وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    قطار الرياض.. صياغة الإنسان وإعادة إنتاج المكان    رئيس هيئة الغذاء يشارك في أعمال الدورة 47 لهيئة الدستور الغذائي (CODEX) في جنيف    سعود بن مشعل يشهد حفل «المساحة الجيولوجية» بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها    رئيسة "وايبا": رؤية المملكة نموذج لتحقيق التنمية    تطوير الموظفين.. دور من ؟    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    20 مليار ريال مشروعات وعقود استثمارية أُبرمت لخدمة الشرقية    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    إمدادات الغذاء لغزة لا تلبي 6% من حاجة السكان    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    «أونروا»: مليونا نازح في غزة تحت حصار كامل    الملك وولي العهد يعزيان أمير الكويت    ولي العهد يتلقى رسالة من رئيس جنوب أفريقيا.. ويرعى المؤتمر العالمي للاستثمار    ضمن الجولة 11 من دوري«يلو».. نيوم يستقبل الباطن.. والجندل في اختبار العدالة    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الهلال ضيفاً على السد القطري    « هلال بين خليج وسد»    الهلال يتوعد السد في قمة الزعماء    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    311 طالباً وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة «موهوب 2»    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    أمير تبوك يستقبل القنصل الكوري    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    بدء التسجيل لحجز متنزه بري في الشرقية    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    جازان: انطلاق المخيم الصحي الشتوي التوعوي    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    القيادة تهنئ السيد ياماندو أورسي بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية في الأوروغواي    الاحتفاء بجائزة بن عياف    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    7 أجانب ضمن قائمة الهلال لمواجهة السد    بنان يوسع مشاركات الحرفيين المحليين والدوليين    الرخصة المهنية ومعلم خمسيني بين الاجلال والإقلال    الباحة تسجّل أعلى كمية أمطار ب 82.2 ملم    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    تعليم جازان يحتفي باليوم العالمي للطفل تحت شعار "مستقبل تعليمي أفضل لكل طفل"    وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اكتشاف ابن "صاحب الأيام" في أول حوار معه في الثمانين ... عمر أبيه . مؤنس ... الابن "المنسي" لطه حسين : الفرنسية لغتي الأم واخترتها بعدما شعرت انني لن أتقن لغة والدي
نشر في الحياة يوم 01 - 12 - 2003

حاولتُ طوال الأيّام التي سبقت لقائي بمؤنس طه حسين أن أرسم له صورة في مخيّلتي، بل أن أعرف بالتحديد العمر الذي بلغه. حتّى أنّني أخذتُ قلماً وورقة وبدأتُ أحسب السنوات الفاصلة بين مجيئه من القاهرة عندما كان مراهقاً واليوم، وكانت والدته سوزان اضطرّت على الخروج به وبأخته من مصر بعد سنوات من المضايقات التي تعرّض لها والده طه حسين، وكانت كما هو معروف، مضايقات مادية ومعنويّة على السواء بسبب مواقفه الفكرية الرائدة، وبعد إصداره كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أثار جدلاً واسعاً. هذا إضافة إلى أنّ ثورته على المناهج التربوية التقليدية السائدة أثارت الكثير من حفيظة الشخصيات الدينية والسياسية والإعلامية فراحوا يحيكون ضده المؤامرات لإجهاض حماسته وإسقاط مشروعه التربوي الجديد.
وعلى رغم من معرفتي بأنّ ابن طه حسين هو في سنّ متقدّمة لكنّني لم أكن أتصوّره أبداً هرِماً إلى هذا الحدّ وقد تجاوز الثمانين من العمر، وأنّ موجة الحرّ التي اجتاحت باريس في الصيف الفائت كادت أن تودي بحياته. هذا ما طالعني أوّل ما فتح أمامي باب منزله في الدائرة السادسة عشرة في العاصمة الفرنسيّة. كان جالساً أمامي مترهّلاً متعباً، تملأ الجدران من حوله الكتُب واللوحات الفنية وبعضها من توقيع الرسامين المصريين حسن سليمان وشحاتة، وإلى جانبه على الطاولات الصغيرة تبعثرت الصور العائليّة داخل براويزها المتنوّعة الأشكال والموادّ وتطالعنا فيها صور له ولأفراد عائلته. ورحت أبحث بينها عن حضور والده فوجدته في صورة شمسيّة معروفة له.
عندما نطق مؤنس حسين بالكلمات الأولى، أدركتُ على الفور أنّ الحوار معه لن يكون بالمسألة السهلة على الإطلاق. أكثر من ذلك، أحسستُ أنّ موعد لقائي مع هذا الرجُل تأخّر، وكان ينبغي أن يحصل قبل سنوات، خصوصاً أنّه لا يمثّل فقط الإبن والشاهد الحيّ الوحيد على تجربة طه حسين العائليّة الحميمة، بل هو أيضاً إنسان مثقّف ومتعلِّم درس مثل والده في جامعة "السوربون"، وقلّة تعرف أنّه كاتب وله أربعة كتب من بينها مجموعتان شعريتان، كما أنّه ترجم كتاب والده وعنوانه "أديب" بالاشتراك مع ابنته أمينة التي تعمل حالياً محافِظة في متحف "غيميه" في باريس.
منذ البداية، سألته عمّا إذا كان يعرف العربيّة فأجاب قائلاً إنّه وإن كان يعرف العربيّة فهو يفضل الفرنسيّة لأنها لغته الأولى بحكم أن والدته سوزان فرنسيّة. وعندما سألته بأيّ لغة كان يتحاور مع والده، قال: "بالفرنسيّة أيضاً لأنّها لغتي الأمّ، ولئلا تشعر والدتي بالبُعد". وقبل أن يدور الحديث حول حياته وذكرياته، وحول علاقته بوالده طه حسين، التفت إليّ وقال إنّه كثير التشاؤم في المرحلة الراهنة و"إنّ العالم يمضي من سيّئ إلى أسوأ". وأضاف: "أرأيتِ ماذا حدث أخيراً في الجزائر". بدا قلقاً وهو يتحدّث عن هذه المسألة، وبعد دقائق من بدء الحوار، ارتجف صوته وتشوّشت ألفاظه وراحت كلماته تتعثّر. امتزج قلقه بتعبه فما عاد في إمكانه متابعة الحوار بسهولة، فاقترحتُ عليه عندئذ أن أعود إليه في وقت آخر يكون أكثر ارتياحاً فيه، أو إذا شاء أن يجيبني عن طريق الكتابة وأنا في جانبه، واختار هو نفسه الحلّ الثاني، وهكذا كان.
درستَ في جامعة "السوربون" في باريس حيث درس والدك طه حسين قبلكَ بثلاثين سنة، وتخرّجتَ مثله في الأدب، هل تشعر أنك كنت تقتفي أثره في الجامعة وفي اهتماماته الأدبية؟
- طبعاً، درستُ الأدب بتأثير وتشجيع من والدي، وحصلتُ على شهادة الأستاذيّةAgrژgation فكنتُ أول أجنبي في فرنسا يحصل، عام 1949، على هذه الشهادة، وقد سُرّ والدي بذلك سروراً كبيراً. ثمّ قمت بتحضير شهادة الدكتوراه عام 1961، وتابعتُ تحصيلي العلمي في "معهد الدراسات العليا" في باريس في الفترة ما بين 1945 و1950 وعدتُ بعدها مباشرة إلى مصر حيث عينت أستاذاً محاضراً في قسم الأدب واللغة الفرنسية في جامعة القاهرة حيث مكثتُ عشر سنوات متتالية.
لم تكتف بأن تدرس في جامعة "السوربون" وفي تحصيلك دكتوراه في الأدب، لكنك ذهبتَ أبعد من ذلك وانخرطت في عالم الكتابة، وكان كتابك الأول بعنوان "الظهر الصحيح"، والكتاب الثاني عنوانه "خيالات رومانسيّة"، ما الذي دفعك نحو الكتابة وما هو هاجس هذين الكتابين؟
- تعود علاقتي بالكتابة إلى مرحلة المراهقة، وكنتُ يومذاك في القاهرة، وبدأت أكتب الشعر فنشرتُ أول مجموعة شعرية بعنوان "شاحباً كان الظلّ"، ولم أكن أتجاوز آنذاك الرابعة عشرة. بعد هذه المجموعة الشعريّة الأولى صدرت لي مجموعة ثانية بعنوان "الصباح الصافي" وكنتُ لا أزال في السابعة عشرة من العمر، وكتاباتي كلّها كانت باللغة الفرنسيّة. وقمتُ في وقت لاحق بإنجاز الكتابين اللذين أتيتِ على ذكرهما، وذلك بعد إتمامي دراستي الجامعية. في كتاب" خيالات رومانسية" تناولتُ نتاجات بعض الكتّاب الرومانسيين في الأدب الفرنسي.
منذ البداية اخترت الكتابة باللغة الفرنسية، لماذا؟ لماذا لم تسعَ أيضاً إلى التعمّق في اللغة العربية والاعتماد عليها كلغة للكتابة؟
- المهمّ أنني وعيت بأنني لن أتساوى وأبي في إتقان اللغة العربية فقرّرتُ الكتابة بالفرنسية، وكذلك لأنني لم أشعر بهذه اللغة، أي أنّني لم أكن قريباً منها كما ينبغي، ولأنني ترعرعت عبر لغة أمي فكنّا كما ذكرتُ نتحدّث باللغة الفرنسية في البيت بحكم أنّ والدتي لا تتقن العربية، وكان والدي هو أيضا يتحدّث بالفرنسية.
في عام 1988 صدرت الترجمة الفرنسيّة لكتاب "أديب" أو المغامرة الغربية لطه حسين وتحمل الترجمة توقيعك وتوقيع أبنتك أمينة، ما الذي دفعك إلى ترجمة هذا الكتاب أنت بنفسك ولماذا اخترت ترجمته؟
- لأنّني أردت تعريف الجمهور الفرنسي، بل وقرّاء اللغة الفرنسيّة في شكل عامّ، بأحد أعمال طه حسين. والترجمة كما ذكرتِ هي نتاج تعاون بيني وبين ابتني، وكانت في الوقت ذاته تجربة صعبة لأنّها تتوخّى ترجمة أحد الأعمال الأدبيّة التي تركها والدي والتي تعكس موقفه من بعض المسائل المهمة التي لا تزال مطروحة بيننا حتّى الآن.
عن هذا الكتاب يقول طه حسين "إنه أفضل كتبي"، هل تشاطره الرأي؟
- من دون شكّ، انأ أؤيّده في هذا الرأي.
من المعروف أنّ والدك جمع في شخصيته بين الشرق والغرب، بل كان بمثابة جسر بين الضفّتين، وهذا لم يتجسّد نظرياً في أفكاره وآرائه فقط، وإنما أيضاً على مستوى الحياة اليومية، وهذا ما تدلّ عليه أمور عدّة منها زواجه من امرأة فرنسيّة، وولعه بالموسيقى الكلاسيكيّة إلى جانب اهتمامه بالموسيقى العربيّة، ومن المعروف أنّه كان يستيقظ على سماع الآيات القرآنية وينام على إيقاع الألحان الكلاسيكية والأوبرا. هل لا تزال تتذكر هذا الجانب في شخصيته؟ ما الذي كان يستمع إليه تحديداً؟ ما كان أحبّ الموسيقى إلى قلبه؟
- كنّا جميعنا في المنزل نهوى الاستماع إلى الموسيقى، أقصد نحن الأربعة أبي وأمي سوزان وأختي أمينة وأنا. كان يطيب لنا الإنصات إلى عدد كبير من الموسيقيين الكلاسيكيين من بينهم باخ وبيتهوفن وبرامس وموزار ورافيل وغيرهم من الموسيقيين الكبار. أمّا بالنسبة إلى أبي فكان على علاقة خاصّة بالموسيقى حتّى أنّه كان يبكي لدى سماعه مقطوعة "الآلام بحسب القديس متّى" لباخ. وأنا لا أزال حتّى الآن أستمع الى تلك الموسيقى التي كنّا نستمع إليها معاً داخل المنزل العائلي، وهي ترافقني باستمرار.
كان طه حسين يحبّ دائماً أن يؤكّد على ضرورة إشاحة النظر قليلا عن رمال الصحراء من أجل الالتفات نحو أمواج المتوسّط، وهي في رأيه تحمل في ذاتها الكثير ممّا ينبغي أن نتعلّمه. إلى هذا الحدّ كان مؤمناً بالثورة العلمية التي انطلقت في الغرب وكان هذا الغرب مسرحاً لها؟
- نعم كان شديد الإيمان بالثورة العلميّة وبالفكر النقدي، وكان يفكّر دائماً في الطرق والوسائل التي تساعد على نقل تلك الثورة وذلك الفكر إلى عالمنا العربي. غير أنّني اليوم أجد نفسي متشائماً، بل وأشعر بيأس كبير وسط تنامي المدّ الأصولي والتشدد والعنف في بلداننا العربية، وهذا ما سيحول - ولفترة طويلة - دون تحقيق التقدم والارتقاء الروحي الذي كان ينشده والدي في المجتمع العربي.
لكن تعلّق طه حسين بالغرب الثقافي لم يحجب عنه أبداً جذور موروثه الثقافي العربي والإسلامي، ألا تظن أنه هو من أوائل الذين فكّروا في طرح أسس الحوار بين الشرق والغرب؟
- هذا الحوار المنشود كان بالفعل من هواجسه الأساسيّة، وعمل الكثير من اجله. لكنّنا اليوم نجد أنفسنا في مرحلة تتناقض مع تطلّعاته، ويبدو كأنّنا نسير في اتجاه طريق مسدود. فعندما أسمع أن الوضع يسوء في الجزائر وانّ الأصولية في تزايد مستمرّ، أتساءل إلى أين يمكن أن يقودنا ذلك كلّه، وأقول إن مثل هذه الظواهر مضادّ للإسلام كما كان يتصوّره أبي.
من أكثر الكتاب الفرنسيين الذين كانوا يستأثرون باهتمام طه حسين، وهل تحدث أمامك عنهم أو عن بعضهم؟
- أمام ثقافته الشاملة والموسوعيّة يصبح من الصعب التوقّف عند أسماء محدّدة بعينها. ذلك أنّ الكتّاب الذين كان يقرأ لهم ويلفتون انتباهه كثيرون.
حتى بعدما عاد والدك إلى مصر ظلّ يستقبل الكتّاب والمثقفين الفرنسيين والأجانب الذين كانوا يقصدون القاهرة، وظلّ على علاقة صداقة مع بعضهم، هل لا تزال تتذكّر بعض هؤلاء؟
- كثيرون هم الذين كانوا يقصدونه في القاهرة، أذكر منهم على سبيل المثال أندريه جيد وجان كوكتو وجورج دوهاميل ولوي ماسينيون والفنان التشكيلي أندريه لوت.
هنا في باريس، خلال إقامتك الطويلة، هل عدت والتقيت بأحد أصدقاء والدك؟
- صادقتُ أندريه جيد وكنتُ أزوره في بيته، كما كنّا نلتقي من حين إلى آخر في فندق "لوتيسيا" في قلب باريس، وكان يكنّ لي مودّة كبيرة.
الآن، بعد مرور كل هذه السنوات، ماذا بقي في نفسك من طه حسين، الإنسان والأديب؟
- أتذكّر حنانه الرائع. كان أباً رائعاً.
لو قدّر لك، أنت الكاتب أيضاً، أن تكتب أيامك على غرار "أيام" طه حسين، ماذا كنت تكتب، وهل تشعر أن "الأيام" التي ستكتبها هي امتداد للأيام التي كتبها والدك؟
- كتبتُ مذكّراتي بالفعل وانتهيتُ من كتابتها منذ ثلاث سنوات وهي امتداد لسيرة والدي. تتضمّن أربعة أقسام: القسم الأوّل يغطّي الفترة الممتدّة من 1921 إلى 1939 وسمّيتها "الفجر" وهي تتزامن مع مرحلة الحرب العالمية الثانية. القسم الثاني خاصّ بالفترة الممتدة من 1939 إلى 1962 وهي بعنوان "الصباح" وهنا اذكر أن تاريخ عودتي إلى فرنسا كان عام 1962. القسم الثالث وعنوانه "الظهيرة" ويمتد من 1962 إلى 1984، تاريخ وفاة زوجتي. أما القسم الرابع والأخير فيمتدّ من 1984 إلى 2000 وهو بعنوان "المساء ويظلّ الليل: لا أحد في مقدرته الالتقاء به أبداً"...
متى ستصدر هذه المذكرات في كتاب؟
- لست أدري. وبعد لحظات من الصمت يضيف: كلّ ما أعرفه أنّها لا تهمّ أحداً اليوم...
عاش طه حسين مرحلة صعبة بعد فصله من الجامعة ومنع كتابه "الشعر الجاهلي"، واضطرّت والدتك على أن تعود بك وبأختك إلى فرنسا، ماذا تتذكّر عن ذاك الزمن؟
- لم نترك مصر في تلك المرحلة على رغم الصعوبات التي حلت بنا وكان عمري وقتها ثماني سنوات وعمر أختي احدى عشرة سنة. كنا نقطن في هيليوبوليس في القاهرة، وكان هناك بواب يحرس البيت دوماً، وفاجأته التظاهرات التي سارت ضدّ أبي وضدّ كتابه "في الشعر الجاهلي". وما تعرّض له والدي سبق قضية سلمان رشدي بعشرات السنين. في تلك الفترة كنا نأتي إلى فرنسا مرة في السنة، وذلك في فترة العطلة الصيفيّة، لكن بعدها تعقّدت الأمور وعرفت الأسرة خمس سنوات صعبة بسبب الديون 1929-1934 وانقطاع والدي عن التدريس والنشر، وانقطعنا عن المجيء إلى فرنسا بسبب عدم توافّر الأموال اللازمة.
كان في إمكان والدك العودة إلى فرنسا مثلاً أو الذهاب إلى بلد آخر، لماذا لم يفعل ذلك؟
- كان يرفض رفضاً قاطعاً الخروج من مصر والابتعاد عنها على رغم الدعوات الكثيرة التي كانت توجّهها له الجامعات الأجنبية. وحدها الجامعة الأميركية تجرأت آنذاك ودعته لإلقاء عدد من المحاضرات، كما سانده عدد من المستشرقين من أمثال لويس ماسينيون.
هل تشعر أن والدك، بقامته الثقافية العالية، شكّل عبئاً بالنسبة إليك، أم أنّه على العكس من ذلك فتح أمامك أبواباً جديدة؟
- بلى، فتح لي أكثر من باب بل أبواباً لم تكن على البال، وفضله عليّ كبير.
لم يخفِ والدك في كتابه "الأيّام" الإشارة إلى عماه، هل كان يثير هذا الموضوع أمامكم في البيت؟
لم يكن يشير ولو مجرّد الإشارة إلى هذه المرحلة بحكم خَفَره وحيائه الكبيرَين.
كم مضى لك من الوقت في باريس؟
- أكثر من أربعين سنة، إقامة وعملاً.
لماذا اخترت الإقامة في هذه المدينة بالذات؟
- لأنني كنتُ عملتُ سنوات طويلة في منظمة اليونسكو وفي قسم الثقافة تحديداً، كما كلفت بمشروع حوار شرق - غرب ومشروع الترجمة الأدبية والمعارض المتعلقة بالموضوع ذاته. أيضاً بإدراج فهرس الترجمة في المنظمة وغيرها من المهمات الثقافية. وألقيتُ عدداً من المحاضرات في جامعة "السوربون" حول الفرنكوفونية.
متى كانت آخر مرّة زرتَ فيها مصر؟
- لم أزر مصر منذ عام 1990، أي سنة واحدة بعد وفاة والدتي.
ما هو الكتاب الأخير الذي تنكبّ على قراءته الآن؟
- كتاب جورج سيرو "الاسكندريّون" وهو كتاب حول مدينة الإسكندرية في سنوات الخمسينات.
ما أكثر ما تزال تحفظه عن والدك في حياتك؟ بمعنى أي ذكرى عنه ترافقك باستمرار؟
صمت... وتصبب عرقه....
في كتاب "الأيام "الذي ينطلق من سيرة والدك الذاتية، هل هناك من صفحات أو فقرات تجد نفسك فيها؟
صمت...
عندئذ طلبتُ منه أن يطلعني على ألبوم العائلة وعلى صوَر تمثّله هو ووالده ووالدته وأخته، في القاهرة وفي باريس، غير تلك الموجودة في القاعة التي جمعتنا. قال لي بصوت خفيض واهِن إنّه لا يستطيع النهوض من مكانه. وبعد صمت ليس بطويل أخرج من جيب سترته الداخليّة مجموعة من الصور الصغيرة ناولني إياها قائلاً: "هذه صور لزوجتي، حفيدة الشاعر العربي أحمد شوقي، وهذه صور لأمي سوزان، وأختي آمنة...". وبدت هذه الصور القديمة المأخوذة بالأسود والأبيض شاحبة وقد ضاعت ملامح بعض الوجوه التي تمثّلها لفرط الوقت ولفرط ما نظر إليها. لفتتني خصوصاً صورة زوجته التي لم يبقَ منها إلاّ العينان. وبينما كنتُ أنظر إليها، بادرني بالقول بصوت مُتعب: "ألا ترين أنّها كانت جميلة؟".
فجأة أحسستُ أنّ اللقاء ينبغي أن ينتهي عند هذا الحدّ، مع أنّ الأسئلة لم تنتهِ بعد... كان بي شوق لمعرفة المزيد عن هذا الرجل الذي أمضى حياته في الظلّ، ومن خلاله معرفة المزيد عن والده الذي مهما قيل عنه يظلّ بنا شوق لمعرفة المزيد أيضاً. لكنّني بقدر ما كنتُ متشوّقة للاستماع إلى أخباره كنتُ أخشى أن يتعبه استمرار اللقاء، وهو متعَب أصلاً. حتّى أنّني تساءلتُ وهو أمامي في هذه الحال، لماذا قَبِل ورضي بإجراء هذا الحوار معي.
عندما هممتُ بالذهاب، اعتذر منّي أيضاً لعدم تمكّنه من تقديم شيء لي. وَعَدتُه بأنّنا سنلتقي، هو وأنا، قريباً حول فنجان قهوة. قال لي بالعربيّة هذه المرّة: "إن شاء الله".
خارج المبنى الذي يقيم فيه مؤنس طه حسين تتناثر أوراق الخريف وتملأ الأرصفة. كنتُ أدوسها وأصداء إحدى عباراته تتردّد في أذني: "كلّ ما أعرفه أنّ مذكّراتي لا تهمّ أحداً اليوم"... غير أنّ سيرة مؤنس طه حسين هي، في جزء منها، سيرة والده طه حسين، وهي، كما سبق أن ذكر أمامي، إمتداد لما جاء في "الأيّام"، وتعبير عن تقدير ووفاء كبيرَين لرائد من روّاد الثقافة العربيّة الحديثة، كأنّها وصيّته للأجيال المقبلة، ليس فقط في العالم العربي بل في العالم أجمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.