تبدو بيروت هذه الأيام كأنها في عرس ثقافي تستعيد من خلاله بعضاً من مجدها واشعاعها اللذين عرفتهما قبل الحرب الأهلية كمدينة للمثقفين والمبدعين العرب. تستضيف العاصمة اللبنانية معرضين للكتاب هما: "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" السابع والأربعون ومعرض "اقرأ بالفرنسية والموسيقى"، وتستضيف محاضرات وندوات وعروض فيديو، يجمع معظمها نشاط "أشغال داخلية" الذي تنظمه جمعية "أشكال ألوان" للعام الثاني. بيروت في عرس ثقافي يشارك فيه شاعران كبيران هما أدونيس ومحمود درويش، الأول حلّ ضيفاً على "أشغال داخلية" مساء يوم الجمعة الماضي ملقياً محاضرة سجالية في عنوان قد يعكس ما يشغل المهتمين بالثقافة في بيروت ومدى تأثيرها وتطور انتاجها. سأل أدونيس في عنوان محاضرته: "بيروت اليوم أهي مدينة حقاً أم أنها مجرد اسم تاريخي". وتنتظر العاصمة اللبنانية محمود درويش في 10 تشرين الثاني نوفمبر المقبل موقعاً ديوانه "لا تعتذر عما فعلت" في إطار نشاطات معرض بيروت للكتاب. وكان من المتوقع أن يحضر الكاتب البرازيلي باولو كويهلو ليوقع روايته الأخيرة "11 دقيقة" في المعرض العربي لكنه اعتذر عن الحضور. عشرات الأمتار فقط تفصل بين المعرض الفرنكوفوني في مجمع "بيال" في وسط بيروت والمعرض العربي في قاعة "اكسبو بيروت" في منطقة عين المريسة، لكن هذه المسافة الجغرافية الضيقة لم تنجح في اختصار مسافة كبيرة تفصل بين عالمي هذين المعرضين. روادهما المشتركون كثر طبعاً، وكثيرة هي أيضاً "الهموم" المشتركة بينهما والناتجة من تدني عدد القرّاء في لبنان. ولكن لكل منهما هوية هي مرآة "هويات" اللبنانيين وأهوائهم "الثقافية" المرتبطة بأساليب عيش مختلفة في المظهر. المعرض العربي موعد سنوي تنتظره بيروت كواحد من طقوسها التي لا غنى عنها، موعد "للقاء" مع الكتاب والأصدقاء المهتمين به والمترحمين على أيام عزه. إنه موعد دائم على رغم تراجع عدد القراء وعدد الكتب الجديدة التي تصدر كل سنة، وعلى رغم تربع كتاب متخصص في الطبخ على رأس قائمة الأكثر مبيعاً لأكثر من سنة، وعلى رغم الصرخة التي يطلقها صحافيون كل عام حين يكتبون عن المعرض سائلين "من يشتري الكتاب؟". الحركة تؤكد - بشكل أو بآخر - ان المعرض لا يزال من المواسم الثقافية الأبرز في لبنان. أناس يلتقون في ممراته بعد انقطاع دام منذ العام الفائت أي دورة المعرض الفائتة، ومهتمون ينتظرونه لما يمكن أن يقدم من جديد ولأسعاره المخفّضة نسبياً، وشبان وصبايا وشعراء ومثقفون وفنانون وطلاب جامعات ومدارس وسواهم. تشارك في هذه الدورة من المعرض الذي يستمر الى الأحد 16 تشرين الثاني 172 دار نشر ومكتبة ومؤسسة من لبنان والعالم العربي وأوروبا ألمانية تحديداً من خلال مشاركة مؤسسة معرض فرانكفورت للكتاب، ولم تصدر عن إدارة المعرض منشورات مفصلة عن الإصدارات الجديدة التي تعرضها الدور المشاركة. لكن بعض هذه الدور أصدر كتيبات عن منشوراته، وعن الجديد منها. عند المدخل يقابل جناح دار "رياض الريس للكتب والنشر" الزائر، المكان جميل ومرتب على رغم "العجقة" الدائمة فيه، برنامج التواقيع فيه غني، وهذه الدار تحرص دائماً على تقديم تجارب شابة في الرواية والسياسة الى جانب أسماء المخضرمين كمحمود درويش وفواز طرابلسي وإلهام منصور. دار "الساقي" تقدم ديواني أدونيس الجديدين "تنبأ أيها الأعمى" و"أول الجسد آخر البحر" وقد وقع صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" ديوانه في "مسرح المدينة". وفي "دار الآداب" كتب ودراسات كثيرة عن المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، إضافة الى روايات جديدة من لبنان ومصر والمغرب. اما المؤسسة العربية للدراسات والنشر فتقدم الكثير من الكتب العربية الجديدة وفي حقول مختلفة. ومن الأمور اللافتة في المعرض هذا العام الحضور الألماني، إذ تشارك فيه نحو 20 دار ألمانية وتنظم بعض النشاطات والحوارات. ماذا يشتري زائرو المعرض؟ هؤلاء، وإن قلَّ عددهم في صورة ما عمّا كان يشهده المعرض قبل سنوات فلا يزالون كثراً، على أن الذين يشترون كتباً ليسوا غالبية ساحقة. وعند سؤال بعض الزوار منهم يشكون قلة الإصدارات الجديدة، والحال الاقتصادية المتردية، والشبان منهم متضايقون مما يصفونه ب"شبه غياب" للاصدارات حول المواضيع التي تهمهم. هؤلاء الشبان، - بأعداد كبيرة - يبحثون عن كتب حول الانترنت والتكنولوجيا والاتصالات الحديثة، لذا تراهم يتجمعون في جناح مكتبة مالك المتخصصة في الكتب الجامعية والعلمية. ويلتقي المتجول في المعرض بفئة صارت نادرة في لبنان يمكن تسميتها بفئة "القارئ النهم". هؤلاء يجعلون من موعد المعرض عيداً يحتفون به، يخرجون، على رغم التذمر من قلة ما هو جديد، وهم يحملون أكياساً كبيرة مملوءة بالكتب. في "بيال" القاعة الضخمة الواسعة قرب البحر يُقام هذه السنة معرض "اقرأ بالفرنسية وبالموسيقى". أناقة هذا المعرض لافتة جداً، سجاد موكيت أزرق تنعكس عليه إضاءة جميلة وصور ورسوم كبيرة تتدلى فوق بعض الأجنحة التي عرفت كيف تعرض كتبها بأسلوب يجذب الزائر إليها. أجنحة واسعة، شديدة الترتيب، عند المدخل جناح مفتوح عن "عطور مصر القديمة" تتوزع على طاولات بين صور كبيرة عن الحضارة الفرعونية. وعلى بعد خطوات تُستعاد ذكرى المغني جاك بريل من خلال صور وقصص مصورة مستوحاة من أغانيه. ولبعض وسائل الإعلام الفرنكوفونية أجنحة في المعرض، الى جانب أجنحة دور النشر والمكتبات الكبرى ومكتبات الاسطوانات الموسيقية. ويبلغ عدد دور النشر والمكتبات المشاركة 43، تضاف اليها أجنحة مخصصة لوسائل اعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة وأجنحة لمتاجر شهيرة وأخرى لمحبي الشبكة العنكبوتية يتحلقون حول أجهزة الكومبيوتر الموزعة على طاولات متناثرة في مساحة واسعة. في الممرات، أحاديث تختلط فيها العربية بالفرنسية التي تُقال بلهجة اللبنانيين ال"سنوب"، وهؤلاء يتابعون أجهزة التلفزة المعلقة على الحيطان تعرض مسرحيات أو أفلاماً فرنسية. الطابع الاحتفالي أكثر حضوراً في المعرض الفرنسي منه في المعرض العربي، وقلة دور النشر لا تعني أبداً أن الاصدارات الجديدة قليلة، فالإنتاج الثقافي الفرنسي أو الفرنكوفوني لا يعاني الأزمة التي تثقل كاهل الثقافة العربية المعاصرة. وبرنامج الندوات واللقاءات في هذا المعرض غني جداً. فإصرار الفرنسيين على تكريس حضورهم الثقافي في العالم واضح على رغم علمهم بأن هذا الحضور تراجع كثيراً في لبنان لمصلحة الطغيان الانغلوفوني. وفي هذا الإطار يحسب لمعرض "اقرأ بالفرنسية وبالموسيقى" تقديمه كتاباً فرنسيين مجددين. في افتتاح المعرض هذه السنة قال السفير الفرنسي في بيروت فيليب لوكورتيه إن عدد الزوار بلغ العام الفائت 85 ألفاً، ويتوقع المتابعون أن يكون الزوار كثراً هذا العام أيضاً. وعلى رغم عدم صدور احصاءات عن عدد المبيعات، فإن ثمة انطباعاً بأنها ليست مرتفعة لسببين، الأول متعلق بتراجع "الذائقة الفرنسية" في لبنان أو الانجذاب الى ما هو فرنسي، على رغم أن الإصدارات الفرنسية في شكل عام ذات قيمة ثقافية وفكرية وأدبية، والثاني يعود إلى ارتفاع أسعار هذه الكتب مقارنة بالكتب العربية أو الصادرة في بيروت.