قد تكون القمة الفرنكوفونية التاسعة التي تبدأ غداً في بيروت خير مناسبة لقراءة حال الثقافة الفرنكوفونية في لبنان، خصوصاً بعد الصراع الذي نشب، قبل سنوات، ولا يزال قائماً بينها وبين الثقافة الانغولوفونية. ليست الثقافة الفرنكوفونية اللبنانية في احسن احوالها الآن، لكنها نجحت في الآونة الاخيرة في استرداد مكانتها التي اهتزت بعد انتهاء الحرب الاهلية وبُعيد انتشار الانترنت وسواه من وسائل المعرفة والاتصال الاميركية الهوية. فمنذ مطلع التسعينات حتى اواسطها تراجع مبيع الكتاب الفرنسي قرابة 40 في المئة تبعاً لتراجع اللغة الفرنسية كلغة للتحصيل العلمي والثقافة. حينذاك عمدت مؤسسة "أف أم أ" الفرنكوفونية التي يديرها مراسل صحيفة "لوموند" في لبنان الى اعادة طبع الكتب الفرنسية التي تصدر في باريس عملاً باتفاق مع دور النشر المعنية بالفرنكوفونية. وكان على هذه الكتب ان تغزو السوق اللبنانية وبعض الاسواق المشرقية عبر اسعار رمزية. وتوجه هذا المشروع ببادرة طبع نسخة اسبوعية من صحيفة "لوموند" اليومية تضم المقالات والاخبار والتحقيقات التي تُعنى بالشؤون العربية والشرق اوسطية. ولكن لم تمضِ سنوات على مشروع الطباعة المشتركة بين فرنساولبنان حتى توقفت الكتب عن الصدور وحلت محلها كتب لبنانية باللغة الفرنسية. اما السبب فهو استعادة بيروت دورها كمركز للكتاب الصادر في فرنسا، فبعد التراجع الذي شهده الكتاب الفرنسي عرفت السوق اللبنانية قدراً من الانتعاش. فالقراء الفرنكوفونيون ما زالوا موجودين وعادة القراءة بالفرنسية لم تؤثر عليها كثيراً ثورة المعلوماتية بكل اشكالها الثقافية والاعلامية. ولم يستطع الكتاب الانكليزي ان يزاحم الكتاب الفرنسي نظراً الى انحصار اللغة الانكليزية في الاوساط الجامعية والعلمية والاقتصادية والاعلامية. معرض الكتاب الفرنسي بات ظاهرة سنوية تؤكد نهضة الكتاب الفرنسي من كبوته على رغم الضائقة المالية والتدهور الاقتصادي اللذين دفعا عدداً غير قليل من المكتبات الفرنكوفونية الى الاقفال ومنها مثلاً مكتبة طرزي العريقة في هذا الحقل ومكتبة "غالاكسي" و"ركتوفرسو" وسواها. لكن احصاءات معرض الكتاب الفرنسي تدل الى ازدياد الزائرين مئة ألف في المعرض الاخير من غير ان يعني إقبالاً على الشراء. فالزائرون ليسوا جميعاً من المشترين ولعل المهمة التي يؤديها المركز الثقافي الفرنسي والبعثة الثقافية الفرنسية قد تكون ساهمت في تحقيق هذا التقدم ثقافياً وأدبياً وفنياً، فالمعرض يغدو كل سنة موعداً شبه احتفالي بالأدب الفرنسي الحديث والثقافة الفرنسية عموماً. لكن جولة سريعة على واجهات المكتبات الفرنسية الصامدة وعلى العناوين التي تحفل بها تبين ان نوعية الكتاب الفرنسي تبدلت كمؤشر الى تبدل ذائقة القارئ وثقافته كذلك. فالمكتبات البيروتية التي كانت تنافس بعض الاسواق الفرنسية والفرنكوفونية في تقديم جديد المطابع الفرنسية وفي اختيار اهم الكتب في كل الحقول اصبحت تكتفي الآن بالكتب الرائجة سياسياً او اقتصادياً وبالروايات الموسمية والكتب المتخصصة والجامعية والتقنية، وبات من الصعب على قارئ الادب والنقد والفلسفة والشعر وسواها ان يجد ضالته، عطفاً على كون هذا القارئ من اكثر المتضررين مالياً لانتمائه الى الطبقة الوسطى التي تكاد تنحسر. تواجه اللغة الفرنسية في لبنان كما في المشرق العربي الفرنكوفوني ما يشبه الهجوم الشرس وعلى مستويات كثيرة، الجامعات الفرنكوفونية الكثيرة في لبنان وفي طليعتها جامعة القديس يوسف اضطرت الى إدخال الانكليزية في برامجها، فيما لم تعمد جامعة كالأميركية مثلاً الى الالتفات الى اللغة الفرنسية. وهذا يشير الى ميل الطلاب الجدد الى اللغة الانكليزية التي تتيح لهم التواصل مع ثورة العصر والعولمة. فالانترنت والكومبيوتر وسواهما يقتضيان الالمام بالانكليزية، إضافة الى مراكز المعلومات والمراجع العلمية والمعرفية. وقد يشعر الذين يجيدون الفرنسية فقط بشيء من الغربة او "الانكفاء" في عالم اصبحت الانكليزية لغته المعرفية ووسيلة التواصل فيه. لكن هذا لن يعني قط انحسار الثقافة الفرنسية في بلد مثل لبنان. فاللغة شيء والثقافة شيء آخر. وازدهار اللغة الانكليزية لا يعني في اي حال ازدهاراً للثقافة الانكليزية. اللغة الانكليزية تكاد تطغى على الفرنسية، لكن الثقافة الفرنسية ما زالت المرجع الرئيس في لبنان. هكذا مثلاً لا توجد في لبنان سوق للكتاب الانكليزي، اما المكتبات التي تعنى بهذا الكتاب فهي قليلة وضئيلة الحركة والبيع، فيما المكتبات الفرنسية حاضرة بشدة وكذلك المعارض التي تقام في بعض المدن والمناطق. ستظل الثقافة الفرنسية في لبنان هي المرجع الاول والاخير، كونها ذات، رسالة حضارية قائمة على الحوار والحرية والتسامح والاعتراف بالآخر وخصوصاً بعدما تحررت من إرثها "الكولونيالي" الذي كان شديد الوطأة. أما السؤال الذي يطرح الآن فهو: هل ستتعلم الدولة اللبنانية اليسير من المبادئ التي تقوم عليها الفرنكوفونية كالحوار والعدل والحرية واحترام الآخر أياً يكن رأيه وموقعه...؟