«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استقبال الغرب في النقد العربي الحديث . وجوه من قلق الثقافة العربية الحديثة في "مواجهة" المعطى الغربي بفلسفاته وعلومه 1 من 3
نشر في الحياة يوم 30 - 11 - 2003

في لقاء أجري معه قبيل وفاته، استذكر الناقد المصري لويس عوض علاقته بمشاهير الكتب العرب في عصره ليقيم نفسه في ضوء تلك العلاقة. غير ان تقويمه جاء أيضاً بمثابة تقويم، وإن كان شديد الاقتضاب، ليس لمن أشار اليهم فحسب وإنما أيضاً لجوانب مهمة من التاريخ الحديث لتطور الثقافة العربية. يقول عوض: أما أنا فكنت أعاني من البلبلة بطريقة أخرى هي التناقض بين العقاد وسلامة موسى وطه حسين. فقد تواجد الثلاثة معاً وقد احطتهم بدرجة عالية من التقدير. هكذا وجدتني حيناً رومانسياً يترجم شيلي، وحيناً عقلانياً ديكارتياً، وحيناً ثالثاً يسارياً أوروبياً من القرن الماضي. مجلة "أدب ونقد" - القاهرة، أيار / مايو 1990.
ما يلفت النظر هنا ليس تأرجح عوض، أو بلبلته، بين ثلاثة كتاب عرب او ثلاثة توجهات عربية، وإنما بين ثلاثة توجهات تنتمي في حقيقة الأمر الى غير العرب ويمثلها أولئك الكتّاب. فالكتاب العرب أنفسهم ينطلقون، بحسب تصنيف عوض، إما من خلفية رومانسية انكليزية العقاد، أو عقلانية فرنسية طه حسين، أو يسارية ماركسية/ أوروبية سلامة موسى، ليلتقي الجمع عند خلفية واحدة هي الخلفية الأوروبية/ الغربية التي تجمع الرومانسي والعقلاني واليساري. انها الصورة البارزة للثقافة العربية منذ القرن التاسع عشر، وليس عوض سوى واحد من مثقفين ونقاد كثر عاشوا البلبلة نفسها وما زالوا.
أحد أولئك المثقفين النقاد هي اللبنانية يمنى العيد التي تنتمي الى جيل أصغر من جيل عوض. ففي كتابها المعروف "في معرفة النص" دار الآفاق الجديدة - بيروت 1983 عبرت العيد عن شعور مشابه بالاضطراب في النقد العربي الحديث. جاء ذلك ضمن حديثها عن المناهج النقدية الغربية التي يتبناها كثير من النقاد العرب دونما مساءلة. تقول يمنى العيد إن تلك "مناهج ما زالت هي نفسها تطرح علامات استفهام على بعض أسسها احياناً وعلى وظيفتها أحياناً أخرى. أي ان هذه المناهج ما زالت، بدورها، محاولات، على رغم الخطوات الكبرى والمهمة التي خطتها". ومن هذا المنطلق تصل الناقدة الى النتيجة التالية فيما يتصل بالنقد العربي الحديث: وهذا ما يضع نقدنا الحديث، المستفيد من هذه المناهج، في موضع القلق والاضطراب الدائمين، ويفرض عليه، للخروج من هذا الموضع، العمل على تأسيس فكر علمي في ثقافتنا قادر على المساهمة في انتاج مناهج نقدية علمية لها صفة الكونية...
غير ان البلبلة والاضطراب اللذين يشير اليهما عوض والعيد غير مقصورين على النقد الأدبي العربي، وإنما هما الى حد كبير من سمات الثقافة العربية المعاصرة في مواجهتها للمعطى الثقافي الغربي بفلسفاته وعلومه وما يتداخل بتلك الفلسفات والعلوم ويصدر عنها من تيارات ونظريات ومفاهيم وأفكار، وهي ضمن ذلك قصة النقد الأدبي العربي، اذ ينتظم في سلك الثقافة يحمل سماتها ويعبر عن طموحاتها ويواجه مآزقها في الآن نفسه. ونحن هنا في محاولة للوقوف على هذه الجوانب، السمات الى جانب الطموحات والمآزق، بصفة هذه كلها صورة للنقد الأدبي العربي في تطوره وسعيه لتحقيق قدر أعلى من النضج الفكري والتذوقي في تعامله مع الظاهرة الأدبية خصوصاً والثقافية عموماً. غير ان بؤرة البحث والتحليل الممكنة في حيز كهذا لا تتسع لمختلف جوانب الصورة المتعلقة بالنقد الأدبي العربي الحديث، فثمة مسألة محددة تشغل هذا البحث ويمكن صوغها في شكل أطروحة تقوم على النقاط الآتية:
أولاً: ان واقع النقد العربي الحديث ليس في نهاية المطاف سوى جزء من واقع الثقافة العربية عموماً، وان كثيراً مما يصدق هنا يصدق هناك.
ثانياً: ان النقد العربي الحديث حقق الكثير من الانجازات عبر علاقته الطويلة بالنقد الغربي، ولكنه أيضاً واجه من المآزق والإخفاق ما قد يفوق ما واجهه أو حققه من النجاح.
ثالثاً: ان قراءة النقد العربي الحديث من الزاوية المقترحة يتضمن تأملاً في مشكلات المثقافة مع الآخر في شكل عام، من حيث تعد تلك المثاقفة اشكالية كبرى لثقافات أخرى كثيرة في أنحاء العالم المختلفة.
العنوان الذي تحمله هذه الملاحظات يحاول اختزال الاشكالية المشار اليها، من حيث هو أيضاً يتضمن الاطروحة الأساسية، فاستقبال الآخر، او استقبال الغرب - لأنه هو "الآخر" هنا - يتضمن دلالتين للاستقبال، إحداهما الاصطلاحية الشائعة في الدراسات النقدية المقارنة بوجه خاص، اي كيفية تلقي فكر أو اعمال أدبية أو تيار أو غير ذلك مما ينتمي الى ثقافة ما من قبل ثقافة أخرى، كما في قولنا "استقبال شكسبير في الأدب العربي"، أي كيفية تناول شكسبير وفهمه وتوظيف اعماله أو ما أحدثته تلك الأعمال من تأثير في الأدب الذي ترجمت اليه.
أما الدلالة الأخرى والتي تعبر عن جانب اكثر اشكالية، ومن ثم إثارة للاختلاف، فهي التي تشير الى الاستقبال بالمعنى الفقهي الاسلامي، أي اتخاذ الجهة او المكان قبلة كما في الصلاة، بما يتضمنه ذلك من تقديس أو اضفاء هالة من الاحترام والاعجاب. والمقصود هنا ان موقف كثير من النقاد العرب إزاء الثقافة الغربية لم يخرج عن ذلك الاعجاب بأوروبا الذي عبر عنه بعض الرواد في عصر النهضة ممن يعرفون أحياناً بالتنويريين مثل الطهطاوي وشبلي شميل وأحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم. ولعل المثال الأقرب لذلك الاعجاب ما قاله طه حسين في تبريره للإفادة من المنهج الديكارتي في كتابه الشهير في الشعر الجاهلي حين اكد اننا كعرب "سواء رضينا ام كرهنا فلا بد لنا من ان نتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر به من قبلنا أهل الغرب... ذلك ان عقليتنا قد اخذت منذ عشرات السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل أقرب الى الغربية منها الى الشرقية". ثمة شعور ملح هنا ليس بحتمية الاتجاه نحو الغرب فحسب، وإنما بأن ذلك الاتجاه لا ينطوي على اي جانب اشكالي فلا داعي للقلق. مثال آخر نجده في قول عبدالله العروي انه لكي يتجاوز العرب شتاتهم الفكري والثقافي لا بد لهم "من اللجوء الى نظام فكري متكامل يجمع بين الأقسام المعتمدة. والماركسية في ذلك النظام المنشود الذي يزودنا بمنطق العالم الحديث...". العرب والفكر التنويري - دار التنوير ودار المركز الثقافي العربي - 1983.
حتمية الاتجاه نحو الغرب هو ما لا يكاد يختلف عليه أحد، وهو ما يحقق الاستقبال بالمعنى الأول، فالغرب حاضر في ثقافتنا وسيظل حاضراً لأمد قد يطول، لكن ان يكون ذلك الحضور غير مقلق هو ما ينشأ بسببه الاختلاف. ومصدر القلق ليس بالضرورة الرغبة في عدم استقبال الآخر، او العزلة الثقافية، وإنما هو ناتج من الاحساس بأن ما يقدمه الآخر ينطوي على جانبين:
الأول، ان استقبال الآخر كثيراً ما يتحول الى نوع من الاستهلاك او التهالك الذي يؤدي الى ضمور القدرة على الابداع، نتيجة للاعتماد على جاهزية المعطى الغربي.
الثاني، ان ما يمكن استقباله من الآخر يتضمن ما يوجب الرفض وما يوجب القبول في الوقت نفسه، وان العلاقة الثقافية لا تخلو من الاثنين معاً.
على هذا الأساس، كان التوجه هنا الى أشكلة العلاقة بالثقافة الغربية أو تأزيمها، اي ابراز جوانبها الاشكالية المتأزمة، وهو توجه معروف تنتظمه العلاقات العبرثقافية بشكل عام وطرقه وفصل فيه الكثير من الباحثين والمفكرين من عرب وغربيين ومن مناطق اخرى كثيرة من العالم، وفي مجالات كثيرة من مجالات البحث والتفكير. وسبب اعادة الحديث حوله هو انه لا يزال هناك من يبسط العلاقة بالمعطى الثقافي الغربي ويحتاج من ثم الى تذكير بجوانب الاشكالية مع تفصيل يتوخى منه الاقناع. يقول كمال عبداللطيف، الباحث التونسي في مال الدراسات الاجتماعية والفلسفية، في تحليله لتاريخ المثاقفة العربية مع الغرب وما اتسمت به منذ القرن الماضي:
فمن المعروف ان زمن المثاقفة الحاصلة في العالم العربي، منذ منتصف القرن الماضي، والى يومنا هذا، قد اتسم بطغيان الهيمنة الغربية في مختلف مجالات الوجود المجتمعي، في الاقتصاد والسياسة والتقنية. وكان لهذه المسألة اثرها القوي في المستوى الفكري، مما ولد مواقف فكرية حادة ومتقاطعة، كما ولد الانتقائية والازدواجية، وهما ملمحان بارزان في الخطاب العربي المعاصر. قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة - بيروت: دار الطليعة، 1994.
في الاتجاه نفسه يقول السيد الحسيني، وهو باحث مصري في علم الاجتماع، في بحث له حول "التبعية الفكرية والاستقلال المعرفي"، ان الفكر في العالم الثالث واقع تحت هيمنة ما يعرف ب"العقل السليب" الذي هو نتاج لمؤسسات جامعية غربية الفكر، وأنماط تفكير غير نقدية، وعجز فكري عن اقامة حوار بناء مع الواقع الاجتماعي والثقافي في تلك الأقطار. وهكذا تصبح مهمة العلوم الاجتماعية في العالم الثالث، هي اعادة انتاج القيم الغربية بما في ذلك نماذج التنمية ذاتها". ويستشهد بما توصل اليه باحثون كثر في مجالات بحثية متعددة، منهم طلال أسد، الانثروبولوجي المعروف، من ان العلوم في بلاد العالم الثالث تحمل سمات تؤكد خضوعها للمقولات الاستعمارية: "ومن بين تلك الملامح الاستخدام غير النقدي للنظريات الغربية والعجز عن تكوين رؤية مستقلة للواقع المحلي، والانبهار الشديد بنموذج العلم الغربي ومحاكاته من دون إدراك عميق للخصوصيات القومية. "التبعية الثقافية" مفاهيم وأبعاد تحرير: "امينة رشيد - القاهرة: بحوث ندوة مركز البحوث العربية - 1999.
الخصوصيات المشار إليها هي ما أدركه نقاد ومفكرون غربيون كثر، كما نجد لدى الناقد الأميركي المعروف ج.هلس ملر في بحث له حول النظرية في النقد الأدبي جاء ضمن كتاب يشير عنوانه الى قضية اساسية من قضايا الاختلاف الثقافي هي "قابلية الثقافات للترجمة". في بحثه يتناول ملر تلك القضية مع باحثين آخرين ويطرح من خلالها رؤيته في شأن قابلية النظرية للانتقال من ثقافة الى اخرى. يقول الناقد الأميركي ان النظرية حين تطرح لتفسير ظاهرة ادبية معينة فإنما تطرح ضمن شروط تاريخية وثقافية محددة تجعل من الصعب نقلها كما هي: "على رغم ان النظرية قد تبدو موضوعية وعالمية مثل اي اختراع تقني، فإنها في حقيقة الأمر تنمو في مكان وزمان وثقافة ولغة محددة، وتبقى مربوطة الى ذلك المكان واللغة. The Translatability of Cultures: Figurations of the Space Between Sanford Budick and Wolfgang Iser cds. Stanford: Stanford UP, 1996 P.210.. هذه الخصوصية ذات الجذور الثلاثة في المكان والزمان والثقافة لا تودي الى جعل النظرية غير قابلة للانتقال او منغلقة على بيئة واحدة، وإنما، كما يقول ملر، تجعل عملية نقلها صعبة من ناحية، ومؤدية بالضرورة الى تغييرات تصيبها هي من ناحية فلا تعود كما كانت، وتصيب الثقافة التي تنتقل إليها، من ناحية اخرى، بتغيرات يمكن ملاحظتها.
اللافت للأمر هو ان الناقد الأميركي لا يقيد مجال انطباق نظريته ضمن ثقافات متباعدة، كما هو المتوقع، وإنما يشير الى ثقافات تعد شديدة التقارب مثل الثقافتين الفرنسية والأميركية اللتين تشتركان في جذور واحدة وتنتظمهما روابط ثقافية متجانسة الى حد كبير. فهو يضرب مثالاً توضيحياً من نفسه هو حين تبنى، في فترتين متباعدتين من نشاطه النقدي، منهجين نقديين مختلفين كل الاختلاف، هما الظاهراتي الفينومينولوجي والتقويضي التفكيكي اللذين طورهما، على التوالي بحسب ملر، الفرنسيان جورج بوليه وجاك ديريدا. "مع انني قرأت بوليه وديريدا بلغتهما الأصلية"، يقول ملر، "فإنني ترجمتهما الى طريقتي في التعبير، وبذلك جعلتهما مفيدين لعملي سواء التدريسي او التأليفي حول الأدب الإنكليزي ضمن سياقي الخاص في جامعة اميركية. وهذا السياق شديد الاختلاف عن السياقين الفكريين الأوروبيين اللذين كتب بوليه وديريدا من خلالهما". المرجع السابق. لكن اذا كان كل هذا الاختلاف موجود بين ما هو اوروبي وما هو اميركي، بين سياقين شديدي التجانس، فكيف بالاختلاف بين ثقافتين متغايرتين في امور جذرية، كما هي الحال بين ثقافتين احداهما من الشرق والأخرى من الغرب؟
بولين يو، استاذة الأدب الصيني في جامعة كولومبيا الأميركية، تقف عند ذلك الاختلاف في دراسة لها بعنوان "آثار الاغتراب: الأدب المقارن والموروث الصيني"، وتطرح الأزمة النقدية الناتجة من توظيف النظريات والمناهج النقدية الغربية على الأدب الصيني:
معظم المقاربات الغربي، من النقد الجديد فصاعداً، لا مقابل لها في الموروث النقدي الصيني، وتتأسس على مجموعة من الفرضيات الفلسفية والأدبية المختلفة، ما يجعل من الممكن نبذها بصفتها غير ذات صلة في افضل الأحوال، او استعمارية ثقافياً في اسوأها.
في مقابل هذا الطرح هناك، كما هو معروف، طرح آخر يرى ان ما تشير إليه يو بالفرضيات الفلسفية والأدبية إنما هي "مشتركات" او موروث انساني عام ومشترك ويمكن من ثم لجميع الثاقفات ان تفيد منه من دون قيود. ولكن يو التي تدرك وجود مثل ذلك الطرح تدر عليه من منطلق معرفتها بالأدب الصيني، فتقول: "عند التدقيق يتضح ان "المشتركات" الأدبية، من دون اختلاف يذكر، مشتركات غربية"، والمشكلة، كما تقول، هي ان البحث في تلك المشتركات او الكونيات، او الانطلاق منها كفرضيات، يفرض على الباحث ان يبرر منحى محدد والإجابة عن اسئلة محددة. وتضرب يو لذلك مثلاً بالإشارة الى اضطرار الباحثين الذين ينطلقون من تلك المشتركات الى "تبرير لماذا يفتقر الأدب الصيني الى المأساة والمحكمة، او، في الاتجاه المعاكس، تبرير لماذا تطورات اخيراً ولكن خفية. "والنتيجة الطبيعية لذلك التوجه هي "تبخر الكثير من الاختلافات المهمة... في جوهر الأشكال والأنواع". Pauline Yu, زAlienation Effects: Comparative Literature and the Chinese Traditionس, The Comparative Perspective on Literature: Approaches and Practice, Clayton Koelb and Susan Noakes, cds. Ithaca and London: Cornell University, 1988 p. 163..
سيتذكر النقاد العرب، لا سيما المختصون في الدراسات المقارنة، ان الإشكالية التي تشير إليها بولين يو هي ما يتكرر في بعض الدراسات النقدية العربية، المقارنة منها بوجه خاص، كما عند محمد غنيمي هلال، مثلاً. ففي كتابه التأسيسي في التعريف بالأدب المقارن، او بالأحرى الدراسات المقارنة كما تطورت في الغرب حتى 1953، تاريخ تأليف الكتاب، يستعرض هلال تطور المسرحية منذ اليونانيين ليتوقف عند الأدب العربي القديم فيقول:
ولم يعرف الأدب العربي القديم المسرحيات، ولا فن التمثيل كما هو في العصر الحديث او قريب منه، إذ ظل محصوراً في نطاق الشعر الغنائي وأدب الرسائل والخطب. وعلى رغم معرفة العرب آثار اليونانيين الفكرية، وعلى رغم ترجمتهم ارسطو، فإنهم لم يحاولوا احتذاء اليونانيين في التمثيل، ولا ترجمة شيء من مسرحياتهم.
ولعل هذا هو اهم سبب من اسباب اخطاء العرب الكثيرة في ترجمتهم كتاب "أرسطو": "فن الشعر"، ولذا لم يتأثر به النقد العربي تأثراً كبيراً، ولم ينصرف به من العناية بالشعر الغنائي الى غيره من اجناس الأدب الموضوعية. الأدب المقارن - بيروت: دار الثقافة ودار العودة.
هذا التقويم للأدب العربي على اساس من نموذج ثقافي مختلف هو النتيجة المباشرة لتحول المنتج الثقافي الآخر وقيمه ومناهج البحث فيه الى اساس للتقويم، كأنما هو اصل الأشياء، مما يؤدي كما تقول المختصة بالأدب الصيني، الى تحول الدرس المقارن في هذه الحال الى ممارسة نقدية وبحثية تتوارى فيها الاختلافات الثقافية ويبرز التمركز الثقافي الغربي.
احد ابرز الباحثين الأميركيين في الأدب المقارن، أوين ألدرج، توقف متعجباً إزاء هذه الظاهرة في الآداب الآسيوية في معرض نقده لما تبين له من تحيز في الدراسات الأدبية المقارنة في الغرب. فالتحيز الذي يمارسه النقاد الغربيون إزاء آسيا وافريقيا حين يهمشون آداب تلكما القارتين، والذي يثير الاستغراب بحد ذاته، يصير اكثر غرابة حين يصدر عن نقاد قادمين من اداب آسيا وافريقيا نفسها، "في الشرق، كان المسعى الأكثر شيوعاً هو تطبيق النظريات النقدية الغربية على الكتابات الشرقية. غير انه لسوء الحظ لا يستطيع المنهج في احد نصفي الكرة الأرضية ان يمنح القراء ما يكفي من الإحساس للتعرف على المناخ الأدبي في النصف الآخر". A. Owen Aldridge, The Reemergence of World Literature: A Study of Asia and the West Newark: U of Delaware p, 1986.. ويستشهد الناقد الأميركي بالشكوى الساخرة والمرة التي وردت في رواية للكاتب الصيني تشيان تشونغ شو عنوانها الحصن محاصراً، إزاء تغريب الأدب الصيني بعد تغريب غيره من حقول الثقافة في الصين:
قد يبدو من غير المعقول الى حد ما ان يذهب احد خارج الصين لمواصلة دراسته العليا في اللغة الصينية. بيد ان الحقيقة هي ان دارسي الأدب الصيني هم فقط الذين يتوجب عليهم الدراسة في الخارج، لأن كل الموضوعات الأخرى مثل الرياضيات والفيزياء والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والقانون، التي استوردت من الخارج، قد تغربت. الأدب الصيني، المنتج المحلي الوحيد، هو الذي ما يزال بحاجة الى علامة تجارية اجنبية مسجلة لكي يمتلك علامته الخاصة به المرجع السابق.
إننا إذاً إزاء إشكالية تواجهها الثقافة العربية مثلما تواجهها ثقافات اخرى في انحاء العالم، والناقد او الباحث العربي ملزم بمواجهة الواقع وليس الالتفاف عليه بوعي ناقص او بمقولات فضفاضة وغير مختبرة، مثل "عالمية النظريات" او "الموروث الإنساني المشترك" أو "المناهج المتاحة للجميع"، او بدعوى انها نتاج علمي متجاوز لمؤثرات الإيديولوجيا، الى غير ذلك من الحلول السهلة التي تسهل القفز فوق حقائق الاختلاف وصعوبات الأقلمة والتوطين.
إن ما يقودنا إليه هذا التحليل هو ان المثاقفة حتمية، لا سيما في ظروفنا العربية، العالمثالثية، الحاضرة، لكنها مثاقفة لا تتحقق تلقائياً، وحين نكتشف ما تنطوي عليه من مشاكل، فإنه ينبغي ان نكتشف ايضاً انها لا تقبل الحلول السهلة التي يضعها او يتقبلها ضمناً بعض النقاد والباحثين العرب حين يتبنون مناهجاً ومفاهيماً ونظريات طورت في فرنسا او ألمانيا او الولايات المتحدة كما لو كانت صالحة لكل زمان ومكان بعيداً من المؤثرات الإيديولوجية. يتضح ذلك الفهم، ومن ثم الخلل، في التصور التالي لأحد النقاد العرب البارزين لطبيعة النظرية نفسها التي رأينا قبل قليل كيف يفهمها الناقد الأميركي ج. هلس ملر. يتحدث الناقد العربي، وهو جابر عصفور، عن "النظرية من حيث هي تركيب فكري شامل، يقوم على التجريد والتعميم، ويهدف الى تفسير اكثر عدد ممكن من الظواهر في مجال بعينه، بعيداً من المعنى الضيق لزمان النشأة ومكانها" جابر عصفور: "تسمية النظرية"، جريدة "الحياة" - الاثنين 3 ايار/ مايو 1998. ولكي يثبت ما في تصوره من دقة وصحة يذهب عصفور الى الشواهد التالية مستمداً إياها من تاريخ "العلم" ومما يسمى "القرية الكونية".
ولذلك لا نسمع بين المختصين في العلوم البحتة او العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومنهم نقاد الأدب في كل انحاء العالم الذي تحول الى قرية كونية بالفعل، من يتحدث عن نظرية من نظريات العلوم البحتة، او عن نظريات العلوم الإنسانية الاجتماعية، تنتسب الى هذا القطر او ذاك من اقطار القرية الكونية إلا على سبيل نسبة الإنجاز النظري او التنظير الشارح الى محله، بعيداً من الخلط بين العلم والقومية او العلم والإيديولوجيا ولن نجد ناقداً ادبياً، او باحثاً فرنسياً او انكليزياً او اميركياً او يابانياً في دوائر العلوم الإنسانية والاجتماعية، يستحق صفة الناقد الأدبي او الباحث العلمي لا الإيديولوجي، يطرح على نفسه السؤال عن وجود او عدم وجود "نظرية" فرنسية او انكليزية او اميركية او يابانية، لأن مثل هذا الناقد لا يشغل باله بهذا النوع من الأسئلة الإيديولوجية التي تنتهي الى تزييف الوعي بالعلم، ولأنه يدرك، نتيجة وضوح الفارق بين العلم والإيديولوجيا في ذهنه، ان النظرية النقدية او الأدبية لا تنتسب الى هوية سياسية او قومية او دينية إلا اذا فارقت صفتها النوعية من حيث هي صياغة صورية تتسم بالتجريد والعمومية المرجع السابق.
المشكلة هنا ليست في طرح تصور ما فحسب وانما هي أيضاً في تجريد أي ناقد يرى ما لا يطابق ذلك التصور من أية صدقية، كما هي في تجريد أية نظرية تخرج عن التصور المطروح من كونها نظرية تستحق الاهتمام. ففي ذلك وثوقية متعسفة وأبعد ما تكون عن روح العلم التي يؤكد الناقد أهميتها. ولو ذكرنا لعصفور اثنين فقط من النقاد الذين يرون عكس ما يراه تماماً لصعب عليه تجريدهم من صفات الناقد أو الباحث العلمي، ولا أشير فقط الى الأميركي ج. هلس ملر، وانما أيضاً الى ادوارد سعيد في مقالته الشهيرة "انتقال النظرية" التي تؤكد ما تمر به النظرية من اختلافات جذرية أحياناً إذ تنتقل ضمن الثقافة الواحدة، أو الثقافات الشديدة التجانس، كما حدث في أوروبا، فما بالك إذا كانت تلك المنطقة تشمل العالم بأكمله!
في مقالته "انتقال النظرية" أو "النظرية المهاجرة" يحلل ادوارد سعيد ما أصاب مفهوم "الوعي الطبقي" عند الهنغاري، ذي الأصل اليهودي، غورغ لوكاتش، حين انتقل الى الروماني/ الفرنسي ذي الأصل اليهودي أيضاً في تعريف عصفور بالمفكرين لوكاتش وغولدمان، تعني الاشارة الى أصلهما اليهودي لوسيان غولدمان الذي كان تلميذاً للوكاتش والذي "كان كتابه الإله الخفي 1955"، كما يقول سعيد، "احدى المحاولات الأولى والأكثر ابهاراً لوضع نظريات لوكاتش موضع التطبيق العملي والبحثي. في دراسة غولدمان حول باسكال وراسين"، يضيف سعيد، "يتحول الوعي الطبقي الى "رؤية العالم"، وهو وعي ليس مباشراً وانما جميعاً يظهر في أعمال بعض الكتاب ذوي الموهبة الرفيعة". Edward Said, زTraveling Theoryس, The World, The Text, and the Critic London: Faber and Faber, 1983 p. 234، ومن هذه الملاحظة يتوصل سعيد الى الخلاصة الشاملة التالية حول طبيعة النظرية: "اننا بموازنة لوكاتش وغولدمان ازاء بعضهما البعض نتعرف إذاً على القدر الذي تكون به النظرية استجابة لوضع اجتماعي وتاريخي يمثل الحدث العقلاني جزءاً منها". المرجع السابق.
* كاتب سعودي. أستاذ في جامعة الملك سعود في الرياض. والنص مقدمة لكتاب يصدر له قريباً في عنوان "استقبال الآخر: الغرب في النقد العربي الحديث" عن المركز الثقافي العربي في بيروت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.