تكمن مشكلة المنطقة العربية في كونها توارثت، بحكم عوامل التاريخ والخبرات السياسية التي مرت بها، ثقافة الخضوع والاستسلام لما هو قائم، ولم تتواجد فيها، بالتوازي، ديناميكية تحرّك ثوابت بات وجودها بحكم الزمن مضراً. وهو الأمر الذي انعكس كثيراً على عقلية التفكير ونمط الإنتاج في هذه المجتمعات. التغيرات والتطورات في مجملها تأتي نتيجة الدفع الخارجي. فإذا كانت الحملة الفرنسية، منذ قرنين، أيقظت المجتمع المصري وحرّكت فيه حال الثبات التي كان عليها، إلا انه على رغم مرور القرنين الماضيين والخبرة العربية قي معظمها تؤكد استفحال حال الثبات هذه وترهلها، باستثناء لحظات قصيرة برزت خلالها بوادر نهضة أو محطات كانت بمثابة القفزات التي استطاعت أن تعلو على هذه الحواجز المحركة لأي نهضة. وإذا كانت الفترة التي كانت وقعت فيها البلاد العربية تحت الاحتلال شكلت أحد العوامل التي ساعدت على الخروج من حال الثبات، إلا أن الفترة التي أعقبت الاستقلال بدلاً من أن تساعد على إحداث ديناميكية في المجتمع عملت على تضخيم حال الثبات في شكل نسبي، مقارنة مع حركة التقدم السريعة التي تمر بها المجتمعات البشرية. وهو الأمر الذي ترك بتداعياته الخطيرة على عملية التنمية داخل مجتمعاتنا، فكان هناك فقر تنموي ليس فقط في البنية التحية للمجتمع ولكن في مجمل المخارج السياسية. ومن هنا، على رغم أن عملية الاستقلال في الكثير من البلاد العربية ساعدت على تحريك الثوابت جزئياً، إلا أن هذه التغيرات عند وضعها في سياق التقدم الذي يمر به العالم تدفعنا الى اكتشاف أن مجتمعاتنا تأتي في مراتب متأخرة من حيث النهضة والتقدم من بين دول العالم. وكان من الطبيعي في ظل حال الجمود أن ينعكس ذلك على حملة التنوير والتغيير في المجتمع، فباتت علاقة المثقفين بالواقع الاجتماعي تحمل النقد الذاتي لأمور سطحية وتضع معاييرها للوطنية وفقاً ل"أجندتها" الشخصية معاداة الآخر، ونظرية المؤامرة على رغم أننا نأتي في آخر الدول من حيث مخارج عملية التنمية والتقدم بسبب تراكمات الماضي الذي ما زلنا نمجد سلبياته. وفي ظل ذلك سادت الوسط الثقافي ضبابية أفقدت الكثيرين الموضوعية في رؤيتهم الى واقعهم. وأضحى الواقع المجتمعي يشهد حالاً مكارثية جديدة، تعمل على كيل التهم لمن يخالف رؤيتها. ولم يكن من الغريب، في مثل هذا المناخ المقيد، أن تشهد الساحة "زفة"، ليس لها ما يبررها، لأحد مثقفيها. فعلى رغم مسيرته المهنية الفريدة في العمل الصحافي إلا أن ذلك ليس مبرراً ان نجعل منه "صنماً"، خصوصاً انه وغيره من المثقفين الذين يسيرون على النهج نفسه يحاولون أن يزرعوا فينا ثقافة التواكل ونظرية المؤامرة بدلاً من ثقافة مواجهة الذات. ولم تكن لديهم الشجاعة للاعتراف بأن طمع الآخر فينا ليس نابعاً من تآمر الآخر علينا بقدر ما هو نابع من حال الضعف في بنيتنا الاجتماعية والثقافية. ووسط هذه الضبابية، جاء "تقرير التنمية البشرية العربية الثاني 2003" على استحياء ليقول كلمة الحق التي يفتقد الكثيرون الجرأة في قولها خوفاً من ان يتهموا بعدم الوطنية. وعلى رغم أن ما جاء في التقرير هو افضل هدية لوطن أو أمة باتت مغلوبة على أمرها في أدنى قراراتها الاقتصادية والسياسية. وتكمن قيمة هذا التقرير في كونه يعيد الاعتبار لقيمة الأرقام ويجعلها هي التي تتحدث بدلاً من التصريحات "الوردية" التي لا يكف عن تكرارها الساسة في شكل يحمل عتاباً وتأنيباً بأسلوب مهذب لمجتمعاتنا في مجالات نهضتها كافة، اذ ليس الهدف من النقد المهذب في حد ذاته - كما هو غالب في مجتمعاتنا العربية - وانما تأسيس أو تهيئة مناخ يحث على التغيير والتقدم، وهو الأمر الكفيل أن نتحول من مفعول بهم إلى فاعلين في بناء الحضارة الإنسانية التي نحن محسوبون عليها حتى الآن من دون أن يكون لنا إسهام يذكره لنا الآخرون في بنائها، عدا ما خلفه الأجداد من إنجاز فيها. وبصرف النظر عن الجهة التي تقف وراء التقرير، فانه يحمل في داخله اكثر من علامة استفهام، ليس فقط لصانعي القرار، وإنما لكل فرد معني بقضايا من شأنها أن تظهر صورتنا الحقيقية وليس المزيفة لأنفسنا من التقدم والنهضة. وتنبع أيضاً قيمته من دورية إصداره كل عام في شكل بيان ختامي لسنة من الإنجازات أو الإخفاقات، ليس في السياق العربي فقط وانما في السياق العالمي لئلا تظهر الصورة مزيفة كالعادة. وعبر الاستعانة بالأرقام والمؤشرات التي جاءت في التقرير تترسخ تفسيرات وحقائق لازمتنا النهضوية. ولنأخذ مثلاً على ذلك من، أن عدد الكتب المنتجة في العالم العربي لم يتجاوز 1،1 في المئة من الإنتاج العالمي على رغم أن العرب يشكلون نحو 5 في المئة من سكان العالم وانتاج الكتب الأدبية يشكل فقط 8،0 في المئة من الإنتاج العالمي وهو اقل، بحسب ما يرى التقرير، مما أنتجته دولة مثل تركيا التي لا يتعدى سكانها ربع سكان البلدان العربية. والمعلومة اللافتة في هذا الشأن والتي جاء بها التقرير هي أن إنتاج الكتب يتسم في البلدان العربية عموماً بغزارة في المجال الديني وبشح نسبي في المجالات الأخرى. فالكتب الدينية تمثل ما يقرب من 17 في المئة من عدد الكتب الصادرة في البلدان العربية فيما لا تتجاوز هذه النسبة اكثر من 5 في المئة من الكتب الصادرة في مناطق أخرى من العالم. ومثل هذه الأرقام تؤكد على أننا لسنا نأتي فقط في مراتب متأخرة من ناحية إنتاج المعرفة وإنما على ان غلبة الكتب الدينية التي تهتم بالغيبيات وكتب "نظرية المؤامرة" وضعتنا في حلقة مفرغة من دون أن تقدم لنا الحل وترشدنا إلى المنهج الذي يمكن أن نخرج به من ورطتنا. وهذا ما يعني ان هناك حالة متعمدة لتشويه الواقع نقوم بها بأنفسنا على رغم أن النصوص الدينية الإسلامية تحمل حالة من التوازن المنشود بين الدين والدنيا. فالإسلام والحضارة التي انبثقت عنه شددا على ضرورة الاهتمام بالعالم المادي والعلوم إلا أن ذلك يخالف الواقع الذي نحن عليه الآن. * كاتب مصري.