في كتاب الشاعر العراقي شاكر لعيبي، عن التجربة السبعينية في الشعر العراقي الشاعر الغريب في المكان الغريب والصادر لدى دار المدى دمشق، عدد من المحاور المهمة التي تم العبور السريع معها، في الكتابات النقدية التي احتوتها الصحافة العربية في العقدين الأخيرين. وما قام به الشاعر والناقد لم يكن مجرد شرح أو تفسير لظاهرة شعرية، بل كان دخولاً في منطقة شبه مظلمة لها نظائرها في الشعر العربي، سواء في الشعر السوري السبعيني أو الشعر اللبناني من الجيل نفسه، ولا يخلو جيل السبعينات في مصر من الاشكال ذاته الذي أشار اليه لعيبي. وإن كانت الدراسة أو الدراسات التي طرحها تدور في تجربة سبعينات الشعر العراقي، إلا انها، ولا شك، تتصل، ضمنياً، بسبعينيات أخرى، شاءت المعطيات الخارجية توحيد إشكالها، إن لجهة الارتباط غير المشروط مع التراث، أو لجهة المد الجماعي الذي مثله ظرف تاريخي سياسي معين. من المعروف أن جيل السبعينات الشعري العربي يكاد يكون من أكثر المظاهر الشعرية غموضاً والتباساً، فهو لم يكن الجيل الذي غلبت عليه صفة "الريادة" أو "التأسيس" كما اشتهر عن الستينيين وبعض الخمسينيين، ولم يكن الجيل الذي يقيم اتحاداً غير مشروط مع الثراث، كما عرف من شعرية الكلاسيكيين الكبار وغير الكبار. أي أن هذا الجيل وقع تحت وطأة "السبق" ووطأة "التجديد" في آن واحد. السبق الذي مثله "الرياديون" و"التجديد" الذي ينبغي حصوله على الأقل بوجه التقليدية. هنا يكمن الغموض في وصف تلك التجربة التي تتأرجح بين خروجها من الريادة ورغبتها في التأسيس، ما يفسر التجاور الحاصل في تجارب شعرية لا تنتمي، بالضرورة، الى المعطى نفسه، كما نجد محمد علي شمس الدين، في لبنان، الى جانب عباس بيضون ووديع سعادة، ونجد ممدوح عدوان، في سورية، الى جانب نزيه أبو عفش وفايز خضور. والأمثلة كثيرة. كما أن من عوامل التباس هذا الجيل هو "الهجر" النقدي الذي رافق تلك التجربة، ما جعلها تبدو عزلاء وتعطي انطباعاً خاطئاً بأنها لا تحمل دوافع ذاتية للقراءة. في كتاب شاكر لعيبي تثار القضية، وإن يكن من غير المنحى الذي أشرنا اليه، على الأقل لأنه قرأ ظاهرة شعرية محددة، والتحديد، تماماً، في الشعر العراقي. يُسجل في هذا الجانب أن لعيبي أثار جدلاً نقدياً في الصحف ومختلف مواقع النشر، إن في كتابه الذي بين أيدينا أو في الردود على ما ذهب اليه. قرأت الباحثة فاطمة المحسن الكتاب وعلقت: "نحن نرى أن من المجحف أن تفتح معارك على هذه الدرجة من التساهل مع الذات، أو التعصب للجمع الذي يمثله الكاتب". وكذلك السجال الذي حصل بين حميد العقابي ولعيبي. لكن إثارة لعيبي للقضية اتفقت على نوع من التقويم المؤدي الى العزل أو التهميش، الذي رفضه المؤلف ذاته في تمهيد كتابه معتبراً أن "الطمس صار قاعدة لحياتنا الثقافية الشعرية". فكيف به، والحال هذه، أن يعيد إنتاج "الطمس" السالف من خلال الاختزال الشديد الذي وسم به تجارب معينة عندما يقول متحدثاً عن مرحلة بعينها: "أنتجت الكثير من الشعراء من دون جدوى: عبدالمطلب محمود ومرشد الزبيدي وخزعل الماجدي وساجدة الموسوي". فجمع شاعرة "أم المعارك" مع خزعل الماجدي، مثلاً، يخسر التحديد والتعريف، هذا فضلاً عن الفروق الجوهرية التي تمثلها تجربتهما. كذلك فإن الزبيدي دارس للأدب ومساهم في النقد كما نعرف في كتابه "اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق"، كذلك فإن الناقد والشاعر عبدالمطلب محمود صدر له عدد غير قليل من الكتب الشعرية، والقارئ يفضل معرفة كيف تكون "بلا جدوى" مجموعة من الكتب يصل عددها الى نحو الأربعين كتاباً! أي كتب هؤلاء الشعراء مجتمعةً، النقدية والشعرية. ظاهرة شعرية الأزمة والالتباس في الشعر السبعيني العربي عموماً، ينعكسان في القراءة وهذه ليست من مفارقات الأمور بل من لوازمها. لأن ليس من الممكن تحويل "الأزمة" الى صفة الا في الحال التي تكون فيها القراءة امتداداً غير مشروط للكتابة. كذلك فإن المفاهيم المستخدمة في القراءة قد تشكل موضوعاً قابلاً للفحص. تحدث لعيبي عن الدور الذي لعبته تغييرات "بنيوية على كل صعيد" وهي سبب خصوبة أو خصوصية الفترة السبعينية". ويجمل هذه التغييرات ب"حرب أيلول في الأردن وتوقيع كامب ديفيد والانفتاح الاقتصادي في مصر والحرب الأهلية في لبنان..." الخ. هذه التغييرات يمكن أن تفسر الاجتماع السياسي وسواه، أما قراءة ظاهرة شعرية من خلالها فهي من قبيل التفسير أو ربما الاقحام في كثير من الحالات. هنا يمكننا أن نسأل: لماذا نستبعد على الشاعر أن يربط الشعرية بتحولات سياسية واجتماعية معينة؟ ألا يمكن أن تكون هذه "الحقيقة" هي المسبب الأول في الالتباس الذي يمثله شعر السبعينات؟ أي أن السبق الستيني الذي حاصر السبعينيين قد يكون شكل سداً بوجه احتمالات تجديد أو خصوصية فانحرفت نحو "الجماهيري" الالتزامي كطريق إجباري بعدما حاز "الرواد" كل الانجازات؟ أم أن ما قاله لعيبي عن "قومجية" معينة في السياسة انعكست قومجية في الشعر؟ ربما. ومهما كان المعطى فاعلاً إلا ان النقد ينصب دائماً على المنجز الشعري. يتكئ المؤلف على بعض الملاحظات التي دّنها بعض الشعراء والمثقفين، في الفصل الأول، حول تجربة الستينات، كالقول انها "ظاهرة ثقافية" وقول آخر ولكن عن الستينات السورية: "شعراء الستينات دخلوا عالم الشعر من دون وصاية داخلية ذات شأن وانهم جيل بلا آباء، وان الأبوة الحقيقية لهم كانت من خارج سورية: التأثر بالموجة العراقيةواللبنانية الوافدة والشعر العالمي". هنا، وفي هذه السياقات يتحول المعطى الخارجي الى أثر فاعل، ولا يعود خارجياً بالمعنى الفيزيائي، بل من داخل اللحظة الشعرية التي هي مصير قلق التأثر الذي اعتبره هارولد بلوم دالاً إبداعياً. يكاد يكون الفصل الثاني من الكتاب تأريخاً لسبعينات العراق الشعرية، كما نقلها لعيبي في لغة هي مزيج من التوثيق والتذكر الحميم اللذين أعطيا الفصل طابعاً شخصياً وأدبياً، من خلال ثانوية "قتيبة" وثانوية "المصطفى" ومتوسطية "الفلاح"، ففي الأولى يتذكر الدور الذي قام به الكلاسيكي عبد الأمير الورد، والناقد شجاع العاني. أما في الثانية فنجد بدرخان السندي. وتركي عبد الأمير في الثالثة. وكذلك لقاءات "كازينو أبي نواس" والدور الذي لعبته جامعة بغداد والجامعة المستنصرية. أما في مقهى البرلمان فكانت تتعايش: "الأجيال والتيارات وتتلاقح الأفكار والشعارات". وهو في إطار إشارته الى دور المدينة الجديدة في التواصل والانفتاح يشير الى أن بغداد السبعينات تبدو: "وكأنها تعاني اكتفاء بالذات الثقافية وكأننا أمام عقلية جزيرية مكتفية بنفسها ومنحنية على همومها المحلية الضيقة". ونرى في المقابل مدينة تنفتح على الشام، وهي الموصل، ولهذا يعتبر لعيبي أن مقهى البرلمان يمثل وضعية "مدينة بغداد تحت ظل فكر قومجي" منطلقاً من أنه ومهما مثلته هذه المدينة من انفتاح على العرب، فإنها في الحقيقة: "تعاني انغلاقاً فكرياً وروحياً عسيراً". ومن هنا نعود لنتذكر الاشارة في أول الدراسة الى أهمية المرحلة السبعينية بصفتها مناخاً عاماً، فتكون بغداد، في وصف لعيبي، دمشق أو القاهرة، في مقاربة ما لجهة ارتفاع "الالتزام" السياسي على الجمالي. والمصادفة تكاد تكون غاية في الدقة، فإن مقهى "الروضة" في دمشق، هو مقهى البرلمان في الوقت ذاته! الهامشي والجوهري في الشعر العراقي المعاصر، هما مادة الفصل الثالث، في الكتاب، وتكثر فيه أحكام القيمة التي لم يكن الشاعر- الناقد مضطراً الى إطلاقها، على الأقل للوفاء بمتطلبات المنهج النقدي الذي هو في معظمه وصفي فاحص أكثر من كونه حكماً قيمياً ثابتاً. ربما لأن فصول الكتاب كانت في الغالب مقالات في الصحف، وهو ما يسمح أو يؤدي الى دمج القراءة بالتذوق، أو الوصف بالحكم. فميتافيزيقيا خزعل الماجدي "شاحبة واستعراضية". ومجموعة الجيزاني "الأب في مسائه الشخصي" "من أهم المجموعات الشعرية". ورعد عبدالقادر "شاعر جدي ومثابر ومجرب". أما عواد ناصر فهو "من محترفي الكتابة" وشعر خالد المعالي "يقدم مناسبة ثمينة لتناول مشكلة الاستسهال في قصيدة النثر العراقية"، وكذلك فإن شعر المعالي وعبدالقادر الجنابي "شعر لا تاريخ له". وهكذا في إطلاقية من دون حصانة قد يتم التغرير بالقارئ غير المطلع أو دفعه الى استلهام التهميش والابتسار الذي عرض فيه المؤلف تجارب شعرية تحتاج الى دراسة فاحصة منهجية أكثر من احتياجها الى حكم قاطع، وخصوصاً في الحال الاقصائية التي تعامل فيها لعيبي مع عدد من أبناء جيله. أشار الكتاب طبعاً الى مفاهيم من مثل المدنية والريفية والحداثة، وقرأ نصوصاً أدبية على ضوئها، بل قسم لها فصولاً كما نرى في القسم الخاص عن كركوك الستينات ومدينة الثورة في السبعينات. لكن الواضح في هذه القراءات مبدأ الحكم المشوب بشيء من الابتسار والاطلاقية، ربما لأن المؤلف شاعر في المقام الأول فغلبت الصفة الحاكمة لديه على الصفة الدارسة، أو لأنه يتحدث عن مرحلة كان هو، في الأساس، واحداً من أركانها الموجودين. نشر مؤلف الكتاب ملاحق في آخر الفصول لا تختلف جوهرياً عن المتن ذاته، إلا انها تنتمي الى فكرته وما يريد قوله. وكذلك نشر بعض الصور التي تعود لتذكر بالطابع شبه الشخصي في الدراسة أو التقويم والحكم. إذ ان مكان الصور، في العادة، هو في الدراسات التوثيقية أو الأرشيف، فما الذي يمكن أن تفعله في "دراسة"؟ المهم أن محاولة لعيبي تبقى في إطار من العمل على التوثيق أكثر من النقد، ولو أن الأخير نلمحه، أحياناً، عندما يتناول الكاتب جوانب لغوية وجمالية معينة. ويبقى الجانب الأساس هو في قيمة إعادة قراءة المرحلة السبعينية، في الشعر العربي، لما حملته من التباس وغموض وتجاهل وربما الكثير الكثير من عدم الاعتراف. واللافت أن الباحث في كتابه أعاد إنتاج الالغاء الذي طالما اشتكى منه هو نفسه والكثير من أبناء تلك المرحلة، وغير تلك المرحلة، ما يدفع الى الاعتقاد أن الباحث ناقش الأزمة بالأزمة ذاتها: الأداة بالأداة واللغة باللغة... والاقصاء بالاقصاء! * شاعر وناقد سوري.