تستقبل سورية اليوم البابا يوحنا بولس الثاني في زيارة هي الأولى من نوعها في التاريخ لأحد باباوات الفاتيكان. وهي تريد أن يكون الاستقبال مميزاً يليق بسمعتها ك"مهد للمسيحية"، فضلاً عن تقديمها ستة باباوات، وغناها بالمواقع الأثرية التي تظهر عظمة حضارة إنسانية عاشت وتمددت فوق أرضها وترابها. لذلك حرص المنظمون على أن يتبع خط سير البابا المواقع التي واكبت نهوض المسيحية وانطلاقها، وما خلفته من تراث ترك بصماته على الصروح. ففي دمشق الكثير من المواقع التي يجلها المسيحيون، ولا يحتاج زائرها الى جهد كبير ليستنطق الأوابد والتاريخ. فالشواهد والمعابد تميز مساحة الخريطة السورية من مختلف العصور التاريخية. وإلى كنيسة حنانيا والمريمية ودير بولس، تتناثر مواقع مسيحية كثيرة تدل إلى التعايش السلمي منذ الأزل. ويُروى أن في غوطة دمشق وفي سفوح قاسيون 15 ديراً، منها دير مران والنيربين حيث يقال إن القديسة حنة والدة السيدة العذراء أقامت أو دفنت. ووفقاً لبرنامج الزيارة، يبدأ البابا زيارته اليوم السبت من دمشق التي تكمن أهميتها بالنسبة الى مسيحيي العالم في أنها قامت بدور مرموق في نشوء المسيحية، وفيها اعتنقها القديس بولس على يد الرسول حنانيا اول اساقفتها. ولما اضطهده اليهود والرومان وأرادوا به شراً، هرب متدلياً في سلة من نافذة على السور الشرقي للمدينة، هي ما يعرف اليوم ب"نافذة بولس" أو "باب كيسان" أحد ابواب دمشق التاريخية. وأصبحت دمشق مقراً لأسقفية لا تتقدمها في الدرجة سوى انطاكية. وعام 379، بنى الامبراطور ثيوذوسيوس الكبير فيها كنيسة القديس يوحنا المعمدان في الموضع الذي كان قبلاً معبد "جوبتير". وفي جنوبالمدينة، وعلى الطريق التاريخية القديمة، طريق القدس - دمشق، وفوق تلة بركانية مرتفعة هي "تل كوكب"، ينتصب دير القديس بولس الذي اقيم على انقاض دير اندثر كان المسيحيون الأوائل أقاموه في مكان رؤياه واهتدائه الى الدين المسيحي. فهو كان متوجهاً الى دمشق على رأس قوة، بتكليف من مجمع اليهود في أورشليم، للقضاء على المسيحيين فيها، بعدما تكاثر عددهم في شكل أقلق اليهود. وبعدما نجح في البطش بهم في أورشليم، ووصل الى كوكب، برق حوله، بغتة، نور شديد مع صوت يسأله: "شاؤول شاؤول لماذا تضطهدني؟" شاؤول إسم بولس قبل اعتناقه المسيحية، فسقط عن جواده وقد عمي. وأوحت له الرؤيا ان يذهب الى دمشق ليقابل حنانيا ويسلك "الطريق المستقيم" الذي سيسلكه البابا خلال زيارته بين "باب الجابية" و"باب شرقي". وبعدما أعاد إليه حنانيا بصره وأرشده إلى الدين الجديد، اتجه بولس إلى داريا ومنها إلى دمشق "وقد أصبح مطواعاً، يسأل ماذا تريد أن أفعل؟ فيأتيه الجواب: قم وادخل دمشق. ويدخل بولس دمشق من بابها الجنوبي ثم يسير في الشارع المعروف بالمستقيم أو شارع مدحت باشا اليوم، إلى أن يلتقي حنانيا". وتقول المصادر التاريخية إن بولس تحول، بعد إيمانه، رسولاً في الجهاد الأمين عن المسيحية، مبشراً في كل الأصقاع بها، ومنطلقاً من دمشق نحو أنطاكيا وآسيا الصغرى وسائر أوروبا. أما الدير القديم الذي بني الدير الحالي على أنقاضه، فاستعمل أهل القرى المجاورة حجارته لبناء مساكنهم، وعثر بعض الفلاحين بين أنقاضه على منجرة من الذهب. وتعتبر هذه الواقعة المؤثرة في تاريخ الدين المسيحي مقدسة ومعجزة لأنها غيرت مسار رجل أصله من جزيرة أرواد الساحلية جاء بأمر من اليهود ليقتل المسيحيين، فتحول أهم مبشر في المسيحية. لذا أقيمت في المكان نفسه كنيسة على اسمه، في عهود الكنيسة الأولى، ولا تزال آثارها وحجارتها الضخمة قائمة إلى الآن، وشاهدة على واقعة ايمانية. وسط دمشق القديمة، وقبل "باب شرقي" أحد أبوابها، يطالعك اسم "كنيسة حنانيا"، وسط زقاق من البيوت الدمشقية القديمة. وهي أساساً بيت ذاك القديس الذي كان أول اسقف على دمشق، وهو مبني بحجر صغير وقديم، تصل إليه على أكثر من سلم حجر. وفيه اعتمد بولس الرسول على يد حنانيا بعد واقعة كوكب. أما الكنيسة التي تحمل اسمه وكان يؤدي صلواته فيها، فتقع على بعد خطوات من البيت، وهي عبارة عن مغارة كبيرة تتفرع منها مغارة صغيرة أخرى، وتعلو كل منهما قبة كأنها نحتت في الصخر، وكلتاهما تحت الأرض، لهما نافذتان علويتان يدخل منهما الضوء. وتعد كنيسة حنانيا التي بنيت قبل 1840 عاماً قبلة المسيحيين من مختلف أنحاء العالم، ومكاناً مقدساً لهم، ويعترف بها منذ أوائل المسيحية على انها بيت القديس حنانيا الذي تحول منذ القدم كنيسة الصليب. وبلغ من أهميتها أن بطريرك موسكو وسائر روسيا تبرع بإعادة بنائها على نفقته الخاصة عام 1965، في عز قوة الاتحاد السوفياتي، وأن الدولة الفرنسية أهدتها صليباً كبيراً جداً تقديراً لجلالها وقدسيتها عند المسحيين. وعام 1921 قام الكونت دي لوريه بحفريات أظهرت أن الكنيسة كانت سابقاً هيكلاً وثنياً يعود الى القرن الثاني أو الثالث الميلادي. لكن أدراجها وسلالمها ستحول دون تمكن البابا، وقد تخطى الثمانين من عمره، من زيارتها، على رغم أنها كانت مدرجة في البرنامج. كاتدرائية دمشق كذلك تنسب كاتدرائية دمشق الى القديس حنانيا. ويقول الأمين العام للوثائق البطريركية السيد جوزيف زيتون انها كانت هيكلاً للآراميين، على اسم أحد آلهتهم، زَمَنَ دمشق دولة أمورية انتهت عند استيلاء الأشوريين عليها عام 720 ق. م. وفي عهدهم استولى المصريون على سورية في القرن السادس قبل الميلاد، وحكموا دمشق وادخلوا إلى معبدها الذي كان يشكل ربع مساحتها، عبادة الههم "امون". ومع فتح الاسكندر المقدوني سورية أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، حول المعبد نفسه هيكلاً للالهة "عشتروت"، الهة الزهرة المعبودة، وهذا ما يتضح من الأعمدة القائمة حتى الان في شرقه، عند آخر جادة القيمرية في اتجاه النوفرة. وبتعاقب الفاتحين، حولها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك جامعاً عام 706 م. وبقي فيها رأس القديس يوحنا المعمدان الذي أخفاه المسيحيون في صندوق في حفرة عميقة في أرض الكنيسة عام 614 م. وعندما بُني الجامع الأموي عثر العمال على الصندوق فدعوا الوليد كي يفتحه. ففتحه بيده ووجد الرأس داخله، مع كتابة يونانية تشير الى صاحبه. فاحترمه وأمر بإعادته الى مكانه، وبنيت فوقه قبة فخمة ما زالت قائمة الى اليوم، ومن المقرر أن يزورها البابا خلال زيارته الجامع الأموي الكبير. الجامع الأموي كان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد هو باب المعبد الأصلي لجهة القبلة، فينصرف المسلمون الى جهة الشرق، والنصارى الى جهة الغرب. وسيُبعث هذا التقليد مع زيارة البابا الجامع الأموي، إذ سيرافقه مفتي سورية الشيخ أحمد كفتارو في زيارة صامتة لصحن المسجد. ويُعدّ الجامع الأموي أهم رموز دمشق. إذ أقيم على أرض مقدسة شغلت بمعابد الديانات المختلفة التي تعاقبت على المدينة عبر التاريخ، حتى أصبح تاريخ المبنى في حد ذاته تاريخاً دينياً لمدينة دمشق، التي عندما دخلها خالد بن الوليد فاتحاً، أقام الصلاة في زاوية المبنى الجنوبيةالشرقية، فكان هذا أول مسجد في الشام. وفيه أقيم أول محراب. وحول المسلمون، في ما بعد، الجزء الشرقي منه مسجداً. وتختلف الروايات التي تبحث في طريقة تحول الكنيسة مسجداً، إلا أنها تتفق جميعاً على أن أخذ النصف الغربي منها كان تعويضاً للنصارى، للكف عن أخذ كنائسهم الأخرى الواقعة في المنطقة التي فتحت من دمشق حرباً. وبعدها، بدأ الوليد بالاستعداد لعملية البناء الضخمة عام 705 م. ويحتل الجامع مكانة مميزة في تاريخ العمارة عموماً، ويعده بعض المؤرخين "أول نجاح معماري في الاسلام" لخصوصية البناء وضخامته، ولغناه المعماري والتزييني، إذ يبلغ طوله 157 متراً ويتألف من صحن عرضي مكشوف تحيط به من الشرق والغرب والشمال أروقة محمولة على أعمدة عالية، وإلى جنوب الصحن يقع الحرم الذي يبلغ طوله 136 متراً ويتألف من ثلاثة أجنحة ممتدة من الشرق الى الغرب، يفصل بين كل منها صف من الاعمدة، ومن جناح معترض متوسط يصل بين المحراب وصحن الجامع. ويعلو الجامع جملون مرتفع تتوسطه قبة النسر. وللجامع ثلاث مآذن هي: المئذنة الشرقية وتسمى "مئذنة عيسى" أو "المئدنة البيضاء"، وقد احترقت عام 570 وجددها صلاح الدين الايوبي، ثم أعيد بناؤها في عصر مليك شاه وفي العهد العثماني انشئ مخروط في اعلاها. والمئدنة الغربية وقد جدد عمارتها السلطان قايتباي بعدما خربت في حوادث تيمورلنك. اما المئذنة الثالثة فهي مئذنة العروس، وقد أقامها الخليفةالوليد وسط الجدار الشمالي وطلاها بالذهب، وغدت في ما بعد نموذجاً للمآذن في سورية وشمال افريقيا، ونقل طرازها الى الاندلس، وتعد أقدم مئذنة إسلامية ما زالت قائمة الى اليوم. وللجامع اربعة ابواب هي: باب القوافين وباب البريد وباب العمارة وباب النوفرة، أكبرها. وهو لم يحافظ على الشكل الذي بني عليه، إذ تعرض للاهمال مدة طويلة من الزمن، ولكوارث طبيعية غيرت معالمه، ولم ترحم الحرائق والزلازل جمال بنائه والجهد المبذول فيه، وأهمها حريق عام 1069 الذي اتى على كل محاسنه وما فيه من زخارف ونقوش بديعة موجودة منذ أيام الوليد، وظل على حاله حتى تم تجديده عام 1072. وتأثرت قبة النسر بهذه الكوارث، فجددت نوافذها وفق هندسة لا تمت الى الاصل بصلة. أقدم كنيسة أقدم كنيسة في دمشق، على ما يقول جوزيف زيتون، هي "الكاتدرائية المريمية"، أحد الأماكن المقدسة التي سيزورها البابا، وقد سميت تيمناً بالسيدة العذراء، وبنتها في القرن الثاني الميلادي جماعة كانت تعتبر مريم الأقنوم الثالث. وبعدما اندثرت هذه الجماعة، آلت الكنيسة إلى الارثوذكس واصبحت كاتدرائيتهم، في عهد قسطنطين الكبير، لتكون الكنيسة الثانية في دمشق بعد تلك التي أنشأها الامبراطور ثيوذوسيوس الكبير ووضع فيها رأس يوحنا المعمدان، وأقام دار الاسقفية الى جوارها. ويوضح زيتون أن كنيسة مريم أغلقت بعد دخول المسلمين دمشق عام 635 م. وعُدَّت من أملاك الدولة، وبقيت مقفلة حتى عام 706 م. لأنها كانت على الخط الفاصل بين دخولهم المدينة حرباً من "باب شرقي" وصلحاً من "باب الجابية"، حيث التقى الجيشان في الشارع المستقيم. إلا أن الوليد بن عبد الملك منح كنيسة مريم للمسيحيين، وقال لهم: "اننا نعوضكم كنيسة يحيى يوحنا المعمدان بكنيسة مريم". فعادت لتحتل موقع الصدارة ولتشكل مع كنيستي القديس نيقولاوس والقديس قبريانوس ويوستينا ودار أسقفية دمشق المحدثة، وكلها في حرمها، مجمعاً روحياً متميزاً. وإلى جانب هذا المجمع، دير النساء على اسم مريم، كان مستشفى وديراً للراهبات. ولما كانت دمشق هي الأبرشية الثانية بعد المقر البطريركي انطاكيا، كان أسقفها يلي البطريرك في الأهمية. وعلى هذا الأساس، وعند تدمير انطاكيا عام 1268م. على يد الظاهر بيبرس، نقل مقر الكرسي الانطاكي الى دمشق، واتحدت سلسلة أساقفة دمشق بسلسلة بطاركة انطاكيا عام 1344م. زمن البطريرك اغناطيوس الثاني، وأصبحت كنيسة مريم كاتدرائية اي الأولى في الكرس الانطاكي. ويرجح زيتون، استناداً الى المصادر التاريخية، ان تكون الكنيسة القديمة هدمت وبنيت أخرى على انقاضها، وظلت الى ما قبل الفتح الاسلامي يصلى فيها. وبحسب برنامج زيارة البابا، فان محطتها الأولى ستكون للدار البطريركية الانطاكية الارثوذكسية. فانطاكيا كانت مقر الدار البطريركية الارثوذكسية، لأن في تلك المدينة المهمة في التاريخ المسيحي، سميّ المسيحيون بذلك أولاً، وعلم الرسولان بولس وبرنابا وصارت مركزاً للتبشير، وكانت كرسياً أسقفياً عظيماً أسسه الرسولان بطرس وبولس، لذلك سمي باسمهما. وكان بطرس أول أسقف عليه. اما بالنسبة الى "باب كيسان"، الذي سيزوره البابا، فهو أحد أبواب سور دمشق الشرقي قبالة دوار المطار. وكان يقع خلفه بيت نعمان السوري الذي تدلى بولس الرسول من نافذته وفر من دمشق هرباً من اضطهاد اليهود له. وعام 1943، أقام الفرنسيون في داخله كنيسة. وقبالة "باب كيسان" في دوار المطار، يقع مقام القديس جاورجيوس الذي يعود تاريخه الى القرون المسيحية الأولى، وقد دفن المسيحيون موتاهم، إكليروساً وعلمانيين، حوله. واليوم تقع مقبرة الروم الارثوذوكس في الموقع نفسه. ولن تنتهي جولة البابا من دون أبعاد سياسية. فالى القداس الجماهيري الذي سيقام في ملعب العباسيين في حضور نحو 40 الف شخص، سيزور البابا مدينة القنيطرة على بعد 65 كيلومتراً من دمشق التي عادت الى سورية بموجب اتفاق فك الاشتباك عام 1974، بعد احتلال إسرائيل لها عام 1967. وستكون هذه الزيارة، في حضور نحو 500 صحافي أجنبي وعربي جاءوا لتغطية الحدث البابوي، فرصة ليشاهد الحبر الأعظم آثار ما افتعله الاسرائيليون من دمار قبل انسحابهم من المدينة التي شهدت تعايش المسيحيين والمسلمين، وكان فيها جامعان وكنيستان، فهدموا جامعاً وكنيسة. ومن المقرر ان يحيي البابا قداساً في هذه الكنيسة ويزرع شجرة زيتون أملاً بتحقيق السلام في الشرق الاوسط، و"ليستطيع ان يلمس مدى جسامة الجرائم الاسرائيلية التي ارتكبت وما زالت ترتكب الى اليوم" على ما قال وزير الاعلام السوري عدنان عمران. وكشاهد على النضال، تركت سورية القنيطرة كما أخلاها الإسرائيليون، مملوءة بانقاض مجمعات سكنية كان يعيش فيها نحو 50 الف نسمة. وفي إجراء صار تقليداً، ترتب السلطات زيارات لضيوفها الرسميين ليشاهدوا الدمار الذي لحق بالمدينة ويطلوا من تلالها على مواقع للجيش الاسرائيلي محاطة بالأسلاك الشائكة التي تحدد الحدود الحالية.