الصراعات محتدمة بين جهات تمسك بالقرار والمصير العراقيين. وبدأت هذه الصراعات منذ سقوط نظام صدام على يد قوات التحالف. وهذا يدل على ان الحرب الأميركية لم تكن لمواجهة وضع العراق، بعد انتهاء النظام، بل للتغلب على القوى الضاربة العراقية. وأحسن التحالف في إنهائها في سرعة، قياساً على ما كان للنظام من جيش وعدة وعتاد. ان عدم وضوح الرؤيا بالنسبة للجيش الأميركي وحلفائه في كيفية معالجة الوضع السياسي بعد سقوط صدام، أوجد ارباكاً سياسياً واضحاً في ما يجب ان يشرع من قوانين لمعالجة نشاط البعث الذي استمر اكثر من 30 سنة. وعلى رغم ان بعض فئات المعارضة العراقية كان لها تصور خاص لهذه المسألة، وأنا سمعت في قاعة محاضرات كربلاء بلندن، كثيراً من الآراء، وكان قسم منها هيئ وقدم من رئاسة "محامون بلا حدود"، وكانت الجلسات التداولية في هذا الشأن تتسم بالمغالاة والتعصب، والاستخفاف بأهمية من كانوا يشكلون قاعدة عريضة لحكم البعث، وهم قواعد الحزب وكوادره. والملاحظ في هذه المحاضرات والاجتماعات ان هناك انقسامات جذرية بين الذين لهم نصيب في بلورة الاقتراحات. ومنهم من كان يرفع شعار حل الحزب، ومنع ممارسة النشاط السياسي عليه، مع اتخاذ اجراءات قانونية صارمة في حق الذين أساؤوا الى الشعب العراقي، وذوي الأيادي الملطخة بدمائه. اما القسم الآخر فكانوا اكثر اعتدالاً، اذ انهم قسموا أفراد الحزب على اقسام، بحسب التدرج الحزبي الى تاريخ انتهاء النظام. فاقترحوا اصدار قانون بفصل الكوادر المتقدمة في الحزب، سيما المسيئين في تصرفاتهم والعابثين بحقوق افراد الشعب، سواء كان هذا حزبياً او شخصاً مدنياً. وفي البنتاغون يصل النقاش الفكري، والصراع بين التيارات، ذروته. ومع ذلك، وجدنا ان اصحاب القرار في البنتاغون مالوا الى الرأي القائل ان ليس كل بعثي رديء، وليس كل من انتمى الى حزب البعث كان دافعه الايمان بالشعارات التي رفعها، أو روّج لها حزب البعث. بل كانت هناك دوافع وحوافز جعلت كثيراً من العراقيين ينضمون الى هذا الحزب. ومن هذه العوامل: أولاً: أن حزب البعث، منذ تمكن من التأثير في القرار في العراق بدأ يختار المتقدمين في كل المؤسسات الثقافية مدارس وجامعات، ويجري معهم عقوداً، ويتعهد بصرف رواتب لهم، ويتحمل نفقات دراستهم، ويبعثهم الى دورات دراسية تدريبية خارج العراق. وقد تمكن من ربط الآلاف من شباب العراق بمصلحة حزب البعث، وجعل لهم مصيراً واحداً، وهو نجاح حزب البعث وبقاؤه. فنجاح الفرد البعثي أصبح جزءاً من نجاح حزب البعث الكلي، وخصوصاً قياداته. ثانياً: خطط البعث بكل خبث ودقة لوضع الفرد العراقي امام خيارين لا ثالث لهم: إما الانتماء الى حزب البعث، والحصول على كل مفردات الحياة ومقوماتها وسبل تقدم الفرد، وإما العدم. وشرط الانتماء لحزب البعث القبول في الجامعات، والحصول على مكان في صفوف البعثات، والحصول على اي شيء يطور حياته، مثل السيارة والأثاث وحتى بطاقات التمويل. فصحت مقولة صدام حسين المشهورة: ان العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا. ثالثاً: وجه التخطيط لصياغة المجتمع العراقي، والعمل على ولادة جديدة لعلاقاته وترابطه الاجتماعي. فأصدر حزب البعث قانوناً للعقوبات، برقم 11 سنة 1976، جعل مواده العقابية تؤدي الى عقوبة الاعدام. وأخذ يصدر قرارات "مجلس قيادة الثورة" ومراسيم خاصة برئاسة الجمهورية، وكأن الشعب العراقي كله في سجن كبير باستثناء الذين يملكون هوية الحزب وشهادة الانتماء الحزبي. رابعاً: من اجل إكمال واحكام الحلقة الاخيرة في سلسلة قيود الحرية على الذين يرفضون الانتماء الى حزب البعث، شكلت محاكم استثنائية عسكرية منها محكمة الثورة. وتوسع في انشاء هذه المحاكم غير القانونية، ووزعت على مختلف الوزارات. وهناك محكمة خاصة لوزراء الداخلية، ومحكمة خاصة للجمارك، واخرى لقوى الأمن الداخلي، واخرى لقضايا الخيانة، حتى اصبح العراق أول بلد في العالم يخرق القواعد القانونية في هيكلية المحاكم وانضوائها تحت مفاهيم الدستور والقواعد. فما العمل؟ وما هي الطريقة العادلة في معالجة هذا العدد الكبير من العراقيين المنتمين لحزب البعث الذين اجهزت عليه قوات الحلفاء. اذا أردنا ان نكون شديدي البأس على البعثيين القدامى، فسيكون هذا الاجراء مخلاً بالتوازن الاجتماعي العراقي. خالد عيسى طه رئيس "محامون بلا حدود"