على رغم ما اعلنته وزيرة الدولة للشؤون الخارجية فايزة ابو النجا مساء الخميس من قرب التوصل الى اتفاق في شأن مذكرة تفاهم برنامج المساعدات الاميركية لسنة 2004، الا ان الشواهد تؤكد مرور العلاقات المصرية - الاميركية بمرحلة تقويم فريدة في ظل مطالبات بضرورة إعادة النظر في تلك العلاقة خصوصاً من الناحية الاقتصادية، بعدما باتت المعونات الاميركية للبلاد مصدر قلق للمصريين الذين يرون ان هناك تدخلاً اميركياً في توجيه بعض السياسات نتيجة لتلك المعونات، حتى أن السفير الاميركي ديفيد وولش سحب البساط من زيادة الاسعار وركود الاسواق وبات لا هم للاوساط الاقتصادية سوى قضية السفير الاميركي. وعزّزت العلاقة المتردية بين السفير الاميركي والصحافة منذ 25 الشهر الماضي، واتهام صحف معارضة وولش بأنه "المندوب السامي الاميركي" في مصر وسفير اسرائيل ايضاً، مطالبات إعادة النظر في العلاقة المشتركة في إشارة واضحة الى أن رفضاً خفياً لتلك السياسة من جانب المصريين قد يتحول الى رفض علني في حال عدم ضبط الاميركيين بوصلة التدخل في كل شيء، وعدم مراعاة نفسية الرأي العام الذي تحول انتقاده للسلوك الاميركي في المنطقة الى كراهية لتلك السياسة التي تعمل بمكيالين، فالوضع في العراق والاراضي المحتلة كفيل بهذا التحول. والمتابع بدقة للاوساط الاقتصادية في الايام الماضية يجد سيطرة كاملة لموضوع انتقاد السفير الاميركي للصحافة المحلية على الجلسات العامة والخاصة باستنكار البعض لها وتهوين البعض منها، وبعدما لوحظ اخيراً تدخل اميركي "زائد عن الحد" في قضايا محلية بحتة ومحاولة مسؤولين الاستشهاد برأي السفير الاميركي في تلك القضايا، ظناً منه ان الرأي العام سيدعم موقفه المسؤول في الوقت الذي تتبّع السفارة الاميركية اسلوباً ترويجياً جيداً لسياسة الادارة الاميركية، خصوصاً تعاطي السفارة وهيئة المعونة الاميركية في المشاريع داخل المحافظات والاقاليم البعيدة عن التطور وهو ما نجحت فيه بنسبة كبيرة. مائدتان متجاورتان في احد الفنادق الكبرى ضيوفهما سبعة من رجال الاعمال البارزين واربعة وزراء سابقين ووزير حالي يتناولون افطار رمضان، لكنه تحول الى افطار سياسي بسبب تصريحات السفير الاميركي الاخيرة، واجمعت الغالبية، باستثناء الوزير الحالي، على أن التعاون مع الادارة الاميركية ينبغي ان يكون في حدود المصلحة المشتركة فقط، خصوصاً ان الاميركيين يذكرون دائماً بالمنح المقررة للمصريين. وخلص الجميع الى ضرورة ان تأخذ الادارة بنتيجة التقرير الذي اعده ادوارد دجيرجيان السفير الاسبق لدى سورية في 2 تشرين الاول اكتوبر الماضي وهو ان تجري واشنطن عملية تحول استراتيجي جذري وشامل في سياستها الاقتصادية والسياسية لتخفيف مستوى العداء لها، وكشف وزير سابق يعمل حالياً رئيس مصرف بارز أنه اُطلع على تقرير يفيد أن الادارة الاميركية انفقت 700 مليون دولار العام الماضي على برامجها لترويج السياسات، اضافة الى 450 مليون دولار اخرى للانفاق على اذاعة صوت اميركا ومحطات اذاعية اخرى في حين لم يُخصص سوى 25 مليون دولار لبرامج التواصل مع العالمين العربي والاسلامي، ما يؤكد أن رجال الاعمال والمستثمرين ضاقوا ذرعاً بهذه السياسة، وهناك تفكير جاد بالاستغناء تدرجاً عن السوق الاميركية او على الاقل تحجيم التواجد والبحث عن أسواق جديدة اوروبية وآسيوية وعربية في آن. لكن السفير الاميركي وولش يرى ان الحديث عن تنامي الكراهية لبلاده امر غير واقعي وغير صحيح، فعلى سبيل المثال نجد أن عدد المصريين الذين يزورون الولاياتالمتحدة نتيجة ظروف اقتصادية خاصة بهم في زيادة مستمرة بعد احداث ايلول سبتمبر وكذلك تتزايد اعداد الاميركيين في مصر وغيرها من الدول العربية. يرد الحضور كفانا رؤيتهم هم يلوحون بين فترة وأخرى بخفض حجم المساعدات الاقتصادية للبلاد ومحاولة الحصول على ثمن سياسي بعينه مقابل تلك المساعدات، في إشارة إلى أن الرئيس حسني مبارك طلب غير مرة من الحكومة عدم الاعتماد على المساعدات من أي جهة، خصوصاً الاميركية التي يتوقع أن تنخفض بصورة كبيرة سنة 2008، لينتقل الجانبان من مرحلة المساعدة إلى المشاركة. ويبدو أن الحديث استفز الوزير الذي لازم الصمت لكنه راهن على اخذ دوره الطبيعي في الجلسة وراح يكشف بعض الاوراق في العلاقة المشتركة مع الولاياتالمتحدة، وفي مقدمها أن الإدارة الاميركية أبلغت القاهرة أخيراً ضرورة إنجاز خطوات محددة لتوضيح جدية اهتمامها باتفاقات تجارية عدة والتي تجرى محادثات في شأنها قريباً في مقدمها اتفاق التجارة الحرة والنافتا. ومن بين الخطوات المطلوبة أميركياً أن تكون التعرفة على الملابس متماشية مع التزامات منظمة التجارة الدولية وأن تظهر القيادات رفضها للنداءات المطالبة بمقاطعة المنتجات الاميركية، على اعتبار أن استمرار تلك النداءات سيضر أكثر بالمصريين، وكذلك انجاز مراحل معينة في الملكية الفكرية وتطوير نظام الجمارك. في الاتجاه نفسه الكلام للوزير الحالي يبدو أن الجانبين المصري والاميركي لن يحسما قضية منطقة التجارة الحرة المشتركة السنة الجارية، في ظل مقايضة اميركية رفضتها مصر في مجالات عدة، واكتفت الولاياتالمتحدة توضيح أن الاتفاقات تأخذ وقتاً للتفاوض والمهم وجود إرادة سياسية لدى الطرفين لدفع التبادل التجاري وتسهيل انتقال السلع، ما يعني أن المنطقة الحرة بعيدة عن حلبة المناقشات لمدة سنة على الأقل، إذا كانت الأوضاع طبيعية أما إدراج الموضوع في إطار خطة سياسية تنوي الإدارة الاميركية تطبيقها فذلك يؤجل التفاوض في شأن المنطقة الحرة إلى أجل غير مسمى. بليونا دولار مساعدات عسكرية واقتصادية وفي ما يتعلق بالمساعدات الاقتصادية الاميركية لمصر أكد الوزير أنها لم تتغير وتسير وفقاً للاتفاق الذي تم التوصل إليه في هذا الخصوص، إذ يُقدر إجمالي المساعدات الاقتصادية التي ستحصل عليها مصر السنة الجارية بنحو 645 مليون دولار. علماً أن المساعدات العسكرية التي ستحصل عليها أيضاً خلال السنة تُقدر بنحو 3،1 بليون دولار، كما تمت الموافقة على إنشاء حساب ذي فائدة على الجزء غير المستخدم من تلك المساعدات. وذكر أن هناك خفضاً متفقاً عليه من قبل تصل نسبته إلى 5 في المئة سنوياً، بدأ تطبيقه اعتباراً من عام 1999 بهدف خفض المساعدات الاقتصادية بواقع 50 في المئة بنهاية سنة 2008. البداية ويؤرخ للعلاقات المصرية - الاميركية أنها بدأت جدياً في 6 تشرين الثاني نوفمبر عام 1973 عندما زار القاهرة وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر، مستأنفاً العلاقات المقطوعة منذ عام 1967 والمتوترة من قبل، وشهدت فترة السبعينات تطوراً خصوصاً بعد توقيع مصر وإسرائيل اتفاقات كامب ديفيد وإقرار الإدارة الاميركية مساعدات للدولتين ساهمت بشكل ما في إصلاح بعض ما دمرته الحروب المتعاقبة، وفي العقدين الماضيين شهدت العلاقات تطوراً أدى إلى تغيير استراتيجية كانت لها تأثيراتها بعيدة المدى، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. ونظراً للتطور "البطيء" المستمر لعملية السلام ونجاحها مرة وإخفاقها مرات، إلا أن المساعدات الاميركية لم تتأثر بذلك، وقدمت واشنطن إلى القاهرة نحو 40 بليون دولار معونات عسكرية واقتصادية لحماية الاقتصاد من آثار الحروب التي خاضتها لإنشاء البنية التحتية التي كانت تآكلت، إضافة إلى إلغاء نصف الديون المصرية المتراكمة عبر السنوات. وسعى الرئيس مبارك، على رغم بعض التوتر، إلى جعل العلاقات مع أميركا مصلحة مشتركة للتعاون الاقتصادي وهو طريق من اتجاهين يأخذ فيه كل طرف ويعطي ويكسب كلاهما في النهاية. ويرى خبراء أن نظرة اميركا إلى الشرق الأوسط عموماً تغيرت خصوصاً بعد اتفاقات اوسلو عام 1991 عندما رأى العالم الشرق الأوسط في حُلة جديدة كساحة ممكنة للتعاون الاقتصادي تتنافس عليه اميركا وبقية الدول، فبعد أن كان نفطاً وغازاً فقد بات جائزة اقتصادية كبرى للشركات الاميركية في حال حل السلام، ومن بين تلك الدول مصر. ويؤكد الخبراء أن العائد الاقتصادي من العلاقة المشتركة لم يكن مصرياً فقط، بل كان اميركياً أيضاً، فمن ناحية فإن الانفتاح المصري على أميركا كان بوابة مهمة لانفتاح العرب عليها ومن جهة أخرى فإن العلاقة الثنائية شكلت ربحاً صافياً لاميركا في إشارة إلى أن السوق المصرية بجانب أسواق السعودية وإسرائيل وتركيا تعد أهم الأسواق المستقبلية للسلع الاميركية، لكن مصر تتميز بأن الولاياتالمتحدة - التي تعاني من عجز دائم في ميزانها التجاري - تحقق مع مصر أكبر فائض تجاري مقابل أي دولة في المنطقة. ويبلغ حجم الاستثمارات الاميركية في البلاد نحو 3 بلايين دولار تمثل 33 في المئة من اجمالي الاستثمارات الاميركية المباشرة في منطقة الشرق الأوسط، منها استثمارات في قطاع الانتاج والخدمات تقدر بنحو 700 مليون دولار واستثمارات في قطاع البترول بنحو 3،2 بليون، وتعد الشراكة المصرية - الاميركية ومبادرة مبارك - غور من أهم مجالات التعاون التي وقعت في ايلول سبتمبر 1994، بهدف وضع إطار لتطوير علاقات التعاون خصوصاً في مجال دعم قدرات الاقتصاد المصري وعملية النمو والتنمية الاقتصادية بما يحقق المصلحة المشتركة بين البلدين.