منذ رجار الأول الذي افتتح جزيرة صقلية التي امتدت فيها المقاومة العربية في المدن والثغور لأكثر من ثلاثين عاماً، وحتى آخر ملوكهم... ظل النورمان يطرون على جمال فن البناء العربي والمهارة العجيبة في تشييده. وأول إجراء اتخذه رجار الأول الذي عرف عنه تصادمه مع البابا اربان الثاني حول مسعى الكاثوليك لتنصير المسلمين الذين كانوا يشكلون غالبية السكان بالقسر والقوة، هو تحويل المساجد الى كنائس. ومن اشهر المساجل التي يعتقد انه حولت الى كنيسة كاتدرائية مونيرياله التي تعتبر اجمل معبد ديني في عموم اوروبا الغربية، تذكر المصادر التاريخية الإيطالية الحديثة انها تعود الى القرن الثاني عشر، وقد بناها الملك الشاب النورماندي كوليمو الثاني 1153- 1189 حفيد رجار الثاني، الذي كان يوقع مراسيمه ويطلق على نفسه اسم "الملك كوليمو الثاني المعتز بالله" تيمناً بالخلفاء المسلمين. وتذكر هذه المصادر ان الملك الشاب تولى العرش عام 1166 بعد وفاة والده كليمو الأول الذي مات مسموماً، وانجزت هذه الكاتدرائية الرائعة خلال عشر سنوات، وبدأ بناؤها عام 1174 وانتهى عام 1184. حقائق سياسة التسامح والريبة والبطش التي سادت طيلة حكم الرومان تخفي وراءها الكثير من الهجمات الشرسة على العرب منذ وصول النورمان الذين شجعوا بناء مستوطنات لومباردية وأخرى من إمارات البندقية وجنوى وامالفي الآتية من الشمال الإيطالي، يضاف إليها رجال الدين والنبلاء والإقطاعيون والمزارعون النصارى، ليقترفوا جميعاً كل ضروب الوحشية ضد المسلمين، حتى اصبح الكثير من المسلمين ارقاء بعد اسرهم، كما ان الكثير من الشرائح الفقيرة من المسلمين كانت تخضع لنظام السخرة في العمل والخدمة العسكرية. واستمر الوضع اثناء حكم رجار الثاني ووليام الأول والثاني، وهو الأمر الذي اضطر الكثير منهم بعد المذابح التي انتشرت في المناطق الى الفرار والاحتماء في الجبال والأدغال للنجاة. إلا ان المسلمين الذين بقوا في المدن الكبيرة وبخاصة في باليرمو فإنهم من علية القوم والنبلاء والأفاضل وبينهم عدد من الموظفين والقضاة ورجال العلم والفن ولهم مساجدهم وأسواقهم وقبورهم. وانعكس هذا الوضع على المصادر التاريخية التي كتبت على ايدي الرهبان المتعصبين، وهي ابعدت وفي شكل غير موضوعي ولا أخلاقي كل ما يمت من صلة الى الآثار الفكرية والثقافية والعمرانية العربية. والأنكى من ذلك ان الكثير من الأبنية التاريخية اعطيت اسماء وتواريخ للبناء والإشراف والتنفيذ في شكل مغاير للحقائق، وحصلت عمليات انتحال كبيرة لتقاليد العرب وأعمالهم. وما نقوله هنا يمكن ان ينطبق على كاتدرائية مونيرياله، اذ تكاد تنعدم المصادر التاريخية التي تثبت من كان وراء تصميمها المعماري، وهل هي من نتاج الفنانين العرب المدجنين الذين قاموا بأعمال فذة ومتميزة اثناء فترة الحكم النورماني، ام انها كانت في الأصل جامعاً حول الى كاتدرائية بحكم المراسيم التي اصدرها رجار الأول عند استلامه مقاليد الحكم وقد سرت على الكثير من المساجد التي كانت تنتشر في مدن الجزيرة. ويذكر المؤرخ الإيطالي ميكيله عماري ان مدينة باليرمو وحدها كان فيها اكثر من 80 مسجداً تحولت الى كنائس. كاتدرائية مونيرياله تعتبر حالياً من اجمل المعابد الكاثوليكية في العالم الأوروبي، ويشهد على ذلك الغنى الكبير في طبيعة المعمار العربي، وبخاصة ما يتعلق ببناء البرج الذي هو على شكل مئذنة وهو كان شائعاً في المعمار المغربي وانتقل الى الأندلس وصقلية وهو يتصف بالمربع وتتطابق اوصافه مع مئذنة جامع اشبيلية في الأندلس. وكذلك بناء الشرفات على شكل اسنان المنشار، كما هي الحال في مساجد القاهرة، وكذلك عمل الأقبية التي تقوم على عقود متقاطعة وأضلاع ظاهرة، والمشربيات والشرفات الزخرفية المخرمة التي اصبحت في ما بعد أحد مظاهر العمارة الغوطية في اوروبا. وبالعودة الى المصادر التاريخية الحديثة التي تعود اصولها الى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فهي تذكر ان بعد عملية الانتهاء من عملية البناء بعامين، تحول المعبد الى دير للرهبان. اما في عام 1183 فاتسعت رقعة الخلافات بين الكنيسة والسلطة من اجل الاستحواذ على ملكية المبعد، فقرر البابا لوتشو الثالث ان يكون المعبد مقراً للأسقفية التابعة للعاصمة باليرمو. إلا ان الملك كوليمو الثاني عارض ذلك بشدة، وأعاد بناء الجامع الإسلامي الذي يحاذي البناء الجديد ليكون مقراً للأسقفية. إلا ان بعض المصادر تذكر ان معبد مونيرياله لم يكن إلا جزءاً من الجامع الإسلامي الكبير نفسه الذي كان يسمى "كامي" و"حامي" أو "قامي" والدليل على ذلك ان مقر الأسقفية المربع الشكل والذي تقدر مساحته ب6340 متراً مربعاً، ما هو إلا الجزء الخارجي للجامع، ويتألف هذا الرحاب من بناء مربع الشكل طول كل ضلع من اضلاعه 47 متراً وتزيّنه مجموعة من 248 عموداً رخامياً تحمل اقواساً مصنوعة على الطريقة المعمارية العربية الأصيلة بشكلها وزخرفها. وقسم من هذه الأعمدة مطعم بالموزاييك الذي اشتهر به الصنّاع العرب المهرة دون سواهم، وتحمل هذه الأعمدة تيجاناً على هيئة نواقيس، والمعروف ان العمد المندمج في اركان الدعائم هي ظاهرة اسلامية ترجع الى القرن التاسع الميلادي. وإحدى زوايا هذا الرحاب الرائع الجمال التي تشغل الجانب الجنوبي الغربي والذي يقابل القبلة في اتجاه الحرم الشريف، هو عبارة عن منتجع صغير او مكان للوضوء. وما يدل على رأينا هذا وجود حوض ماء مستدير وفي وسطه نافورة ماء يشبه جذع نخلة. وما زالت الأعمدة الى يومنا الحاضر تحمل الزخرفة ذات البريق المعدني والتي يعود استخدامها الى العرب الذين هم اول من تناولوا هذا النوع من الفنون اي التطعيم، وتظهر الألوان البراقة ما بين الأحمر النحاسي والأصفر الضارب الى الخضرة واللون الشذري وهي الألوان التي كانت شائعة في العمارة العربية القديمة. ونعود الى المعبد الداخلي او ما يسمى الكاتدرائية المستطيلة الشكل والتي ينتصب في الجانب الشمالي منها البرج الرئيسي وهو المئذنة كما أسلفنا، فالمساحة الرئيسية تقدر ب102 متر طولاً و40 متراً عرضاً وفي داخلها على كل جانب تنتصب 9 اعمدة من حجر الغرانيت وترتكز على هذه الأعمدة الأقواس التي تحمل الجدران المرسومة بالموزاييك وهي عبارة عن اروقة ذات قناطر قائمة على الأعمدة الرفيعة، وخلقت مساحات ضليلة باردة محميّة من وهج الشمس، وهناك السقف الخشبي وأعمدته الطويلة الخشبية المنقوشة بالألوان الزاهية التي يطغى عليها اللونان الذهبي والشذري التروكواز، وصمم هذا السقف على شكل خلايا النحل الذي انتقد تصميمه الى صقلية مباشرة من المشرق في اوائل القرن الحادي عشر. وقسم كبير من الزخارف التي يحملها السقف يمكن ارجاعها الى التصاميم الزخرفية في العاصمة العباسية بغداد. اما الجوانب فغطاها الموزاييك العربي ذو الأشكال الهندسية المنسجمة، والزخارف النباتية وأوراق الأشجار التي تحمل الألوان المذهبة، والنوافذ تحت السقف هي عبارة عن نوافذ مثقبة حجرية او جصية، والرسوم الموزاييكية الداخلية تغطي مساحة كبيرة جداً من السطوح الداخلية للمعبد، ويعتقد انها اضيفت او رسمت على يد فنانين ومزخرفين عرب في فترات لاحقة للتأثيرات البيزنطية في الزخرف الهندسي والتشابك الدائري، وربما الى العرب الذين ينتمون الى المدرسة الفاطية في مصر حيث ازدهرت مدارس الرسم التي تأثرت بدورها بأسلوب فنون سامراء ذات الأصول الساسانية، هذا اضافة الى غزارة الألوان او تناسقها الدقيق الذي يشهد على طغيان المؤثرات الشرقية. وتعرضت الكاتدرائية الى حوادث سرقة على يد عصابات مافيا الجزيرة، وتعرضت لحرائق يقال ان بعضها كان متعمداً، وأبرزها حريق عام 1811 الذي دمر سقف المعبد الخشبي وأعيد ترميمه في ما بعد، وقد تعاقبت حملات الترميم والصيانة على الكاتدرائية، وجرى اول ترميم لها سنة 1492، ولحقه ترميم آخر عام 1595 وثالث عام 1687 ورابع في منتصف القرن الثامن عشر وخامس في القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي.