الناتج المحلي هو المتغير الأساسي الذي يضبط ايقاع منظومة النشاط الاقتصادي بكل مؤشراتها. ويستخدم أساساً في اشباع الطلب المحلي، ويصدر جزء منه إلى العالم الخارجي لتستورد بثمنه السلع والخدمات التي لا تنتج محلياً. والمفروض أن تكون قيمة الواردات في حدود حصيلة الصادرات، لكنهما نادراً ما يتعادلان. فإذا فاقت الصادرات، الواردات، اضيف الفرق إلى رصيد الاستثمار في الخارج، وإذا زادت الواردات على الصادرات، يمول الفرق إما سحباً من الاحتياطات، وإما بالاستعانة بالمدخرات الأجنبية في أي شكل متاح. والعبرة ليست بالمستوى المطلق لاجمالي الناتج المحلي، إنما بالعلاقة بينه وبين الطلب المحلي. فإذا كان الناتج أعلى من الطلب زاد القدر المخصص للتصدير فيزيد صافي الاستثمار في الخارج. ويصاحب ذلك ارتفاع في قيمة العملة الخارجية سعر الصرف، والداخلية انخفاض مستوى الأسعار، وغالباً ما يصاحبه أيضاً انخفاض في معدل البطالة. أما إذا كان الناتج المحلي أقل من الطلب المحلي انخفض القدر المخصص للتصدير في الوقت الذي تتجه فيه الواردات إلى الزيادة لتعويض النقص في العرض المحلي. ومع انخفاض حصيلة الصادرات ينخفض سعر صرف العملة، ما لم يتم تمويل الفرق من الاحتياطات أو المدخرات الأجنبية. فإذا لم يتيسر تمويل الفرق من هذه أو تلك، ينخفض سعر الصرف أو تقل الواردات، فيقل المعروض المحلي من السلع والخدمات وترتفع الأسعار. وفي حال تساوى حجم الناتج مع حجم الطلب، تستقر المؤشرات الكلية السابقة على ما هي عليه. والناتج لا ينمو في شكل استطراد خطي، وإنما يسلك مساراً متعرجاً حول خط الاتجاه العام بسبب الصدمات المختلفة التي يتعرض لها النشاط الاقتصادي في الأجل القصير. من هذه الصدمات ما هو من فعل الطبيعة كالزلازل، ومنها ما هو، من فعل الإنسان، مثل الحروب، ومنها ما هو من فعل السياسة الاقتصادية ذاتها، مثل القرارات الاقتصادية. وتتفاوت هذه الصدمات من حيث القوة والاتجاه والتوقيت. فثمة صدمات شديدة الوطأة كالغزو مثلاً، وأخرى خفيفة الأثر كانخفاض طفيف في سعر سلعة تصديرية. وقد تكون الصدمة توسعية مثل اكتشاف حقول نفط، وقد تكون انكماشية عند حدوث جفاف مثلاً. وقد تتباعد الصدمات، مما يتيح للنشاط الاقتصادي قدرة امتصاص آثارها تدريجاً، وقد تتعاصر، مما يجعلها تلغي بعضها بعضاً إذا اختلفت في الاتجاه، أو تزيد حدة التوسع أو الانكماش في حال توافقها في الاتجاه. وتنقض الصدمة إما على منحنى العرض وإما على منحنى الطلب في احدى الأسواق، فتنقل السوق إلى وضع توازني جديد. وتكون الصدمة توسعية إذا نقلت المنحنى إلى جهة اليمين وتكون انكماشية إذا نقلته إلى جهة اليسار. ومن هذه السوق تنتقل اثار الصدمة إلى الأسواق الأخرى من خلال علاقات التشابك في حركة تصحيحية مستمرة عبر الزمن، إلى أن يتم امتصاصها تماماً، بفرض عدم حدوث صدمات أخرى مع اتخاذ كل الأسواق أوضاعاً توازنية جديدة. وللسياسة الاقتصادية، في ضوء ما تقدم، مهمتان أساسيتان: الأولى هي اطلاق طاقات نمو الناتج في الأجل الطويل، أي رفع معدل النمو. والمهمة الثانية هي احتواء التقلبات في مسار الناتج في الأجل القصير، أي تحييد آثار الصدمات. وتتمثل قوى النمو في الآجل الطويل في التراكم الرأسمالي، بما في ذلك الاستثمار في البشر، والطاقة البشرية والتطوير التكنولوجي. ويتم تحرير هذه الطاقات بإزالة كل ما يعوق التراكم الرأسمالي وتسهيل كل ما يشجعه، أي تهيئة المناخ الملائم للاستثمار. وكذلك بالعمل على ضبط البطالة عند المعدل الطبيعي، وهو ما لا يتأتى بدوره إلا بزيادة التراكم الرأسمالي. ولا يقصد بالتطوير التكنولوجي مجرد استيراد الآلات والمعدات الحديثة، وإنما الخبرة في تصنيعها محلياً بقدر الإمكان. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا بديل عن الاستعانة بالخبرة الأجنبية التي لن تتوافر، هي الأخرى، في غياب المناخ المناسب. وعلى ذلك تتحدد مهمة السياسة الاقتصادية في الأجل الطويل، في تهيئة المناخ الملائم للاستثمار، الوطني والأجنبي معاً، في إطار رؤية استراتيجية طويلة المدى. وتتضمن هذه العملية عناصر عدة، أهمها اصلاح الأنظمة السياسية الاقتصادية والإدارية والتشريعية والقضائية والتعليمية والرعاية الاجتماعية بما يساعد على تفعيل آليات النمو بالكفاءة المطلوبة. وفي الاجل القصير، تتركز مهمة السياسة الاقتصادية في احتواء التقلبات في مسار الناتج في اضيق مدى ممكن حول خط الاتجاه العام، أي تحييد آثار الصدمات بقدر الامكان. ويتم احتواء هذه التقلبات من خلال احداث صدمات في النشاط الاقتصادي باستخدام ادوات السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية اساساً. تكون هذه الأدوات مساوية في القوة ومضادة في الاتجاه ومعاصرة في التوقيت للصدمات الاصلية. ولكن المشكلة الازلية للسياسة الاقتصادية، التي لم تحل حتى الآن، تكمن في صعوبة ضبط جرعة التدخل المطلوب من حيث الكم والكيف والتوقيت. وسبب هذه الصعوبة هو عدم توافر المعلومات الكافية لدى متخذ القرار عن الابعاد المختلفة للصدمة، وعن كفاءة الادوات المزمع استخدامها في تحييدها وعن طول فترات الابطاء المصاحبة لهذه الادوات. فإذا كانت جرعة التدخل اكبر او اقل من اللازم، او كانت تحتوي على عناصر غير فعالة، او اعطيت في توقيت غير ملائم، فإن آثارها على النشاط الاقتصادي قد تكون اشد وبالا من آثار الصدمات الاصلية. وبسبب صعوبة ضبط جرعة التدخل هذه لا يزال الجدل محتدما حتى الآن حول قدرة السياسة الاقتصادية على انجاز مهمتها الثانية، أي تحييد آثار الصدمات في الاجل القصير. الكثيرون يؤيدون التدخل على اساس، ان فعل أي شيء افضل من لا شيء. ويحاولون في الوقت نفسه قياس فترات ابطاء الاجراءات الاقتصادية المختلفة واختبار فعالية كل منها. والكلاسيكيون الجدد يفضلون عدم تدخل الحكومة، على اعتبار ان آثار عدم تدخلها اخف وطأة من آثار تدخلها. واخطاء التطبيق: بمقارنة الوضع في مصر بما استقرت عليه مبادئ النظرية، نجد ان الناتج المحلي كان دائما يلهث وراء الطلب المحلي في المدى الطويل، وان الفجوة بينهما اخذت في الاتساع منذ العام 1995. وانعكست الفجوة المتزايدة بين الطلب الراكض والناتج اللاهث، تماما كما تقول النظرية، في زيادة الهوة بين الواردات والصادرات وما ترتب على هذه الزيادة، ضمن اشياء اخرى، من تدهور متواصل في كل من سعر الصرف واحتياطات النقد الاجنبي وارتفاع مضطرد في كل من مستوى الاسعار ومعدلات البطالة. ويعنى تباطؤ نمو الناتج المحلي مقارنة بنمو الطلب المحلي، كما تشير الى ذلك النظرية، ان طاقات النمو لم تكن قادرة على الانطلاق والتفاعل مع بعضها البعض بطريقة طبيعية لفترة طويلة. أي ان المناخ لم يكن ملائما لانطلاق هذه الطاقات بالكفاءة المطلوبة وان السياسة الاقتصادية لم تقم بما كان ينبغي عليها ان تقوم به في هذا الخصوص. كان من المفروض ان تشرع السياسة الاقتصادية مع بداية مرحلة الانفتاح في منتصف السبعينات في تهيئة المناخ الملائم للاستثمار في اطار رؤية استراتيجية بعيدة المدى تتم ترجمتها الى خطة متعددة المراحل تتضمن جدولاً زمنيا لتفكيك الهيكل المؤسسي والبيروقراطي والتشريعي الذي شيد في ظل النظام الاشتراكي السابق ثم اقامة هيكل بديل يناسب اقتصاد السوق. وكان من المتوقع ان تكون هذه الخطة، الطويلة الاجل هي بوصلة السياسة الاقتصادية للحكومات المتعاقبة على مدى العقود الثلاثة الماضية. ولكن الشواهد تؤكد أن الحكومة لم تقم باعداد مثل هذه الرؤية، بل ولم تتوافر لديها النية اصلا لاعدادها. فقد ظل الصرح الاشتراكي العتيد راسخا بكل تعقيداته الطاردة للاستثمار طول العقود الثلاثة الماضية. لم يتغير النظام السياسي طول خمسين عاماً، وبقي النظام الاقتصادي كما هو تقريبا منذ بداية الستينات رغم تبني سياسة الانفتاح في منتصف السبعينات. وتدهور مستوى التعليم الى حد يثير الاسى والالم. اما النظام الاداري فتتجسد فيه المأساة كلها. اذ اتخذت الحكومة من الجهاز الاداري للدولة وعاء لتخويل "البطالة الصريحة" الى "بطالة مقنعة" امتصاصاً لمشاعر السخط الدى الجماهير، وهي لا تدري، او تدري، ان لهذه السياسة آثارها المدمرة على الاقتصاد المصري في المدى الطويل، تفوق كثيراً مزاياها الاجتماعية الهزيلة في الاجل القصير. وقد اسفرت هذه السياسة، ضمن ما اسفرت، عن تضخم الجهاز الاداري في الدولة، حجماً وفساداً، الى درجة شكل معها عازلاً سميكاً لا ينفذ منه ولا يرجى معه أي اصلاح. وتكاثرت خلال العقود الخمسة الماضية التشريعات السيئة الاعداد التي أدت الى تضاعف المنازعات باكثر مما يتحمله جهاز القضاء فطال امد التقاضي وفقدت العدالة جدواها. وفي غياب الرؤية والارادة بدت الحكومة، كما لو كانت قد فقدت البوصلة والخريطة معا، فضاع منها الطريق. وظلت تمارس الانفتاح خلال هذه الفترة، وتلك قمة التراجيديا، بعقلية انغلاقية قصيرة النظر. وتسعى الحكومة الى التحول الى اقتصاد السوق وفق سياسات تدخلية شمولية ضيقة الافق، وتستهدف الليبرالية مع الاصرار العنيد على الاحتفاظ بالمكاسب الاشتراكية الوهمية للعمال والفلاحين. ولم يكن ممكنا بأي حال من الاحوال ان يسمح الصرح الاشتراكي لطاقات النمو، أن تنطلق بكامل سرعتها، مما جعل الناتج يلهث وراء الطلب والازمة تنعكس بكل ثقلها في المؤشرات الكلية الاخرى على النحو الذي نشهده الآن. ولم يكن الناتج، على تباطؤه، ينمو خلال هذه العقود الثلاثة في شكل استطراد خطي وانما اتخذ، كما هو متوقع، مسارا متعرجا حول خط الاتجاه العام. وكان التقلب معتدلا على وجه العموم اذ لم يتخط في اسوأ حالاته سبعة في المئة على جانبي خط الاتجاه العام. ويرجع التقلب في مسار الناتج، وفقا للنظرية، الى الصدمات التي تعرض لها الاقتصاد المصري خلال هذه الفترة. وقد امكن حصر تسع من هذه الصدمات ذات آثار متفاوتة، هي بالترتيب الزمني، ارتفاع اسعار النفط في 0194، وارتفاع اسعاره في 1979، وانخفاض اسعاره في منتصف الثمانينات، وحرب الخليج الاولى 80 1987، وحرب الخليج الثانية 90 1991، وزلزال تشرين الاول اكتوبر 1992، وحادث الاقصر في 1997، واحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وحرب الخليج الثالثة في ربيع 2003. ويلاحظ ان سبعا من هذه الصدمات كانت خارجية واثنتين داخليتين. وثمة صدمة واحدة من فعل الطبيعة وثماني صدمات من فعل الانسان. وكانت اربع منها توسعية الاولى والثانية والرابعة والخامسة والخمس الاخرى انكماشية. كذلك يلاحظ ان حرب الخليج الاولى كانت معاصرة لصدمتي اسعار النفط في 1979 ومنتصف الثمانينات مما ضاعف من الآثار التوسعية للصدمة الاولى وخفف من الآثار الانكماشية للثانية، كما الغت الآثار التوسعية لحرب الخليج الثانية الاثر الانكماشي للزلزال. ولم يكن للصدمتين الاخيرتين، احداث أيلول 2001 وحرب الخليج الثالثة، تأثير يذكر على الاقتصاد المصري. وفضلا عما تقدم حدثت الصدمات التسع خلال ما يقرب من ثلاثة عقود بفاصل زمني يزيد على ثلاث سنين في المتوسط بين كل صدمة واخرى مما اتاح للاقتصاد المصري الوقت الكافي لاستيعاب اثار كل منها بالتدريج. ويفسر كل ذلك، اعتدال التقلب في مسار الناتج حول خط الاتجاه العام المشار اليه اعلاه. وقد تم التعامل مع هذه الصدمات، كما هو مفروض، بصدمات مضادة من صنع السياسة الاقتصادية. ولكن ظروف الحال تشير الى ان جرعة التدخل لم تكن هي المثلى في كل مرة من حيث الكم والكيف والتوقيت. فكثير من القرارات، وخصوصاً في السنين الاخيرة، اتخذ بطريقة متسرعة ومفاجئة مما دفع الحكومة الى التراجع عن كثير منها بالسرعة نفسها بعد ظهور ردود الفعل، الامر الذي يقطع بأنها لم تكن قد درست جيدا. وقد هز هذا التردد الثقة في قدرة الحكومة على ادارة الاقتصاد الوطني، فتبدد اليقين وغلب التشاؤم على التوقعات واندفع المتعاملون في الاسواق الى التحوط بتخزين السلع والنقد الاجنبي، الامر الذي اعطى زخما مضاعفا للازمة. وبلغت المأساة ذروتها مع تقهقر الحكومة الى خط دفاعها الاخير، وهو جهاز الامن، لايقاف التدهور في اسواق السلع والنقد الاجنبي، بعد ان عجزت عن استعادة التوازن باستخدام الادوات الاقتصادية. وتغري هذه التطورات على الاستنتاج ان التقلب في مسار الناتج، وخصوصاً في السنين الاخيرة، انما يرجع في معظمه الى صدمات السياسة الاقتصادية ذاتها، بأكثر مما يرجع الى الصدمات الاصلية. فهل كان من الافضل للاقتصاد المصري، طبقا للكلاسيكيين الجدد، ألا تتدخل الحكومة اصلا لتحييد الصدمات التسع، بخاصة وانها تكفلت بتحييد بعضها واتاح تباعدها للاقتصاد المصري فرصة استيعابها آلياته الذاتية من دون حاجة الى تدخل الحكومة؟ تحدد المخرج خلاصة الموضوع هي، الاقتصاد المصري يعاني من اعراض الوهن العام مصحوبا بمضاعفات الآثار الجانبية للوصفات العلاجية. والوهن العام هو نتيجة اخطاء استراتيجية ارتكبتها السياسة الاقتصادية وأدت الى قمع طاقات النمو وعجزها عن دفع الاقتصاد المصري الى الامام. اما مضاعفات الآثار الجانبية للوصفات العلاجية فهي بدورها نتيجة اخطاء تكتيكية وقعت فيها السياسة الاقتصادية بسبب عشوائية عملية اتخاذ القرار. أي ان ازمة مصر الاقتصادية، في الخلاصة والختام، يمكن اختزالها، في التحليل الاخير، في ازمة السياسة الاقتصادية. السبيل الى تفادي مضاعفات اخطاء السياسة الاقتصادية في الاجل القصير هو تطوير عملية اتخاذ القرار. اذ يجب ان تتخذ القرارات بطريقة مدروسة وليست انفعالية. ويجب ان تقوم بهذه العملية هيئة استشارية مشكلة من خبراء من تخصصات مختلفة على درجة عالية من الكفاءة. وتكون المهمة الاساسية لهذه الهيئة هي اعداد "سيناريوهات" مسبقة لكل الاحتمالات الممكنة. وتكون هذه "السيناريوهات" مبنية على تحديد صحيح لآليات التأثير ومساراته وقياس دقيق لفترات الابطاء المختلفة. اما الوهن العام فسيستغرق علاجه وقتا قد يطول، وربما تظهر آثاره الايجابية في المدى المتوسط اذا توافر حسن النية والجدية في التنفيذ. وعلاجه الوحيد هو، عود على بدء، تهيئة المناخ الملائم للاستثمار وفق رؤية استراتيجية بعيدة المدى. وأي تأخير في تنفيذ هذا الحل سيزيد من الوهن ومضاعفاته على المدى الطويل وكذلك من تكاليف علاجه. وتتطلب هذه المهمة حزمة من الاصلاحات الجادة والفورية في مختلف المجالات، واخطر عناصر هذه الحزمة هو الاصلاح السياسي الشامل الذي بدونه لن تكون هذه الحزمة ذات جدوى على الاطلاق في اخراج مصر من ازمتها. فالنظام السياسي والنظام الاقتصادي، وجهان لمنظومة واحدة، مما يجعل من المتعذر، وربما من المستحيل، اصلاح النظام الاقتصادي دون اصلاح النظام السياسي. ذلك لان النظام السياسي يخضع الاقتصاد للسياسة. لا يقل الاصلاح الاداري خطورة عن الاصلاح السياسي. فلن يتأتى خلق المناخ الملائم للاستثمار، ولا أي اصلاح في أي مجال آخر، مع وجود الجهاز البيروقراطي بوضعه الحالي. وليكن الهدف هو مسايرة الاتجاه الحديث في خفض حجمه ورفع كفاءته في الوقت نفسه. ويمكن تحقيق ذلك بطريقة متدرجة ومن دون آثار جانبية اجتماعية وفق نظام سخي للتقاعد المبكر، على غرار النظام المطبق في الجيش والنظم المتبعة في دول الخليج، مصحوبا ببرنامج شامل وجاد لاعادة التدريب. ولن يؤتي الاصلاح الاداري بدوره ثماره الا بمراجعة موازية لترسانة التشريعات واللوائح المكبلة للاستثمار التي تراكمت خلال نصف القرن الماضي وذلك لالغاء ما لم يعد يصلح منها لمقتضيات العصر وتعديل ما تبقى منها واضافة ما يستلزمه مناخ الاستثمار الملائم. وقد يكون مفيدا في هذا الصدد انشاء نقطة اتصال واحدة للمستثمرين في هيئة الاستثمار تكون مهمتها تخليص اجراءات الاستثمار لدى الجهات الحكومية الاخرى، بعد تبسيطها، لصالح المستثمرين سواء الوطنيين منهم او الاجانب. ويرتبط الاصلاح القضائي بالاصلاح التشريعي. وقد يكون من الافضل، في هذا الصدد، انشاء محاكم مستقلة او دوائر خصوصاً بالمحاكم القائمة تختص بمنازعات الاستثمار مع تبسيط اجراءات التقاضي امامها او تعميم نظام التحكيم، ايهما اصلح في ضوء ما يراه المتخصصون. ومن المسائل الجوهرية الاخرى اعادة النظر في توزيع الادوار بين الحكومة والقطاع الخاص. فالتجربة تشير الى ضرورة ان تترك الحكومة الجزء الاكبر من النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص وان تركز هي على مجالي الاستثمار في البشر التعليم والتدريب والرعاية الاجتماعية للطبقات الفقيرة. ونظرا لخطورة الاستثمار في البشر قد يكون من الاصوب الاستعانة بمكاتب دولية متخصصة لوضع خطة شاملة لاصلاح نظامي التعليم والتدريب. ويفضل ان يتم ذلك تحت الاشراف المباشر لرئيس الجمهورية حتى لا يترك الامر تحت رحمة الهواة واصحاب المصالح. وتكون هذه الخطة ملزمة لاجهزة الدولة، مهما تغيرت الوزارات، فور اعتمادها من رئيس الجمهورية. اما الرعاية الاجتماعية فقد غدت ضرورية بعد ان اتسعت مساحة الفقر وزادت الشرائح الاجتماعية التي تأثرت سلبا بأخطاء السياسة الاقتصادية. وكل تأخر في الاصلاح المطلوب سيزيد اكثر من وطأة الفقر رأسيا وافقياً. كما ان الاصلاح الموصوف سوف تكون له آثار جانبية اضافية نتيجة العناد ورفض تعاطيه لفترة طويلة. وهذا يتطلب من الحكومة ان تراجع دورها وتعطي اهتماماً اكبر لرعاية الفئات المتضررة. ويفضل ان يكون ذلك من خلال التوسع في برامج الصندوق الاجتماعي او استحداث برامج اخرى توصي بها الدراسات المتخصصة. * كاتب مصري مقيم في البحرين.