لا أنكر، ولا يستطيع مثقف من ابناء جيلي أن ينكر، فضل عبد الرحمن بدوي على تكويننا الذهني في صبانا، فالكثير من الكتب التي ألّفها او ترجمها، والتي تجاوز عددها المئة والعشرين، دخل نسيج هذا التكوين. ألممنا منها للمرة الاولى بفلسفات نيتشه، وشوبنهاور، وشيلينغ، وكانط، وشبنغلر، وارسطو، وافلاطون، ودفعتنا دفعاً الى المزيد من الاطلاع على هذه الفلسفات، وكانت قراءتنا الاولى لأسفار تشايلد هارولد لبايرون، و"الأنساب المختارة" لغوته، و"اندبن" لفوكيه، ومسرحيات لوركا، في ترجمة بدوي العربية لها، كذلك فإن ما من احد منا في وسعه ان ينكر أن الرجل خدم الثقافة العربية كما لم يخدمها غير القليلين من ائمة التنوير في وطننا. كل هذا لا يحول بيننا وبين ان نسأل: ما محصلة او جدوى كل ما افاده الرجل من ذلك العلم الواسع العريض؟ هل جعله رجلاً افضل؟ هل اعانه على أن يكون انساناً أسعد؟ هل زاد من رهافة حسه ومشاعره؟ هل عززت الفلسفة من قراره وثباته امام تقلبات الدهر؟ هل جعلته اكثر تقبلاً للحياة وتفهماً لنقائص البشر حوله؟ فإن كان طه حسين وصف بدوي عام 1944 بأنه أول فيلسوف مصري، فإن خلاصة الرأي الذي نخرج به بعد استعراض حياة الرجل هي: ان كانت ثمرة تكريس الحياة الطويلة لدراسة الفلسفة، والتعبد في محرابها، والعزوف عن الزواج وعن معاشرة الناس وتعهد الصداقات من أجل التفرغ الكامل لها، هي الوصول الى مثل هذه الحال الكئيبة البائسة التي تبدو عليها شخصيته، فبُعداً للفلسفة اي بعد، ولعنة الله على من أولاها اهتماماً، أو نظر بعد اليوم في كتاب فيها! قابلته مرات عدة في حديقة دار الشيخ مصطفى عبد الرازق، وهو الذي شمل بدوي بعطفه ورعايته منذ التقاه طالباً بكلية الاداب، وساعده على نيل مجانية التعليم فيها، واذ كان بدوي يمقت والدي أشد المقت لرفضه، وهو عميد الكلية، السماح له بتجاوز شروط اللائحة الخاصة بتسجيل رسائل الماجستير، ولأنه، وهو صاحب امتياز مجلة "الثقافة"، كان يجيز نشر مقالات تعدد الاخطاء التي انزلق اليها بدوي في بعض مؤلفاته، ولأنه - أي والدي - سمح لنفسه مرة ان يغير عنوان قصيدة ترجمها بدوي للمجلة عن الانكليزية، فجعله "صلاة جنين" بدلاً من "صلاة من لم يولد بعد"، أقول إن مقته لوالدي انعكس على موقفه مني، وان خفف من ذلك ما رآه واضحاً في مسلكي تجاهه من توقير وإجلال. قضاء الساعات الطوال في حضرة بدوي او في قراءة سيرته الذاتية ذات المجلدين نشرتها المؤسسة العربية للدراسات في 765 صفحة من القطع الكبير يعني قضاء الدهر في السباحة في لجة الحقد والضغينة والكراهية والمرارة والشكوى. فالاسكندر الاكبر "طاغية مخرب" - والشيخ محمد عبده "مصلح ديني مزعوم، متواطئ مع الاستعمار البريطاني"، وشيوخ الازهر عموماً "هم بطبعهم طماعون حاقدون يأكل الحسد قلوبهم، وفي سبيل نيل اي منصب ذي شأن لا يتورعون عن استخدام أخس الوسائل، من وقيعة ودس ووشاية"، وسعد زغلول "تاريخه شائن ينضح بالخيانة والوصولية وممالأة الانكليز المحتلين"، ومصطفى النحاس "ابله معتوه، يرتكب المحسوبيات الصارخة والمظالم البشعة"، وجمال عبد الناصر "كان لا يقدم الا على ما يكفل له الشهرة حتى لو جر على مصر الخراب"، وثورة تموز يوليو "أكبر كارثة عانتها مصر منذ الفتح العثماني لها"، والدكتور محمود فوزي "رجل معتوه جهول لا يدري في السياسة شيئاً، عيَّنه غبي لا يستطيع ان ينطق بحجة، فضلاً عن صوته الذي كان يموء به مواء القط المخنوق"، ومحمد حسين هيكل باشا "رجل مفكك الشخصية والارادة"، والسعديون "وصوليون لا يستندون الى أي مبادئ وطنية، بل يجمعهم الطمع في الحكم وما يجره عليهم من منافع"، والشيوعيون المصريون "استولوا عام 1964 على كل أدوات الاعلام، وراحوا يتوزعون في ما بينهم رئاسة تحرير الصحف والهيئة العامة للكتاب، وادارة المسارح وقطاع السينما والاذاعة، بل وزعوا مكافآت للتأليف والترجمة على أنفسهم عن كتب لم يشرعوا فيها ولن يشرعوا ابداً"، واحمد حسين "طائش أحمق، عنيد، مستبد الرأي، ضيق التفكير، مندفع، انفعالي جر على حزب مصر الفتاة الدمار". فماذا عن الكُتاب وأساتذة الجامعات؟ طه حسين "كان يبلّغ رجال البوليس عن زعماء الطلبة المعارضين للحكومة في كلية الآداب، مستعيناً في ذلك ببعض الجواسيس المتزلفين اليه من الطلاب"، وعباس العقاد "سليط اللسان، كان طوال حياته مأجوراً لحزب من الاحزاب، للوفد حتى عام 1935، ولخصوم الوفد حتى 1938، وللسعديين حتى 1950، ومأجوراً لبريطانيا طوال مدة الحرب على الاقل"، واحمد امين "حقود صفيق ضيق الافق، تأكل الغيرة قلبه من كل متفوق، لم يصل الى منصبه بالعلم، بل بالصلات مع من في الحكم"، وعبد الوهاب عزام "دجال ديني وسياسي، ابعد ما يكون عن البحث العلمي"، وأحمد بهاء الدين "شيوعي قح يتلون بألوان مختلفة بحسب الظروف"، وعبد الرحمن الشرقاوي "متعدد الاطوار، يدور من اليمين الى اليسار، ويجمع بين عمامة الإسلام وكاسكيت الشيوعيين"، وأحمد صدقي الدجاني "مأجور متزلف، مرتزق وصولي"، ومحمد الطالبي "احمق جاهل"، وقسطنطين زريق "هذا المسيحي المتاجر بالعروبة والممكن للمسيحية في الجامعة الاميركية ببيروت"، ونجيب محفوظ "يلهث وراء الشيوعيين ويدعو الناس الى قراءة ماركسية لقصصه، زاعماً انها قصص رمزية تقوم على الصراع الطبقي"، وتوفيق الحكيم "أرسلته "اخبار اليوم" عام 1949 على نفقتها الكاملة الى باريس ليوافيها بمقالات عنها، فبعث بمقالات هزيلة سمجة تدل على جهله التام بباريس"، وزكي نجيب محمود "لم يدرس الفلسفة دراسة منتظمة في معهد علمي، ولم يكن له من الانتاج الا مقالات مستواها لا يزيد على مستوى طالب في المرحلة الاعدادية"، وعلي ابراهيم باشا عميد كلية الطب "وقح جبان، انتهازي لا مبدأ له، يأكل على كل الموائد"، وعبد العزيز السيد وزير التعليم العالي "جاهل مهرج لا مؤهل له عند صاحب السلطان الا سرد النكت والفكاهات"، واسماعيل علي "عميل جهاز الاستخبارات، يتولى كتابة التقارير السياسية ضد اعضاء هيئة التدريس بالجامعة، فعين وزيراً للثقافة ثم مديراً لجامعة عين شمس مكافأة له على هذه الاعمال الخسيسة الدنيئة"، كلية الآداب، في جامعة فؤاد الاول "عُش للأفاعي، وموئل للمنافقين، ومرتع خصب للجهال والدساسين". ثم البابا يوحنا بولس الثاني "هذا البابا الرحالة، السندباد الجوي، الذي جعل الموضوع الرئيسي في نشاطه البابوي ومواعظه الرعوية هو مسألة وسائل منع الحمل!". ثمة عامل واحد يجمع بين مواقف عبد الرحمن بدوي من الكافة: هو ان الشريرين الحقودين، الكذابين الدساسين، الافاقين المأجورين، الدجالين الوصوليين المعتوهين، والجهلاء الاغبياء الادعياء السفهاء العملاء، هم عنده كل من وقف في طريق ترقية له، او لم يجدد له اعارة في الخارج، او لم يعجبه كتاب ألفه، أو عابه على ترجمة، أو لم يحتف به الاحتفاء الواجب، وان الافاضل الجديرين بالولاء والاحترام في كل هذه الحياة الدنيا، وعددهم لا يتجاوز عدد اصابع اليدين، هم: 1- الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي أيد طلبه مجانية التعليم بدعوى تفوقه، فساعده على تحقيق بغيته على رغم معارضة العميد الشرير منصور فهمي بحجة ان والد بدوي من الاثرياء. 2- طه حسين على رغم ما سبق من وصف بدوي له لأنه ارسله وهو طالب في رحلة صيفية الى المانياوايطاليا، ولأنه أيد تسجيله لرسالة الماجستير في وجه معارضة العميد "الحقود" احمد أمين. 3- أحمد نجيب هاشم وزير التربية والتعليم، وهو رجل يتحلى بالنزاهة ونبالة الاخلاق وحسن التقدير، الذي وافق على ترقية بدوي الى درجة استاذ ذي كرسي. 4- السفير محمد التابعي سفير مصر في ايطاليا "الذي افاض علي أثناء اقامتي في روما من كرمه وحرارة استقباله ما ضاعف من سعادتي". 5- محمد حسن الزيات وزير الخارجية، الذي توسط لدى السادات عام 1973 من أجل العمل على اطلاق سراحه من معتقله في ليبيا. 6- احمد حسن الفقي "ذلك السفير المصري الممتاز في الهند الذي سعى سعياً مشكوراً لدى وزارة الثقافة الهندية حتى ترسلني على نفقتها في جولة من المحاضرات في اربع جامعات هندية كبيرة". وتتراوح مراكز المغضوب عليهم والضالين عند عبد الرحمن بدوي ما بين جمال عبد الناصر "الذي استولى الاصلاح الزراعي في عهده على 25 فداناً من املاكي، ولم احصل على مليم واحد تعويضاً عما استولى عليه، والذي قرر فرض الحراسة على اسرتنا فكانت احدى ضحايا اللجنة العليا لتصفية الاقطاع"، وبين موظف لبناني في مطار بيروت، اكتشف ان ليس في جواز سفر عبد الرحمن بدوي تأشيرة دخول "فراح يهرف بما لا يعرف، وكان غبياً غليظاً جباناً معاً، ذا خيال مريض، وحقد دنيء"، فأبى أن يسمح له بدخول لبنان. غير ان ما يثير عجبنا حقاً هو ضعف المنطق عند هذا الفيلسوف الذي حصل على مجانية التعليم بكلية الآداب بدعوى تفوقه في "المنطق". تأمل قوله عن المصريين إبان الحرب العالمية الثانية: "وكان المصريون جميعاً - باستثناء الخونة من اذناب الانكليز وعملاء الشيوعية - يتمنون انتصار المانيا، لان هذا الانتصار هو الذي سيحل مشاكل كل البلاد العربية"، أي منطق هذا؟ المصريون جميعاً؟ باستثناء الخونة؟ انتصار المانيا كان سيحل مشاكل كل البلاد العربية؟ او استمع الى حديثه عن عزيز باشا المصري "كنت واصحابي معجبين به، لانه القائد المصري الوحيد الذي خاض معارك حربية، بينما لا يوجد في الجيش المصري كله ضابط - بأي رتبة كان - قد خاض غمار اي حرب"، الوحيد؟ في الجيش المصري كله؟ غير أننا نترك هذا لندلف الى الحديث عن مدى اعجاب بدوي بهتلر والنازية. فأدولف هتلر هو عند فيلسوفنا احد العشرة الأفاضل، فقد سبق ان اوردنا اسماء ستة منهم: "وقد قررت إبان اقامتي في ميونيخ - عاصمة الحركة النازية - عام 1937، أن أدرس هذه الحركة دراسة عميقة، وبدأت بكتاب "كفاحي" لهتلر، وتلوته بكتاب "اسطورة القرن العشرين" لألفريد روزنبرغ، وغيره من الكتب العديدة التي اعتمدت عليها في سلسلة المقالات التي كتبتها في جريدة "مصر الفتاة" في صيف 1938 وما تلاه، وعلى الرغم من ان اقامتي في ميونيخ استغرقت شهراً وأحد عشر يوماً فقط، فقد تبلورت اثناءها افكاري السياسية، ومنها ايماني بأن النموذج الذي ينبغي لمصر استلهامه هو ما تحاول النازية تحقيقه لوطنها المانيا. ولما كانت المانيا لم تستعمر مصر ولا اي بلد عربي او اسلامي، وكان الاعجاب بألمانيا اصيلاً في الشعب المصري، بل وسائر الشعوب العربية والاسلامية، فلم يكن ثمة أي تحرّج في استلهام نموذج المانيا". ورأى بدوي في شباط فبراير 1938 أن يتصل بزعماء جماعة "مصر الفتاة"، أقرب الجماعات والاحزاب المصرية شبهاً بالحركات الفاشية، وان يتعاون معها، وان يكتب في جريدتها معرّفاً قراءها بأيديولوجية الفاشية والنازية، فكتب مقالات عدة عن مبادئ النازية، والفلسفة السياسية التي تقوم عليها، وتنظيماتها الحزبية، "وترجمت وشرحت برنامج الحزب النازي، مستعيناً بكتابي هتلر وروزنبرغ، وبرسائل صغيرة كانت من مطبوعات حزب النازي حملتها معي من ميونيخ، وكانت كل هذه المقالات بتوقيعي وباسمي الكامل". من هذا المنطلق النازي اذاً يدافع بدوي عن جريمة اغتيال العيسوي لرئيس الوزراء احمد ماهر في اول شباط 1945 عقب تلاوة ماهر في مجلس النواب قرار اعلان مصر الحرب على المانياوايطاليا واليابان، في ضوء قرار الحلفاء عدم السماح بالانضمام الى هيئة الاممالمتحدة الا للدول التي اعلنت الحرب على دول المحور قبل انتهاء الحرب. يقول بدوي: "لقد كان عملاً مشيناً خسيساً عارياً من كل شهامة وكرامة ان تعلن مصر الحرب على المانيا في شباط 1945، في الوقت الذي اطبقت فيه جيوش الحلفاء على المانيا وتيقن امر هزيمتها بعد بضعة اسابيع، ثم ماذا كان سيحدث لو لم تضم مصر الى هيئة الاممالمتحدة؟ لقد اعترف العيسوي منذ اللحظة الاولى بكل شجاعة ورباطة جأش انه هو القاتل، وانه هو وحده المسؤول، وانه قام بهذا العمل دفاعاً عن شرف مصر، وبدافع من الوطنية الخالصة، لانه شعر ان اعلان مصر الحرب على المانيا هو عمل دنيء يلوّث كرامة مصر ويجعلها مجرد ألعوبة في يد بريطانيا، فماذا جنت المانيا ضد مصر حتى تعلن مصر الحرب عليها؟ ان الجاني على مصر هو بريطانيا التي تحتل مصر منذ ثلاثة وستين عاماً وتسومها الذل والهوان، فبأي حق اذاً تعلن مصر الحرب على عدو عدوها؟". كذلك يدافع بدوي عن جريمة اغتيال حسين توفيق في كانون الأول ديسمبر من العام نفسه لوزير المال الوفدي امين عثمان "الرمز المتجسد للخيانة العظمى، الذي كان من المتوقع ان يلقى جزاءه عن هذه الخيانة على يد احد الشباب الوطنيين"، فإن نحن غضضنا الطرف عن هذه المباركة النظرية من جانب بدوي لجرائم الاغتيال السياسي، فإن من المذهل المدهش حقاً ان نرى فيلسوفنا لا يتحرّج من أن يلعب دور القبضايات والبلطجية وعصابات النازيين والفاشيين ازاء مفكر مرموق مثله، هو عباس محمود العقاد، يقول: "كتب العقاد مقالات ضد الاخوان المسلمين، لكن هؤلاء سكتوا ولم يحركوا ساكناً، ثم انكفأ بعد ذلك يهاجم مصر الفتاة، فلما كتب اول مقال، تشاورنا في مصر الفتاة بماذا نرد. فرأى محمد صبيح ان يكون ذلك الرد القاسي في مجلتنا، وكتب فعلاً مقالات بعنوان "العقاد جهول يريد أن يعلم الناس ما لا يعلم". فكتب العقاد مقالاً آخر اشد واعنف، وكان من رأيي أنا أن العقاد يرحب بالمقالات، فلا علاج له عن هذا الطريق، بل لا بد من استخدام العنف معه لانه لا يردعه غير العنف. وأخذ برأيي اثنان من اعضاء الحزب، احدهما هو الذي كان قد ارهب قاضي الاحالة، فتربصا للعقاد وهو عائد الى بيته رقم 13 شارع سليم في مصر الجديدة، وانهالا عليه بالضرب والصفع والركل، وافهماه ان هذا تأديب مبدئي بسبب مقاليه ضد مصر الفتاة، فإن عاد، عادا اليه بما هو أشد نكالاً، واحدثت هذه العلقة أثرها الحاسم، فخرس العقاد خرساً تاماً، ولم يعد الى الكتابة ضد مصر الفتاة". وكم كنت اود - لولا ضيق المساحة المحددة لمقالي - ان اتناول بالتحليل موقفه من المرأة، فهو يحرص كل الحرص على أن يورد هنا وهناك في كتابه "سيرة حياتي" سطوراً عن فتيات اوروبيات التقى بهن اثناء اقامته في ميونيخ 41 يوماً وبيروجيا 43 يوماً، وهولندا 42 يوماً، من دون اشارة واحدة في الكتاب الى صلة بامرأة مصرية واحدة، وهو يتحدث في تلك السطور عن جلوسه مع فتاة المانية في السادسة عشرة تحت ظلال الزيزفون في الحديقة الانكليزية بمدينة ميونيخ "نتساقى احاديث الغرام وملاحظات الهوى، حتى انتصف الليل، لكني لم ارها بعد ذلك ابداً"، وعن فتيات المانيات ونمسويات في بيروجيا بايطاليا، "كنت اوثر واحدة منهن بالنزهة الخلوية في الروابي المحيطة بالمدينة فنقضي المساء حتى ساعة متأخرة من الليل، والعفاف اقوى رقيب علينا، فلا نتبادل اكثر من لمسات الايدي او المخاصرة في المشي، وحرمنا على انفسنا ما يتجاوز ذلك، حتى القبل الخفيفة"، ثم يستقر قلبه - ولمدة اربعة عشر يوماً - على فتاة نمسوية، كان يقابلها كل مساء عقب انتهاء المحاضرات العامة فيتجاذبان اطراف الحديث حتى منتصف الليل، وسافرا معاً الى فلورنسا حيث امضيا نهاراً كاملاً قضياه في زيارة المتاحف، ثم كان ان اضطر الى العودة الى مصر، فتبادلا في ليلة الوداع القسم على الوفاء في الحب وهما جالسان على الصخر خارج بيروجيا، "وكان القمر وقتها ساطعاً فاستحلفناه ان يكون شاهداً على هذه الايمان". وثمة فتاة هولندية، رائعة الجمال "تبادلنا احاديث الغرام البريء، لكن علاقتنا لم تستمر الا اسبوعاً واحداً، لانها كانت مضطرة الى السفر". اما الهولندية الثانية "فقد عرفتها سنة 1950 في متحف اللوفر بباريس وأنا واقف اتأمل لوحة الموناليزا، وقد زادني بها اعجاباً ثقافتها الادبية والفنية الواسعة، فخرجت اتجول معها في حديقة اللكوسمبورغ، ثم التقينا في المساء في مقهى غناونسي، وقد احضرت هي معها اخاها الاصغر، وودعتها اذ كان عليها ان تستقل القطار في اليوم التالي عائدة الى امستردام". والغريب انه يرى مناسباً ان ينهي هذا الكتاب الضخم بأسره 765 صفحة من القطع الكبير جلها مخصص لاستعراض انجازاته العقلية، بالحديث عما انتابه اثناء زيارته لايران عام 1973 وهو في السادسة والخمسين من العمر من حسرة على صعوبة التعرف الى فتيات او سيدات في ايران "لحرصهن كل الحرص على عفافهن". * كاتب مصري.