حينما يطرح السؤال هل أفادت المناهج النقدية الحديثة في دراسة الشعر العربي القديم وما تمثلات هذه الإفادة؟ فإنه ينبغي منذ البداية أن نستدعي سؤالا آخر يرتبط بالسؤال السابق ، بل ويشترط حضوره كلما تعرضنا بالحديث عن الأدب العربي بوجه عام في علاقته بالثقافة الغربية وبالأخص ما يتصل منها بمفهوم المثاقفة في متون المعرفة النقدية تحديدا. وعليه لا يمكن الشروع بالإجابة ، قبل أن نضع السؤال في سياق أعم يتمثل كما قلنا في إشكالية المثاقفة بين ثقافتين شديدتي الاختلاف والتباين : بين ثقافة غربية ترى نفسها قطعت أشواطا كبيرة في التطور الحضاري والفكري، وبين ثقافة شرقية ترى أنها متخلفة عن الركب الحضاري والفكري مقارنة بالغرب.لذلك من المهم الحديث عن هذا الجانب لأن فيه كشفا عن تلك الظروف التي دفعت الثقافة العربية منذ مطالع القرن العشرين للبحث عن مخارج عديدة للأزمة التي تصل إلى حد الصدمة النفسية ، التي طالت جميع مرافق حياتها ، ولا سيما منها الفكرية والأدبية بالخصوص.وحينما نطرح على أنفسنا لماذا احتاجت الثقافة العربية إلى مناهج جديدة لتدرس موروثها الأدبي بعيون معاصرة ؟ ولماذا أيضا هي لم تكتف بمناهجها النقدية القديمة؟ نجد أنه منذ الصدمة الحضارية التي خلفتها حملة نابليون على مصر منذ أواخر القرن الثامن عشر، سعت الثقافة نفسها ممثلة في أبرز مفكريها في الاستفادة من الجوانب الفكرية والعلمية والمعرفية التي أنتجتها الثقافة الغربية ، وليست رحلة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا والتزود بمعارفه سوى الدليل على الرغبة الملحة في القيام بالمثاقفة مع الآخر الغربي من جهة ، ومن جهة أخرى الشعور بالقصور والتخلف في تلك الميادين عن ركب الحضارة الذي تطور في رحاب المجتمعات الغربية.وحينما توالت البعثات العربية على امتداد القرن التاسع عشر إلى أوروبا سواء لأجل الدراسة والتخصص أو لأجل الاستكشافات والتعرف عن قرب على التطور التقني والعلمي والفكري الذي تعيشه تلك المجتمعات، توسعت معها تلك الدراسات والأطروحات التي اعتمدت المناهج الحديثة الغربية في دراسة ومقاربة الأدب العربي وبالأخص الشعر العربي القديم ، وقد فتحت تلك المقاربات آفاقا جديدة في النظر إلى الشعر الجاهلي بما يتوافق والنظرة المعاصرة لمفهوم الشعر، وقبل أن ندلل ببعض الشواهد حول مدى الإفادة التي طالت دراسة الشعر العربي القديم من جراء استخدام تلك المناهج علينا مسبقا أن نتحدث عن أهم الإشكاليات التي يطرحها مفهوم المثاقفة بين حضارتين مختلفتين. الإشكال الأول:التباس التوظيف الناتج من فعل المثاقفة: يطرح بعض الدارسين المختصين في مجال الدراسات المقارنة أزمة توظيف النظريات النقدية في سياق ثقافي مختلف عن سياقها الثقافي الذي ولدت فيه، كما هو الحال عليه بين الثقافة العربية في توظيفها لبعض النظريات الغربية في الحقول المعرفية المتعددة.ينتج عن هذا التوظيف في أغلب الفترات كما يقولون سوء فهم يصل إلى حد التشويه والمغالطات التي لا تعبر لا من قريب ولا من بعيد لما تطرحه النظرية من مقولات في مظانها الأصلية . وهذه الإشكالية عامة ، أي إنها لا تخص ثقافة معينة ، فالصعوبة تكمن بالأساس في عملية هجرة النظريات من ثقافة إلى أخرى ، بحيث طبيعة هذه الهجرة هي التي تسبب هذه الصعوبة ، فكل نظرية حينما تولدت في ثقافة ما فهي تولد ضمن شروط محددة في الزمان والمكان واللغة، ومن الطبيعي أن تختل هذه الشروط عندما تستنبت في بيئة ثقافية مختلفة كليا كما في الثقافة العربية، بحيث يستتبع هذا الاختلال اختلال آخر في مفهوم النظرية ، وأيضا في طريقة تلقيها( وسوف نلاحظ لا حقا هذا الاختلال في التلقي لدراسة طه حسين في الشعر الجاهلي عندما طبق منهج الشك الديكارتي) لدى عامة الجمهور. الإشكال الثاني:مفهوم الخصوصية في إطار المثاقفة: لا شك أن جل الدارسين العرب أو النقاد الأوائل الذين حاولوا أن يحلوا إشكال التوظيف وما ينتج عنه من سوء فهم والتباس ، ويبتعدوا أيضا عن الاتهامات التي تطال من يطبق تلك النظريات على الموروث العربي باعتبارهم أداة تغريبية يسعى الغرب من ورائهم للعودة إلى استعمار العالم العربي والإسلامي.هذه التهمة حرص هؤلاء دحضها بمقولات من أبرزها مقولة السمات العالمية التي تتصف بها هذه النظريات.فهي لا تخص ثقافة دون أخرى ، فقد قام بالمساهمة بها العديد من العلماء الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة كالنظرية الماركسية على سبيل المثال وما يتفرع منها من مقولات سواء في الأدب أو الفكر أو الاقتصاد ، وهكذا وجد هؤلاء ضالتهم في الرد على تلك الاتهامات بمقولة العالمية ضد أصحاب مقولة الخصوصية، وهناك طابور من الأسماء الذين وجدوا أنفسهم أما في هذا الطابور من دعاة الخصوصية ، أو في ذلك الطابور من دعاة العالمية، منهم شبلي الشميل أحمد أمين أمين الخولي، لويس عوض عباس محمود العقاد، شكري عياد ، أحمد ضيف ، شوقي ضيف...ألخ. لكن على الرغم من هذا الصراع إلا أن الكل يقر بضرورة المثاقفة والاقتباس من ثقافة الآخر، ولا يمكن الاستغناء عن هذه الضرورة لأنها من ضروريات الحياة كما يعلمنا التاريخ ذلك. فالمؤسسون الأوائل للحضارة الإسلامية لم يتوانوا في الاقتباس والأخذ من الآخر(الحضارة اليونانية والفارسية والهندية) بل أثروا معارفهم وبالتالي الحضارة الإسلامية بهذا الاقتباس والإضافة الخلاقة التي أضافوها على ثقافة تلك الحضارات. لكن المشكلة كما يراها البعض تكمن في لحظة التثاقف التي جاءت في وقت كان العرب والمسلمين في لحظة ضعف وتمزق وشتات ، بينما الآخر الغربي في لحظة قوة وتطور ، عكس ما كانت المثاقفة عليه بينهما في الماضي البعيد. بالطبع هناك إشكالات أخرى تمس هذا الموضوع من العمق، لكن ليس هنا مجال التفصيل فيها ، فجل ما أردنا تبيانه هنا هو التركيز على الأسباب التي أدت إلى ضرورة البحث عن تطبيق مناهج حديثة على أدبنا العربي ، وما نتج عن هذه الضرورة من إشكالات عرضنا اثنين منها كي نضع القارئ في صورة عامة عن موضوعنا الأساسي. الآن دعونا نأخذ نموذجين من النقاد اللذين حاولا تطبيق المناهج الحديثة في دراسة الشعر العربي القديم، وهما نموذجان مشهوران أحدثا بدراستهما ردود أفعال متباينة من مؤيد ومن معارض ومن ناقد لكليهما ، الأول هو عميد الأدب العربي طه حسين في دراسته عن الأدب الجاهلي حينما طبق عليه منهج الشك الديكارتي ، والآخر الناقد كمال أبو ديب حينما طبق المنهج البنيوي في قراءته للشعر الجاهلي في كتابه " الرؤى المقنعة". أو الكتاب الآخر" جدلية الخفاء والتجلي " واختيار هذين النموذجين لا يأتي من فراغ ، على الرغم كثرة النقاد العرب الذين قاموا بتطبيق نظريات غربية متعددة سواء في الأدب أو الفكر أو في السياسة والاقتصاد، كل حسب اختصاصه، واهتماماته.فقد شكلت قراءة طه حسين صدمة قوية للذهنية العربية التقليدية التي ظلت تردد مقولات أدبية من التراث دون أن تعمل النظر النقدي فيها ، وهذا ما أعطى لهذه القراءة أهمية قصوى ، يتضح ذلك في كثرة الردود التي طالت قراءته مما اضطر لا حقا في منع طباعتها أو حذف بعض منها. أما الناقد كمال أبو أديب فقد كان من الأوائل الذين تبنوا المنهج البنيوي وطبقوه بوعي منقطع النظير. وكان حماسه لتلك النظرية أدى به إلى الانحباس فيها دون أن يرى تطورات النظريات اللاحقة التي طالت النظرية نفسها. لكن هذا لم يقلل من شأن هذه المحاولة الرائدة في تطبيق منهجية غربية على الشعر الجاهلي. أولا: نموذج طه حسين في الشعر الجاهلي: لقد كانت دعوة طه حسين للعرب كي يتبنوا منهجا يثيرون فيه الشكوك بصحة الشعر الجاهلي دعوة صريحة لا لبس فيها، وكان يهدف من ورائها استعادة الثقة بأنفسهم وطرح تقديس التراث جانبا لأنه يشل تفكيرهم ، فينبغي الثورة على هذا الوضع كما فعل مفكرو الغرب من أمثال ديكارت بطبيعة الحال. يقول في كتابه " في الشعر الجاهلي" في سياق حديثه عن أهمية تطبيق منهج ديكارت " نحن العرب سواء رضينا أم كرهنا فلا بد أن نتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر من قبلنا به أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم. ذلك أن عقليتنا قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية ، أو قل أقرب إلى الغربية إلى الشرقية".(1). إن من أهم مبررات طه حسين في تبنيه مثل هذه الدعوة هو حاجة العرب إلى خطاب نقدي علمي قائم على عقلانية الشك ، تلك العقلانية التي هي سر تفوق الغرب، وهو تفوق حتمي بسبب تمسكهم وممارستهم لتلك العقلانية. إذا انطلاقا من هذه الرؤيا قدم طه حسين قراءته للشعر الجاهلي.وهنا ينبري السؤال التالي : ما مقدار الإضافة التي حققته هذه القراءة للتراث الشعري؟ ربما لا نجازف الحقيقة إذا ما قلنا أنها في الجانب الفني والأسلوبي حققت رؤية مختلفة للشعر خصوصا فيما يخص العلاقة القائمة بينه وبين النظرة المقدسة له من طرف المؤرخين للموروث. أما لو نظرنا إلى مدى الإضافة التي حققته هذه القراءة من منظور التطبيق المنهجي فهناك بلا شك اختلالات لم يتخلص منها التطبيق المنهجي للشك الديكارتي عند طه حسين فأولاها وأهمها كما أرى أن سؤال الشك عند ديكارت هو سؤال فلسفي بالأساس وله ارتباط قوي بالتيارات الفكرية التي برزت في القرن السادس عشر ومشتبكة معه، أما سؤال طه حسين ليس له صلة بالفلسفة بل هو موظف في الموروث الأدبي لغايات ليست أدبية تتعلق أساسا بمظاهر التخلف وكيفية التخلص من هذه المظاهر. لكنها بالمقابل قراءة حركت المياه الراكدة في ذهنية الثقافة وهذا هو بالأساس ما كان يطمح إليه طه حسين من وراء القراءة. ثانيا : نموذج كمال أبو ديب في المنهج البنيوي: يعلن كمال أديب أهمية المنهج البنيوي انطلاقا من كونها إحدى أهم الحركات الثلاث التي تعتبر مفصلية في تطور المعرفة البشرية بحيث تقسم نظرتنا إلى العالم والحياة والطبيعة إلى ما قبل وما بعد فالماركسية بمفاهيمها ومقولاتها قسمت النظرة إلى المجتمعات ما قبل الماركسية وما بعدها . ثم جاء الفن الحديث فأصبح من الصعب تجاوز نظرة رسوم بيكاسو وكراسيه إلى ما قبلها بالنسبة للمجتمع . ثم جاءت لحظة البنيوية التي غيرت نظرتنا كما يقول في مقدمة كتابه، وقسمتها إلى ما قبل وما بعد . وكان يهدف من إبراز أهمية المنهج وتطبيقه على الشعر ليس الشعر في حد ذاته بل كما يقول " إلى أبعد من ذلك بكثير إلى تغيير الفكر العربي في معاينته للثقافة والإنسان والشعر إلى نقله من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة المتقصية الموضوعية والشمولية والجذرية في آن واحد" (2). هنا نحن نصادف ذات الهدف الذي به طه حسين في تطبيق منهجه أي تثوير الفكر النقدي في حياة العرب مما يسمح لنا بالقول إن الهاجس الأكبر الذي سيطر على الاثنين هو هاجس يتجاوز في اهتماماته الشعر إلى ما هو أعمق منه أو أبعد منه على حد تعبير كمال أبو ديب فالرؤية البنيوية كما يطبقها أبو ديب تقارب الشعراء كما في حالة أبي نواس أو أبي تمام انطلاقا من رؤيا داخلية تبحث عن خصائصهما الإيقاعية والبلاغية والأسلوبية بحيث يشبه عوالم معزولة عن بعضها البعض لأن التعرف الدقيق على أبرز عوالم هؤلاء الشعراء كما يشير إليه هذا المنى منهج يتيح الفرصة لنا للتعرف على المناحي الحياتية للأخرى للعرب كالسياسة والاقتصاد والدين. هذا التقابل هو الغاية والوظيفة الذي سعى إليه الناقد كمال أبو ديب في تطبيقة للمنهج البنيوي. (1)_ نقلا عن د.سعد البازعي. استقبال الآخر. المركز الثقافي العربي بيروت 2004 ص156 (2)_كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، دار العلم للملايين، بيروت، 1981 ص8