"إيران انتصرت على المؤامرة الأميركية - الصهيونية" بقبولها التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. هكذا يفسر مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي الاتفاق الذي أبرمته طهران مع الوكالة. خضعت إيران للضغوط الدولية الأميركية أساساً فوافقت على توقيع البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما وافقت على وقف "موقت" لعمليات تخصيب اليورانيوم. ولا شك في أن المتابع للشأن الإيراني ولملف طهران النووي لم يجد مفاجأة في انتهاء إيران إلى القبول بما فتئت تعتبره اعتداء على السيادة ونيلاً من حق البلاد في دخول النادي النووي. على أن العناد الإيراني اصطدم بصلابة الضغوط الأميركية وبضيق هامش النفاذ عبر المساحة الأوروبية من جهة، وباستيعاب إيران، باصلاحييها ومحافظيها، للتغيرات الجيوستراتيجية التي طرأت على المنطقة بعد الحرب الأخيرة ضد العراق من جهة ثانية. والملف النووي واحد من ملفات عدة مفتوحة ضد إيران. فالرياح الأميركية تبشّر بعصر الديموقراطية وتدعو من دون خجل أو مواربة إلى إسقاط الساكن الذي يعجز عن التفاعل مع مستجدات العصر. فالمطلوب من إيران أن تتعاون مع المنطق الأميركي الجديد للعالم عموماً وللمنطقة خصوصاً، وسحب تدخلها المباشر وغير المباشر في الشأن العراقي، وفك تحالفها "الاستراتيجي" مع سورية، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب لا سيما تسليم موقوفي "القاعدة" لديها. كما مطلوب من إيران رفع غطائها الأيديولوجي واللوجيستي عن المنظمات الإسلامية الفلسطينية، وطبعاً ألا تشكل تهديداً لإسرائيل لا سيما عبر برامج نووية "مشبوهة". مجموعة مؤشرات تجمعت في الأسابيع المنصرمة لتشكل جوقة تتولى عزف مقطوعة واحدة ضد إيران: شنت كندا حملة كبيرة وطالبت بالتحقيق في مقتل الصحافية الكندية من اصل إيراني زهرة كاظمي تحت التعذيب في طهران. واضطرت السلطات الايرانية بضغط من الرئيس محمد خاتمي إلى التحقيق في الحادث وتقديم الفاعلين الى المحاكمة. وفي الأمر كالمعتاد مماحكة بين جناحي الحكم. مؤشر ضغط آخر انطلق هذه المرة من الأرجنتين، والقصة فجرها تأكيد أبو القاسم المصباحي رجل الاستخبارات الإيراني السابق بأن طهران تقف وراء هجوم بالمتفجرات استهدف مؤسسة يهودية في الأرجنتين عام 1994 انفجار أوقع 80 قتيلاً و300 جريح. التقطت طهران رسالة الأرجنتين الملغومة وسارعت عبر الناطق باسم خارجيتها حميد رضا آصفي إلى نفي الاتهامات متهماً "الأوساط الصهيونية بتغطية مؤامرة ضد الجمهورية الإيرانية الإسلامية". في ملف آخر أقرت طهران باعتقالها أعضاء من "القاعدة" أو "طالبان"، وسلمت الأممالمتحدة أسماء عشرات من هؤلاء اعتقلوا فوق أراضيها. وما أرادته طهران أن يكون مساهمة منها في "الحرب ضد الإرهاب" تحول إلى ملف جديد للنزاع مع واشنطن. اذ رفضت إيران طلب البيت الأبيض تسلم المعتقلين. وفي الملفات أيضاً منح جائزة نوبل للسلام إلى الإيرانية شيرين عبادي. فالمرأة محامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان. والحدث كان ممكناً أن يكون سعيداً لإيران وللإيرانيين. لكن هناك من قرأ في الجائزة رسالة ضغط أخرى تنال من السلوك الإيراني في مجال حقوق الإنسان. وارتباك طهران إزاء الحدث كان جلياً من خلال تراجع الناطق الرسمي باسم الحكومة الإصلاحية عبدالله رمضان زادة عن الترحيب. حتى أن المراقبين اعتبروا ان تباطؤ خاتمي في كشف رد فعله إزاء المناسبة عائد إلى ضغوط المحافظين أحد زعماء المحافظين أسد الله بدامشيان اعتبر منح الجائزة "عاراً". وحتى حين خرج خاتمي عن صمته معرباً عن سعادته اعتبر مع ذلك أن نوبل ليست "بالغة الأهمية" في حد ذاتها ودعا عبادي إلى "الالتفات إلى مصالح" الإسلام ومصالح إيران في مواجهة التهديدات الأميركية والإسرائيلية. الولاياتالمتحدة تخوض معاركها العسكرية والديبلوماسية في العراق، فيما أدوات الضغط ناشطة ضد إيران على كافة الجبهات. وما فتح الملفات واحداً تلو الآخر إلا استراتيجية إنهاك تمارسها واشنطن وحلفاؤها بغرض إغلاق الملف الإيراني برمته. صحيح أن تحقيق الهدف يبدو مستعصياً في الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، بيد أن سياسة الضرب المتواصل ستبقى العامود الفقري لعلاقة واشنطنبطهران في غياب آفاق أخرى. وضمن هذا السياق تندرج يوميات التعامل مع الملف النووي الإيراني. ينبغي الاعتراف بأن الولاياتالمتحدة نالت ما أرادت في هذا الملف. فطهران وبعد نقاش داخلي ايراني - ايراني، وإثر جدل امتزج فيه الديني بالاستراتيجي، وعقب تدافع التصريحات وتنافس المزايدات، انتهت بقناعة جماعية وبمباركة المحافظين أنفسهم إلى التعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ايران سلمت كل البيانات المطلوبة، واعترفت بأنها أخلّت "في شكل طفيف" بالتزاماتها تجاه الوكالة، وقررت وقف تخصيب اليورانيوم، ووعدت بأقصى الشفافية في هذا الملف. على أن التراجع الإيراني يضمن استمرار البرامج النووية ذات الطابع المدني. فالنزاع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كاد يهدد استمرار تعاون موسكو مع طهران لبناء محطة بوشهر. من هنا يمكن فهم تقصد إعلان إيران نياتها الإيجابية في الملف النووي من موسكو. فمن العاصمة الروسية التي أسرع إليها حسن روحاني الذي يتولى ملف الشؤون النووية الإيرانية أُعلن عن التزام طهران بمعاهدة الحد من الأسلحة النووية وعن موافقتها على التوقيع على البروتوكول الإضافي الذي يسمح بعمليات تفتيش مفاجئ وتعهدت إيران بتعليق عمليات تخصيب اليورانيوم موقتاً. واتبع روحاني تصريحاته وهنا بيت القصيد بالإعلان عن أن الحكومة الروسية وعدت بإنهاء بناء محطة بوشهر للطاقة النووية بأسرع وقت ممكن. فيما رشحت أنباء عن تقدم البلدين في شأن توقيع بروتوكول يضمن اعادة إيران كل الوقود المستخدم من مفاعل بوشهر مواد يخشى الغرب أن تقوم إيران بإعادة معالجتها لإنتاج أسلحة نووية. حققت إيران إنجازات عدة من خلال موافقتها على الشفافية في ملفها النووي. فأغلقت أحد مصادر الضغط الأميركي الذي كان يعطل أي تطور لعلاقة إيران بأوروبا. كما ساهم في إنقاذ روسيا من إحراج العلاقة النووية مع إيران. إلا أن ما سمي "استسلاماً" إيرانياً وما وصفه مرشد الجمهورية ب"الانتصار على المؤامرة الأميركية الصهيونية" يعكس تأثر الطبقة الحاكمة بالمتغيرات ووعي جناحيّ السلطة بمصيرية الموقف. وربما أن هذا الوعي انتج براغماتية جديدة عبر عنها آية الله احمد جنتي من المحافظين الذي رأى أن من اتخذوا قرار التعاون مع الوكالة اخذوا في الاعتبار "مصالح الدولة"، ناصحاً المشككين والمعترضين "بعدم اتخاذ مواقف من مواضيع غير ملمين بها جيداًً". وللتذكير فقط، فإن جنتي نفسه رفض قبل أسابيع توقيع بلاده على البروتوكول الإضافي، بل ودعا إلى انسحاب إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي. * صحافي وكاتب لبناني مقيم في لندن.