بعكس ما كانت الحال في الغزو الأميركي لأفغانستان في أعقاب أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 فإن الحرب الاميركية في العراق قصة مختلفة. في حال أفغانستان كان العالم مستعداً لغض الطرف والتظاهر بأن الملف الأفغاني قد جرى إغلاقه لمجرد أن الإدارة الأميركية أرادت ذلك. أرادت أن تقول إنها حررت أفغانستان وأطلقت نساءها خارج البيوت وفتحت دور السينما ومحلات الفيديو وأقامت في العاصمة كابول حكومة ولو تحت حراسة أميركية على مدار الساعة. تظاهرت أوروبا بأنها تصدق فوسّعت للمرة الاولى مهمات حلف شمال الأطلسي لكي تمتد إلى أفغانستان. وتظاهر العالم بأنه يصدق حتى لو بدا مع الوقت أن عناصر مهمة في حكومة طالبان لا تزال مسيطرة في بعض المناطق وأسامة بن لادن جرى إدخاره ليظهر فقط عبر شرائط فيديو يتناسب توقيتها بالضبط مع مصالح داخلية للإدارة الأميركية في مقدمها الاحتفاظ بالتعبئة الشعبية مستمرة ضد عدو خارجي وعالمي، مطاط وغائم، اسمه الإرهاب العالمي. لكن الحالة العراقية بدت مختلفة تماماً. أرادت لها الإدارة الاميركية أن تنتهي عند مشهد تلفزيوني مثير هو اسقاط تمثال الطاغية صدام حسين في التاسع من نيسان ابريل الماضي، فبدأ الإخراج الهوليوودي مبشراً بنهاية سعيدة تسمح للإدارة الاميركية بأن تهنئ نفسها وتغلق الملف استعداداً لفتح ملفات أخرى. لم تكد بغداد تسقط حتى انتقلت التهديدات الاميركية لتصبح ضد سورية وايران بالتناوب. تعلو تهبط حسب مقتضيات الفصل الجديد من السيناريو. أميركا تدعي سعي إيران إلى التسلح النووي و - بعكس ما هو منطقي - يصبح على إيران أن تثبت العكس، وبينما جيران إيران المباشرين المعنيين أساساً - وفي مقدمهم روسيا ذاتها - يقررون أن اتهام إيران بالسعي إلى تسلح نووي هو اتهام غير صحيح، وملفق، فإن وكالة الطاقة النووية من فيينا في النمسا بدأت تستأسد على إيران بما يوحي أنها أصبحت امتداداً آخر للإدارة الأميركية. وبينما ترفض أميركا بالكامل مناقشة التسلح النووي الإسرائيلي - الذي هو قائم ومؤكد فعلاً بعكس الحالة الإيرانية - فإن مدير وكالة الطاقة النووية يتطوع بالتصريح من مقره من فيينا بأن إسرائيل ستتخلص من تسلحها النووي بمجرد أن تحقق السلام الكامل مع جيرانها. كلمات كبيرة لم يحدد محمد البرادعي مصدره فيها وإسرائيل ذاتها تتجاهله بالكامل وترفض الانضمام إلى وكالته. في حال سورية تصاعدت التهديدات الاميركية الساخنة، من اتهامها في سياق الحرب بتهريب معدات رؤية ليلية لخدمة المجهود الحربي العراقي، إلى اتهامها عكسياً بقبول أسلحة دمار شامل مهربة إليها من العراق، إلى اتهامها بتصدير متطوعين إلى العراق، إلى اتهامها - خبط لزق - بأنها دولة مارقة وإرهابية، إلى اتهامها بالتجرؤ على التصريح علناً بأنها - بعد عدوان إسرائيلي عليها قرب دمشق في الخامس من تشرين الأول أكتوبر الماضي - ستدافع عن نفسها لو تكرر العدوان. تدافع عن نفسها؟ وضد ضربات إسرائيلية؟ هذا كفر وزندقة في القاموس الأميركي الجديد. فالدول العربية - سورية أو غيرها - مهمتها الاميركية في الحياة هي أن تتلقى الضربات لا أن تصد الضربات. وحتى تكون "القواعد الجديدة" أميركياً واضحة للجميع فقد مررت الادارة الاميركية من مجلس النواب مشروعاً جديداً بمحاسبة سورية يهددها بالعقوبات وعظائم الأمور ما لم تستوف شروطاً خلاصتها النهائية في الواقع هي أن تقوم سورية بدعم استمرار الاحتلال الاميركي للعراق. وحتى لحظتها ستظهر طلبات أميركية جديدة وجديدة وجديدة... من سورية ومن غير سورية. بالعودة إلى الحرب على العراق نكتشف أن تعبئة الدعاية الاميركية راوحت بين ثلاثة أسباب: هناك أولاً حيازة العراق لأسلحة دمار شامل. وثانياً: خطر عاجل يمثله ضد الأمن القومي الاميركي. وثالثاً: حاجة لاستخدام العراق كمقدمة لإجراء تغييرات جذرية في كل الدول العربية. فنلاحظ هنا أن اسقاط النظام الحاكم في العراق لم يكن هدفاً ثابتاً في أي وقت مع أنه قائم رسمياً منذ سنة 1998 حينما أصدر الكونغرس الاميركي "قانون تحرير العراق". بل إن بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الاميركي، وهو نفسه أحد دعاة الحرب الاميركية في العراق منذ سنوات، صرح في حزيران يونيو الماضي في حوار مع مجلة "فانيتي فير" بقوله: "إن تحرير العراق من طاغية متوحش هو صدام حسين كان هدفاً أميركياً مهماً لكنه لم يكن سبباً كافياً نعرض من أجله حياة الجنود الاميركيين للخطر". إذن هل هي أسلحة الدمار الشامل؟ هكذا قيل مراراً وتكراراً قبل الحرب وبعدها، العالم كله شاهد جلسة علنية لمجلس الأمن الدولي في شباط فبراير الماضي صال فيها وجال كولن باول وزير الخارجية الاميركي مستخدماً بيانات وتسجيلات صوتية وصوراً بالأقمار الاصطناعية لكي يثبت امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل هذه. نووية وكيماوية وبيولوجية، في وقتها لاحظ خبير متمرس أن وزير الخارجية الاميركي حرص على أن يكون الجالس معه ضمن وفده بجلسة مجلس الأمن جورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. وهي خطوة غير مألوفة بالمرة. لكن الخبير المتمرس فسرها وقتها بأنها تحوط من كولن باول وإيحاء غير مباشر بأن مسؤولية فيما يقول ويعلن يتضامن معه فيها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. في الواقع تبين في ما بعد أنه بعكس المألوف تماماً كانت وكالة الاستخبارات المركزية هي التي تحذر الإدارة من بياناتها الجامحة عن أسلحة دمار شامل في العراق، بل أثبتت للإدارة مبكراً أن الحديث عن صفقة يورانيوم عراقية مع النيجر هو حديث ملفق بالكامل، تبين أيضاً أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الاميركي أقام في وزارته مكتباً خاصاً لتعديل التقارير الاستخباراتية لتتماشى مع أهداف ودعايات الإدارة. تبين كذلك أن ديك تشيني نائب الرئيس الاميركي ضغط بزيارات متكررة على وكالة الاستخبارات المركزية في خطوة غير مألوفة لتسييس تقاريرها بما يخدم تسويق الحرب في العراق. وكما كتب روبن كوك الوزير البريطاني المستقيل من حكومة توني بلير احتجاجاً على الحرب فإن المفارقة الكبرى هي أنه، بينما تتيح الاستخبارات للسياسيين معلومات محددة ليقرروا على أساسها الحرب من عدمه. فإن الذي جرى هو أن السياسيين قرروا الحرب من البداية ثم طلبوا من أجهزة استخباراتهم بعد ذلك التكيف مع القرار المسبق. والآن بعد سبعة أشهر من الحرب لم يعثر بالمرة على أسلحة دمار شامل، لا بمفتشين دوليين ولا بمفتشين خصوصيين ولا باحتلال اميركي كامل لكل العراق، العلماء العراقيون الذين جرى اعتقالهم لم يعد أحد يعرف شيئاً بالمرة عن مصيرهم، وكان كبيرهم حريصاً لحظة ذهابه لتسليم نفسه إلى سلطة الاحتلال على أن يؤكد من جديد أنه لا توجد لدى العراق أي أسلحة دمار شامل، المسألة لم تعد حتى مسألة علماء وأسلحة، إنما الذي أصبح على أميركا أن تكشفه أمام العالم هو نفسه بالضبط ما ادعته سابقاً في مجلس الأمن الدولي: إن لدى العراق خمسمئة طن من غاز الخردل و25 ألف لتر من الانثراكس و38 ألف لتر من التكوسين و984،29 من الذخائر الممنوعة القادرة على الضربات الكيماوية زائد 18 مصنعاً متنقلاً للحرب البيولوجية. إذن: هو الخطر العاجل على الأمن القومي الاميركي؟ بالأصول هنا لم يوجد أي خطر عراقي على الأمن القومي الاميركي. إنما بالإيماءات والإيحاءات المتفرقة بين وقت وآخر نجد أن للإدارة الاميركية مسعى مبكرا هو نقل قاعدة ارتكازها العسكرية في منطقة الخليج لكي يصبح في العراق ومن هناك تصبح أيضاً جزءاً عضوياً في معادلة البترول الاستراتيجية. وفي 23 آب أغسطس الماضي مثلاً قرأنا لخبير معتبر أن "الهدف الحقيقي للحرب في العراق هو السعودية". ومع أن الإدارة الاميركية تصدر بين وقت وآخر تصريحات ودودة نحو السعودية إلا أنها عملياً تسير منهجياً في اتجاه عسكي تماماً. إذن: المسألة هي استخدام العراق كمقدمة لتغيير كل المنطقة؟ الطلبات الاميركية هنا متواترة، صعوداً وهبوطاً، بالكلمات الخشنة والصياغات الديبلوماسية. بالضغوط والملاطفات. في حسابات الإدارة واقع تم نسجه عبر سنوات سابقة بما جعل القواعد العسكرية الاميركية موجودة حالياً في ثلث الدول العربية، وهناك ثلث آخر من الدول العربية موجود على قائمة العقوبات الاميركية أو في طريقه إليها والثلث الأخير إما أنه هامشي أو أنه مع اتجاه الريح. اتجاه القوة. في استخدام الإدارة الاميركية القوة - والقوة العسكرية أساساً - لم تكن هناك حاجة للتخمين أو الاستنتاج. هناك استراتيجية جديدة للأمن القومي أعلنتها الإدارة الاميركية رسمياً في أيلول سبتمبر 2002 رفعت فيها عصا التهديد في مواجهة العالم كله - حلفاء وخصوم. هناك مشروع امبراطوري واضح ولد كجنين في سنة 1992 بواسطة ديك تشيني وزير الدفاع وقتها وبول ولفوفيتز. وبعد أن جرى إخماد المشروع في حينها لأسباب موقتة عاد يطل برأسه في سنة 1996 عبر مذكرة جرى تقديمها إلى رئيس وزراء إسرائيل وقتها ثم في رسالة موجهة إلى الرئيس الاميركي وقتها بيل كلينتون وقع عليها 18 شخصية في مقدمهم دونالد رامسفيلد وبول وولفوفيتز وريتشارد بيرل، وهم الذين اصبحوا جزءاً من السلطة الحاكمة مع مجيء جورج بوش الابن إلى السلطة بعدها وارتفاع نجم "المحافظين الجدد" في السياسة الاميركية. في الواقع هؤلاء المحافظون الجدد.. لا هم محافظون، ولا هم جدد، هؤلاء مجرد راديكاليين مغرورين ومقامرين لديهم الكثير من الكلمات الطنانة والخفة وانعدام المسؤولية، ومشروعهم الامبراطوري ليس فقط انقلاباً على المحافظين التقليديين ولكنه أيضاً انقلاب على كل السياسة الخارجية الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية. ما سبق ليس رأيي، لكنه رأي محافظ اميركي تقليدي وجمهوري، كان هو نفسه من رجالات إدارة رونالد ريغان في الثمانينات ومسؤول المفاوضات التجارية مع اليابان. هل فاض به الكيل فنطق أخيراً عبر كتاب اصدره بعنوان "دولة مارقة: الانفراد الاميركي وفشل النيات الحسنة؟"، العنوان بذاته كاشف عن مضمون الكتاب بما يجعل الانتقادات الفرنسية والألمانية للسياسة الاميركية تبدو بالمقارنة متواضعة تماماً. لكن: لماذا الآن؟ ولماذا بتلك الصراحة؟ ومن قلب الفكر المحافظ داخل اميركا؟ الإجابة هنا مهمة ولازمة على ضوء حالة غير مسبوقة من التعتيم على النقد والمعارضة والحقائق فرضتها الإدارة الاميركية الحالية منذ 11 أيلول سبتمبر 2001 بحجة الوطنية والاحتشاد وراء الراية، حالة جندت الإدارة فيها الإعلام الاميركي بالكامل، والذي استجاب عن خوف أو مصلحة، إلى درجة أن عضواً بارزاً في مجلس الشيوخ الاميركي لم يستطع نشر رأيه المعارض للإدارة إلا عبر صفحة إعلانية مدفوعة الثمن في جريدة "النيويورك تايمز" جرى نشرها في التاسع من آذار مارس الماضي. لماذا الآن؟ لعشرة أسباب، أولها أن التكلفة الحقيقية للمشروع الامبراطوري الاميركي الجديد تتكشف يوماً بعد يوم، ولأن الملف العراقي لم يمكن إغلاقه بالحرب التي جرت، فاستلزم الأمر حرباً جديدة لما بعد الحرب، أما الأسباب الثمانية الأخرى، فلها قول آخر. * كاتب مصري.