو الأحد عشر عاماً الذي قتله قناص اسرئيلي وهو يلعب خارج منزله في ميدان الكينسة. "أنظروا إلى كل هذا!" يشير طوني الى مركز المؤتمرات الفاخر الذي بني عام 2000 ودمره الإسرائيليون بعد أشهر. الفندق ذو الخمس نجوم الذي بناه الفلسطينيون إلى جوار "بركة سليمان" ودمره الإسرائيليون، ثم الجدار، ها هو يأتي، يتسلل ليحوط بغرب المدينة. السبت: بيرزيت منذ ثلاث سنوات كنت تقطع المسافة بين رام الله وجامعة بيرزيت في 20 دقيقة، والآن تكون محظوظاً إن قطعتها في ساعة. أغلق الجيش الإسرائيلي الطريق عند سُرْدَة، واليوم، وعلى رغم عدم وجود الجنود عند الحاجز، يضطر الركاب إلى النزول من السيارات الخاصة والأجرة والأوتوبيس وعبور الحاجز على الأقدام. يقولون ان من يحاول إزالة أي من هذا الركام يتعرض لرصاص الجيش الإسرائيلي، ويقولون ان الجيش يأتي من حين إلى حين ليضيف إلى الركام ويجدده. نتسلق التل الركامي ونمشي كيلومتراً على الأقدام لنصل إلى الحاجز التالي. قامت سوق إلى جانب الطريق: شوادر تبيع المأكولات والمشروبات وأدوات المنزل البسيطة. تستطيع أن تستأجر حصاناً أو حماراً، أو عربة يجرها بغل أو عربة يدفعها رجل. هناك أيضا شباب متطوعون بكراس ذات عجلات للمعاقين وكبار السن. نمضي في طريقنا وسط الزحام وأنا أتأمل الوضع وأرى كيف أن إحدى مهمات الاحتلال هي إعادة الناس إلى ظروف أكثر بدائية، وأقول لنفسي لا علينا، ليس الأمر بهذا السوء. ليس أمراً غير محتمل. ثم أسمع همهمة خفيضة تنتشر "إِجُم، إِجُم"، وتظهر المصفحة إلى جانبي. المصفحة عريضة، خفيضة، ذات نوافذ سوداء. تزعق بأوامر غير مفهومة عبر المكبر وهي تنطلق في تحركات مفاجئة مبتورة بين المشاة. يبتعد الناس عن طريقها في هدوء ومن دون أن يرفعوا بصرهم إليها. هذه هي، على وجه العموم، الطريقة التي يعامل بها الناس هنا الجيش الإسرائيلي: يتجاهلونه بقدر الإمكان. لكنني أشعر، شعوراً عضوياً، في عمودي الفقري، في معدتي، أن المصفحة إنما تتواجد بيننا لترينا من صاحب الأمر هنا. مجرد الوصول إلى قاعة الدراسة هنا ضرب من ضروب المقاومة، وفي جامعة بيرزيت تعج قاعة كمال ناصر بالطلاب. لا يريد أحد أن يتحدث عن الاحتلال. يريدون اليوم، ولمدة ثلاث ساعات، فقط، أن يتحدثوا عن الأدب والمسرح والموسيقى. في ما بعد، يقولون لي ان المصفحة بدأت اليوم بالوقوف مستعرضة أمام بوابة الجامعة فيما المكبر يطلق الشتائم والإهانات. "إنه الاستفزاز. يستفزون الطلاب على أمل أن يقذفهم أحدهم بحجر فيبدأون في إطلاق النار". يقول لي أحد الطلبة أنه منذ أيام كان ضمن نحو 200 شاب استوقفهم الجيش الإسرائيلي عند الحاجز. وبعد فترة، عندما احتدَّت احتجاجات الطلاب على تعطيلهم عن الدراسة، خطرت لأحد الجنود الإسرائيليين فكرة نابهة: يسمح لكل طالب يضع الجِل على شعره أن يمر من الحاجز. قال لهم الجندي: "اليوم، سيشترى لكم الجِل العلم لعدد من الساعات". الأحد: القدس تدرّس دافنا جولان مادة حقوق الإنسان في الجامعة العبرية، فتأخذ الطلبة والطالبات إلى "الحقل"، الى الضفة الغربية، لدرس هذه الحقوق على أرض الواقع. اليوم ذهبوا إلى منطقة جنوب الخليل ليدرسوا الحق في التعليم. في هذه المنطقة اعتاد المستوطنون ترويع الأطفال في طريقهم إلى المدارس ومنها. يستغرق الطريق إلى المدرسة نحو ثلث ساعة، لكن الأطفال يضطرون لأخذ طريق أطول للالتفاف على المستوطنين فيستغرق المشوار أكثر من ساعتين. أسألها كم عمر هؤلاء الأطفال؟ فتجيب بأنهم بين السابعة والثامنة: "اليوم ذهبوا من الطريق القصير لأننا كنا معهم ولم يستطع المستوطنون أذيتهم. لكننا رأينا أن الأطفال كانوا في حال خوف شديد". أسألها كيف يروّع المستوطنون الأطفال؟ تقول: "يضربونهم. وهم مسلحون. انه أمر غريب، أتعلمين ان هؤلاء المستوطنين ليسوا كما تتخيلينهم: إنهم شباب يطيلون شعرهم ويرتدون الملابس الزاهية ويزرعون حدائق خضروات وفواكه خالية من الكيماويات. يحملون الآلات الموسيقية والبنادق ويتسمون بالشراسة التامة". كم قصة يمكنني روايتها وكم قصة يمكنكم قراءتها؟ في النهاية تشير القصص كلها في اتجاه واحد، فكل الفلسطينيين الذين التقيت بهم يقولون شيئاً واحداً: اسرائيل تريد الأرض وبأقل عدد ممكن من العرب. ويتفق معهم الكثير من الناشطين الإسرائيليين. هذه هي الهجمة الكبرى، المشهد الثاني من أحداث 1948. السياسة الإسرائيلية هي في جعل الحياة جحيماً لا يطاق حتى يضطر كل فلسطيني له خيار آخر الى مغادرة البلاد. أما الباقون، الذين ليس لديهم خيار آخر، فسيبقون كمجموعات سجينة، فصلت عن أرضها، وعن مجتمعاتها، محصورة وراء حواجز وجدران وبوابات. هذه هي القوة العاملة التي تأمل إسرائيل في استعمالها في المناطق الصناعية التي بدأت في تشييدها قرب الحاجز. يصف الفلسطينيون ما يحدث اليوم بالتطهير العرقي. ويقولون في الوقت نفسه أنهم تعلموا من أحداث 1948، وأنهم لن يغادروا البلاد. الدكتور نظمي الجعبة يقوم بعمل متفائل هو صيانة المباني الأثرية العربية في فلسطين وترميمها. يقول لي مبتسماً: "نحن الفلسطينيين أمامنا خيارات عدة. يمكننا أن نحيا في دولة واحدة لشعبين، أو نحيا في دولة فلسطينية، أو نحيا تحت الاحتلال، لكننا سنحيا في كل الأحوال وسنحيا في شكل جماعي، وسنحيا كأمة فلسطينية". الخميس: جيوس تسلم المزارعون التصاريح. في النهاية لم يتحملوا رؤية محصولهم يموت من دون حصاد. ثم بدأت الألاعيب. عبد اللطيف خالد، المهندس المسؤول عن مركز الإغاثة في جيوس، يقول انه عاد للتو من زيارة أربعة أخوة في البلد يملكون 150 رأساً من الخراف. يقول أنهم يلاقون عناءً شديداً في إيجاد الغذاء لمواشيهم. منذ أول تشرين الثاني نوفمبر وهم، مثل بقية المزراعين، يقسمون غذاء يوم واحد على خمسة أيام، فيحاولون تبطيء موت خرافهم من الجوع. أجهضت بعض إناث الخراف ومات أكثر من حمل رضيع. يسوق المزارعون مواشيهم إلى بوابات الصلب ومعهم التصاريح. ويسمح لهم الجنود الإسرائيليون بالمرور إلى المراعي لكنهم يمنعون المواشي. يتذرع الجنود أن المواشي ليست لديها تصاريح! يقول المهندس عبد اللطيف خالد أن كل مواشي البلد مصيرها إلى الفناء في هذه المجاعة، مجاعة ومراعيهم موجودة أمام أعينهم على الجانب الآخر من السور. يتساءل: "ألا يمكن لأحد أن يتدخل؟ نرى العالم، حين تصاب الطيور بكارثة تسرب نفطي في البحر، مثلاً، يهرع لإنقاذها. ربما تكون مساعدة الشعب الفلسطيني مسألة معقدة، لكن ما وجه التعقيد في مساعدة المواشي؟ ألن يساعد العالم هذه الحيوانات المسكينة؟".