فقد العالم في الفترة الأخيرة وترين نقيين من حنجرته كانا من تلك الاوتار المتصلة مباشرة بالزاوية الخاصة جداً والمحرّمة جداً من زوايا جسد هذا العالم، والتي نسميها عادة: الضمير. كان الوتر الأول هو وزيرة خارجية السويد آنا ليند. المرأة التي أعطت صورتها للعالم نموذجاً فريداً آخر عن "المرأة الحقيقية" فقد كانت انسانة بقدر ما هي سياسية، ومواطنة بقدر ما هي مسؤولة. وسويدية بقدر ما هي عالمية. وهل للضمير الانساني جنسية؟ و متى كان للالتزام الاخلاقي الرفيع جنسية أو وطن؟ لقد احتلت آنا ليند أعلى المراكز في بلدها. وكان متوقعاً لها ان تكون رئىسة للوزراء. ومع ذلك لم تنس قط انها إنسانة أولاً. وإنسانة عادية، فلا سيارة على باب المنزل لنقلها الى مكتبها. ولا حراس أو دراجات نارية ترافقها، وهي تتنقل بالقطار جنباً الى جنب مع بقية مواطنيها، بل انها تتردد مرة في ترك مقعدها في القطار عندما اكتشفت انه محجوز لغيرها، والانتقال سريعاً مع أوراقها لتتابع عملها على ارض القطار اي نموذج رائع للتواضع جدير بنا ان نقتدي به ونتعلم منه. هذا كله اذا لم نتحدث عن مواقفها السياسية والانسانية المشرفة التي كانت تعلن عنها في كل مناسبة تطلبت منها ان تقول كلمتها تجاه القضايا العالمية والانسانية وكذلك موقفها العادل تجاه القضايا العربية، غير آبهة بما قد يجر عليها ذلك من متاعب واخطار، وقد كان ذلك للأسف، وخسرنا صوتها النقي الصادق. أما الوتر الثاني فقد كان خسارة للعالم اولاً، لأنه كان يمثل جسراً أميناً وصادقاً بين الشرق والغرب، وخسارة للعرب ثانياً لأنه تحدث الى العالم باسمهم وهم في أحوج الاوقات الى متحدث مثله، فتكلم باللغة التي يفهمها العالم والتي عجز العرب للأسف عن اتقانها، وخسره الفلسطينيون ثالثاً لأنه ابن فلسطين الذي شرده المغتصبون من ارضه ووطنه، فعاش ادوارد سعيد، ككل ابناء وطنه من اللاجئىن، شريداً بين الشرق والغرب، فدرس في لبنان ومصر، وتابع دراساته في الولاياتالمتحدة، ثم أقام فيها بقية حياته. كان أهم ما فيه انه عرف متى كان يجب ان يصمت ومتى كان يجب ان يتكلم. في زمن القوميات والخطب والشعارات آثر السكوت لأنه لم يكن طبلاً فارغاً، وحين تعب الصارخون من صراخهم، وحاملو الشعارات من أحمالهم، والمزاودون من مزاوداتهم، وبحّت حناجر الخطباء، وهدأت اصوات الباعة، باعة الوطنيات والقوميات والايديولوجيات: عندئذ فقط اهتز الصرح، وتكلم ادوارد سعيد، متمرداً على حدود اختصاصه العلمي في الأدب، ليتحدث عن القضايا العربية والانسانية، وعن قضية هذه القضايا: المسألة الفلسطينية. ولكن باللغة العلمية الموضوعية الهادئة التي يفهمها الشرق والغرب. متخلياً عن لغة الخطابات الرنانة والأصوات العالية والشعارات الجوفاء. لقد كان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1977. وحاول منذ ذلك الوقت ان يقنع القيادة الفلسطينية بأهمية الفلسطينيين المشردين في شرق العالم وغربه: بحقوقهم في العودة، وباستمرارية ارتباطهم بأرضهم. وبقيمة اصواتهم التي يمكن ان تسمع العالم صوت فلسطين الضائع. وعندما اصدر كتابه الاستشراق عام 1978 عده المهتمون في الدراسات المشرقية منعطفاً خطيراً في خط هذه الدراسات، وصوتاً جريئاً صافياً ينطق بالحقيقة بهدوء وصدق، لأن صوت ادوارد سعيد فيه كان يصدر عن تلك الزاوية الخاصة جداً في الجسم البشري، والمحرمة جداً، والحميمة جداً، وهي الضمير. إنه لم يستطع ان يشارك أولئك الصغار على ارض فلسطين بطولتهم الخارقة وهم يقاومون الدبابة الاسرائىلية بحجارتهم الصغيرة، فذهب اليهم هناك في فلسطين وأمسك بحجر صغير واحد ورماه. ليكون ذلك رمزاً رائعاً لمشاركته لهم وإكباره لبطولتهم. وقد أضحت أمثولة لكل الشعوب التي تريد ان تنال حريتها على مر التاريخ. في هذا الوقت نفسه، الذي نودع به هذين الصوتين الانسانيين النبيلين، تخدش اذهاننا حشرجات انهزامية مبحوحة كأنها اصوات المحتضرين، تعطي دروساً للآخرين في النفاق والسطحية والعدمية. فهذا مهرّج امتهن اضحاك الناس والتنكيت، ولو على نفسه، في الصحف والمجلات فقبلنا منه هذا، اذ عرف حده فوقف عنده. واذا بنا نستيقظ يوماً لنكتشف انه بات سياسياً محترفاً يتحدث في السياسة والسياسيين. ويلعن الساعة التي ولد فيها عربياً. ويبرئ بلده من العروبة ومن أهلها، والعروبة احرى بأن تتبرأ من انسان لم يكن يوماً الا منافقاً يبيع صوته لمن يدفع اكثر، حتى ان كان ذلك على حساب كرامته وضميره وأمته. وهذا بائع آخر للضمائر، يبسط لمن يشتري على عربته المتنقلة انواع الشتائم والمدائح، والاتهام والتبرئة، والخيانة والوطنية، والزوزر والحق، والحلو والمر، والأسود والأبيض، فيصنع ضميره، أو بالاحرى جثة ضميره لأن ضميره مات وانتهى جاهزاً لانتاج كل ما تشتهي أنفس الزبائن من بضائع عجيبة، وتناقضات ومفارقات وألاعيب وسحر، لا تجدها الا في مثل هذه السوق. اننا نحترم الصحافي الذي يهاجمنا، لأنه صاحب موقف، أخطأ في موقفه هذا أو أصاب، ونستطيع ان نجد معه ارضاً مشتركة نتحدث من فوقها، ما دام، وما دمنا ندافع معاً عن موقف اقتنعنا به ونريد ان نقنع به الآخر، ولكن كيف نتعامل مع من لا نعرف له وجهاً ولا موقفاً ولا قناعة، فهو في الصباح مع اليمين، وفي المساء مع اليسار، وفي الليل مع من لا نعرف، وكيف نستطيع، مهما اقنعنا انفسنا، ان نحترم مثل هذا الصحافي، او البائع، او نصدقه؟ ولعلي، بحكم عملي في هيئة دولية واطلاعي اليومي على صحف من انحاء العالم، استطيع ان ارى الصورة اوضح وأنا اعقد مقارنة بين بعض النماذج الصحافية في الشرق وفي الغرب. فمن هؤلاء من يملك كل شيء يتطلبه عمله، من علم وحقائق وموضوعية ومهارة ومنطق، ويملك الى جانبها قدراً لا يتصور من التواضع، وتقابله نماذج اخرى لا تملك اي شيء لا علماً ولا أدباً ولا صدقاً ولا احترافاً، وتجد عندها، مع ذلك، من صنوف الكبرياء والعجرفة والغطرسة ما يجعلك ترفضها وتشمئز منها لمجرد قراءة اسمها. اضع هذه النماذج العجيبة الفارغة التي تزخر بها بعض الصحف الى جانب نماذج مضيئة رحلت كادوارد سعيد وآنا ليند. ونماذج ما تزال تشع نوراً وصدقاً وشرفاً على العالم، فأكاد أصاب بالدوار، اشمئزازاً مما أسمع وأقرأ لأولئك، وتحسراً وألماً على فقد هذه المشاعل التي كانت تضيء لنا في هذا النفق المظلم الذي يمر به العالم. أرأيتم الى تلك المنارة الشامخة التي اسمها نيلسون مانديلا؟ لقد أمضى ثلث عمره في السجن لأنه لم يرض ان يسكت، ولم يرض لصوته ان ينطق بغير صوت ضميره، فإذا بهذا الاختبار القاسي، الذي اعتصره اعتصاراً، يخرج منه الى العالم، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، رجلاً حقيقياً يرشحه العالم، قبل ان يرشحه بلده، رئىساً لهذا البلد، يقيم بين مواطنيه المتناحرين السلام والمحبة والعدالة والمساواة. ثم لم يكتف بذلك بل فضّل في النهاية، وقد أدى رسالته واطمأن على مسيرة متبادلة في هذا البلد، ان يتنحى عن منصبه لغيره، وينصرف الى قضايا الظلم والعدالة في كل أنحاء العالم. لقد كان عظيماً في سجنه، ثم كان اعظم في رئاسته، ولكنه كان اعظم وأعظم وهو يبتعد عن مناصبه، ليكون حراً في صوته، حراً في انتمائه، كان من قبل بطلاً محلياً، وغدا الآن بطلاً عالمياً. وقد تخلص من قيود رئاسته والتزاماته الوطنية المحلية، فبات العالم الآن ينصت الى كلماته كما لا ينصت الى كلمات رؤسائه، وكأنما غدا رئيساً لهذا العالم. أسمعه أينما ذهب فلا ينطق الا مطالباً بحق او مدافعاً عن مظلوم. لا يتجه يوماً مع هذا ويوماً مع ذاك. فإذا نطق كان لكلمته وزنها، ولصوته من يسمع، ولرأيه من يحسب له ألف حساب، إنه من تلك الأصوات الهادئة القليلة التي وقفت الى جانب الحق الفلسطيني وكل حق مغتصب ونادت بالدفاع عن حقوق الانسان، أبيضه وأسوده، ورفضت الحرب على العراق، وكذلك كل حرب ظالمة على الشعوب المستضعفة. أعجزنا عن ان يخرج من بيتنا أمثال نيلسن مانديلا؟ من منا يتجرأ على ان يتخلى عن منصبه، وهو في ذروة سلطته وعمله وإخلاصه لقضايا بلده وشعبه، ليقف نفسه من اجل قضايا العالم، وليمتلك تلك القوة السحرية للكلمة التي لم يمتلكها الملوك والرؤساء والسلاطين، فينتقل من محدودية وطنه الى آفاق العالم الواسعة، ومن محلية كلمته الى عالميتها؟ ليسأل كل منا نفسه: ماذا سيقول عني التاريخ بعد مئة عام أو مئات من الاعوام؟ كم خلّد التاريخ اشراراً كانوا يظنون أنفسهم عظماء، وبذلوا الغالي والرخيص ليخلدهم التاريخ كما أرادوا، ثم رفض التاريخ ان يمنحهم أكثر من بطاقة: سيئ شرير، وكم خلّد التاريخ اخياراً، وهم لم يسعوا ابداً الى الخلود، فمنحهم التاريخ ميدالية العظماء. هذا غاندي، لم يحمل بندقية قط. أين نضعه نحن؟ وأين يضعه التاريخ الآن؟ وهذا هتلر وقد فجّر أوروبا وفجّر العالم، ماذا نعطيه وماذا أعطاه التاريخ؟ ان القارئ يبكي رحيل هذه الأصوات الصادقة، فليسأل كل صاحب صوت نفسه من الآن: هل سيبكي احد على صوتي بعد ان أموت؟ أم سيتنفس الجميع الصعداء؟ وإن كنا لا نملك قوة الصدق لتنطق كلماتنا به، وما يلقاها الا الذين صبروا، فلماذا لا نسكت، فنريح ونرتاح: نريح الآخرين من اصواتنا وصراخنا الأجوف الممل، ونرتاح من كلمة يقولونها بعد موتنا: لا رحمه الله. وإن كنا لا نملك قوة الصمت، وما يلقاها الا ذو حظ عظيم، فلماذا لا ندرب انفسنا على الصمت؟ لماذا لا نقيم دورات لأصحاب الألسنة الطويلة والأصوات المرتفعة. والجعجعة الفارغة. والوجوه المتلوّنة صباح مساء ليتعلموا كيف يصمتون، وكيف يريحون الآخرين من أصواتهم؟ كم نحن في حاجة الى ان نقيم "يوماً عالمياً للصمت" نتداعى فيه الى ان نمارس رياضة إغلاق الأفواه، والتأمل في داخلنا، والبحث عن ذواتنا، واعادة النظر في علاقتنا مع ضمائرنا ومع العالم. لعلنا نكتشف الطريق الصحيح نحو بناء شخصية جديدة، تربح نفسها، وتربح الناس من حولها، وتطمئن الى انها، بعد موتها، لن يودعها الناس إلا بالرحمة والدعاء والتأثر والدموع، ولا يتذكرون منها الا عظمة الدروس التي تعلموها من حياتها، والامثولات التي اقتبسوها من تعاليمها، وصوت الحق الذي كان يرتفع منها عالياً عندما كانت قادرة على ان تفتح فمها وتتكلم. نريد يوماً عالمياً للصمت نحتفل فيه بمن ماتوا ورحلوا وما تزال اصواتم الهادئة النقية حية في آذاننا وصدورنا بعد موتهم، ونتعظ فيه بمن عاشوا يصرخون ويتلونون ويتملقون ولم يسمعهم أحد، ولن يزالوا يصرخون حتى النهاية ولم يسمعهم أحد. * كاتبة سعودية مقيمة في باريس.