لمناسبة الذكرى الستين لاستقلال لبنان 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943 ننشر المقالة التالية عن يوسف ابراهيم يزبك، وهي بورتريه لمؤرخ وناشط سياسي وناشر وثائق ومعايش لتفاصيل الحياة اللبنانية قبل الاستقلال وبعده. المقالة كُتبت أصلاً في مئوية ولادة يوسف ابراهيم يزبك 1901- 1982 ولم تنشر في حينه، فنشرها كاتبها لاحقاً في كتابه الجديد "شهادات ورسائل" الصادر حديثاً عن دار الجديد في بيروت. وهنا نص المقالة - البورتريه: إنسان وجه شبه مدور تتنفس في قسماته حضارة الجبل والبحر ولا تتبرأ منه ملوحات صحراوية هي الى المكتسب المستحب أقرب منها الى اللب الصميم. إنساننا، هذا، تختصره ألمعية عينيين تشاركان اللسان - وما وراءه - في النطق والتعبير، فتحركان هيئة الرجل، من قمته الى الأخمصين، في حيوية إشارات بديهية التلاقي على تنوع حر الاتجاه روحاً وجسداً في وحدة كيان. ولو أردت هذا الرجل أحاول أن أنفذ من ظواهره الى البواطن، لم أكد أجد فرقاً يعطل ما بينها جميعاً من تفاهم وانسجام. فإنما سر المرء، هنا، سليل علنه" والعكس، لا ريب، صحيح. وربما تبين لي أن الجغرافية هي التي جبلت هذا البشر، فكانت رأس انطلاقه الى بعض عوالم التاريخ، في مواقف له موضوعية التقصي، ذاتية الاجتهاد. فكأن الجغرافية - وخصوصاً جغرافية أمته - مثيلة أمه، وكأن التاريخ - وخصوصاً تاريخ لبنان - صنو أبيه. لسواي أن يفصل مسيرة يوسف ابرهيم يزبك 1901 - 1982 في الوطن والخارج، وأن يسلسل مؤلفاته وسائر كتاباته. حسبي، في مئوية مولده، ذاكرة الصداقة، فضلاً عن بعض النصوص، فأرجع الى خلاصة مواقفه أقاربها كما انتهت اليّ فحواها أو كما عايشتها طوال علاقتي به نحواً من نصف قرن. تلك المواقف بناها صاحبها، في ما بنى، على وثائق رأى بها كثيراً من حقائق الأحداث التي تقلب فيها لبنان، وتقلب عليها، مذ قبل الحكم العثماني، الى مرحلة الانتداب مع اعلان لبنان الكبير، الى عهد الاستقلال، فإلى ما كان بعدئذ من ايجابية مواسم ارتاح لها الضمير اليزبكي - على قلتها - ومن تفاقم سلبيات كم أثارته، فأقلقته، فأحزنت. أدرك يزبكنا، في مبتدأ الأمر، أن للبنان، في ماضيه وحاضره، وعلى الأرجح في المستقبل، روابط تصله بالشرق والغرب، شأن معظم الدول العربية وسواها، أوافق اللبنانيون على ذلك أم خالفوه. وأدرك، أيضاً، ان السياسة الغربية في الشرق، من أدناه الى أوسطه فأقصاه، تفضِّل أن تساير أغلبييه صوناً لمصالحها فيه مهما تباينت مذاهبها ومذاهبهم. فالغرب تهمه مصالحه لا مصالح الأقليين إلا إن تلاقت المصالح كلها عند بعض المنعطفات. مثل ذلك سياسة نابوليون في مصر، إذ دعم الأكثريين هناك من غير أن يشاركهم في معتقداتهم، ومال عن الأقليين لم يجد لديهم ما يلائمه. فخابوا من بعد وهم تفاؤل، وشق عليهم أن يتعلموا أن السياسة، اجمالاً، لها أديان أجنبية عن قيم السموات والأرضين. هكذا وعى يوسف ابرهيم يزبك أن وطنينا الأمثل هو اللبناني المثلث الذي يسع ايمانه الرباني الموحد حضارة القطبين، الشرق العربي والمشرق المتوسطي، من غير أن يخلط ما لله بما لقيصر. فإذا أراد لبنان أن يستقر فينمو فيزدهر، وجب ان يكون الوطن الكلي، الأجمع، الذي يعرف كيف يؤلف بين شرقيته ومشرقيته، فيجري على مناهج انفتاح مسكوني الآفاق تتفاعل في مداه طاقات الإيمان الشامل مبنياً على صخرة حركة لا صخرة جمود - صخرة منها تتفجر ينابيع الحيويات في غنى تنوع وخصب تعدد عميقي الولاء لغدويات التراث أصلاً وفروعاً. وطن المرتجيات اليزبكية، على ما أرجح، هو لبنان بسيطاً ومركباً في عناصر كيان ربما تكاملت فئاته بجدلية ثبات يقتضيه التعايش الحر، المسؤول، وسط هرولة التحولات التي تصعب العلاقات ولو بين أهل الإيمان الموحد. لبناننا، هذا، بشر وطن إذا سالم، فعن رحابة صدر يستوعب فيحب، ويخلص فيصارح" وان خاصم، أقدم فهاجم لم يثنه عن عزمه إلا حد الحق، أو ما يعتقده حقاً. إن الأوفياء لمعنى يوسف يزبك ليكرمون في مرتجياته الوطنية رمزاً لنخبة لبنانية ارستقراطية الثقافة، شعبية التطلع، تنفي عن صاحبنا بعض الاتجاهات اليسارية التي هب ينادي بها في عز شبابه، أيام كتب كراس هجاء عنوانه "المواشي البشرية" مفقود. كان يزبك، وقتئذ، يعد نفسه من أنصار الشيوعية يرى فيها ما يعتق تلك المواشي. فما لبث طويلاً حتى اكتشف أن شيوعية ماركس وانغلس ولنين، على مد انتشارها وبُعد تأثيرها، قد استأثرت بشعوبها فأفقرت غنيهم ولم تُغن الفقير، فازورَّ يزبك عن الماركسية اللنينية. ثم استهوته دعوات روسو وفولتير وأناتول فرنس" فاعترف أن شيوعيته كانت "رومنطيقية"، بحسب ما قال نجله ابرهيم يزبك الذي يحق له أن ينصف والده في هذا الباب، على الأقل. تلك النخبة الارستقراطية، الشعبية، أثر عنها انها لم تتحمس للوطن تحمس غلو يحجب واقع الحقيقة في لبنان. فأصبحت نخبة نادرة في زمننا الذي لم يبق فيه من فُسحةٍ لمزايا التروي والاعتدال. فاشتدت عندنا حمى التطرف، واستشرت أزماته، فقوضت خير ما بناه العقل والقلب معاً، أو كادت تقوض. الأظهر، حيال ذلك، ان المؤرخ الذي يتمرس بشأنه على أرض الميدان وفي أجيال غورها - فعل يزبك - فيتجنب مثاليات التمني ومغريات الأهواء، يلمس أن عمله يعول، في جملته، على معطيات الجغرافية والتاريخ، كما تقدم لي ذكره. فيحيد المؤرخ عن مجردات العقائد إلا إن وجد فيها ما يعينه على أن يكتنه موضوعه وهو، هنا، حقيقة لبنان في طبقات ترابه وسجايا شعبه. فصح قول بول فاليري بأن علم الآثار هو المادة الأولية لعلم التأريخ. الخبر الشاهد، في صدق هذا المجال، هو أن يوسف ابرهيم يزبك، الماروني المؤسس ومؤرخ الشمول المنزه، استطاع ان يكون لبنانياً وعربياً وصديقاً للإسلام. فكأنه أراد أن يجمع خلاصة أولئك كلهم في أسرة روحه وصفاء سريرته. ولطالما قام يردد ان الحقيقة ليست حكرة فئة دون سائر الفئات، وأن بكل موقف من مواقف الحقيقة المتعددة الوجوه ايجابيات إذا أحسنا التعامل بها، زكتنا قيم تنوعها، فحررتنا، فأصبنا الغرض الأجل في معية تكمل الإنسان منا بآخره إذ تكملنا كلينا بنعمة الرأس الأحد، الجوهر الفرد. مؤدى الأمر، هنا، أن يزبك كان ايمان رجولية وثق بها القريب والغريب ثقة متبادلة الوعي والصدق والاحترام. تلك الثقة متى وُجدت صنعت عجائب. لكن، على الضد منها، كان في بعض مشكلات اللبنانيين، يومنا هذا، أن الذين ليسوا على ماهية الموقف نفسه لا يكاد أحد منهم يثق بأحد إلا في النزر الزهيد. فأمسينا على مضطرب من البلبلة شبه مميت، كأنما الهويات قاتلة بحسب قول أمين المعلوف. ذلك وعلى شرفٍ من ثقة الإيمان - الإيمان رجوليّة - رفعة يزبك وكرامة انفتاحه. لا إيمان فلاح من غير شجاعة انفتاح هو قدر الإيمان حباً يحتوي كل ما عداه. القدرُ، حينئذٍ، منطق الله وموئل عباده. ناضل يزبك في سبيل هذا الإيمان الوطني، الشاعر، المفكر. وقاتل أهل اليقين المتطير، المتحجر الذي يضمر تعصباً مجرم الأخطار. كم رأيت الى يزبك يؤيد الذين عرفوا كيف يتممون مواقفهم بمواقف سواهم لم يتخلوا عن أصالتهم ولا تنكروا لأصالة السوى. وكم أعلن يزبك ان السلوك في هدي الواقع أضمن طريق الى الحقيقة مهما تباينت الآراء فيها وتباعدت المواقف. لكن، مع ذلك، ربما شعرت أن في بعض أحيان يزبك كبت ألم الحب المجرح والقلب الكبير. يوسف ابرهيم يزبك قلم تاريخ فحسب؟ لا، بل هو، الى هذا، قلم اقتحام ينشد المزيد في جدلية للأسباب والنتائج لا تعمد الى روحانية شأوها إلا وقد ابتلت جسديته تمعن فيها تحسساً وتلمساً في فضول عين عميقة الاستطلاع. والمرجح، في نظري، أن تلك الفضولية حركت في يزبك رغائب الاختبار. فتطرق الى بعض ميادين البحث والتقري وقد استوى به الطموح الى تنوع الموسوعيين عهد كان القلم الواحد يخوض عدة موضوعات متنائية الوسائل، متدانية الأهداف، كعلم الإنسان مع الطب وكعلم الفلك مع الكيمياء الخ... ذلك بأسره قرأت مؤثراته في فحوى كتابات يزبك، وخصوصاً لما أشرك النفط في صنع التاريخ المعاصر - تاريخ حقبةٍ من أحداث الشرق والغرب فضلاً عن الجنوب والشمال، الى تاريخ حقبة أو حقب من أعمال الغرب في الشرق والجنوب وبعض الشمال. هنا أذكر مؤلف يزبك "النفط مستعبد الشعوب" الطبعة الأولى، مطبعة الفن الحديث، بيروت 1934، فأذكر به" ثم أتمهل في حضرته وقد كان، في أقطار بيئته، شاغل وقته على الأقل. آية هذا الكتاب أن واضعه، إذ توغل في خلفيات النفط، اشتم روائح السيطرة العالمية التي وجدت فيه طاقةً حيويةً تستأهل أن يحارب مبتغوها لئلا تمس مصالحهم في آبارها وفي خارج الآبار. ف"العالم المتمدن، كما يقول المؤلف، هو في حاجة الى النفط حاجة الفقير الى الخبز والماء. فخضعت البشرية جمعاء لمشيئة أفراد معدودين يلعبون بها ويقلبون بلدانها ويعبثون بأوضاعها". الأغلب ان "النفط مستعبد الشعوب" هو، في موضوعه، أول كتاب عرفته لغتنا من حيث مرماه لوجه الحق، ومن حيث صداه في البلدان العربية. لكن أربابها قلما قدروا، في مطلع عهدهم بالذهب الأسود، ما لها وما عليها من حكمه الذي سيغني طبقة فيها معينة ويتسلط على أمرها، فتبيت كأنها في حديد قبضته المخملية. قال يزبك: "ما دام النفط على هذه الأهمية الحيوية في مصير الشعوب الكبيرة والدول العظيمة، في السلم والحرب، فإنه من الواجب على الرأي العام العربي أن يعرف، كما قلنا، شيئاً عن السياسة النفطية، ولا سيما ان أقطارنا قد ظلمها الله أو رحمها - من يدري؟ - فجعل تحت تربة عراقها محيطاً من النفط يقدر الاختصاصيون انه يكفي وحده حاجات العالم خمس عشرة سنة، على الأقل. كما أنه أجراه تحت بلدان عربية غير العراق أنهاراً لم تعرف قيمتها الى الآن. فقد ربطنا النفط في الماضي ويربطنا اليوم وغداً بسياسة تجاره ومحتكريه ربطاً محكماً. فبتنا لا نملك من أمره حقاً. وصار الفرد منهم، وهو الأعجمي، يملي على الدول المتحكمة في رقابنا أوامره في الحياة التي يريدنا عليها، إذ نحن وأملاكنا وبلادنا وموظفو تلك الدول وجيوشها، عبيد ارقّاء لتلك السياسة". "النفط مستعبد الشعوب"، ص 11. استقبل هذا الكتاب استقبال العمل الرائد. فقال فيه الياس أبو شبكة بيروت: "... هذا كتاب يقوم على أساس ثورة إنسانية تتمخض في نفوس الشعوب الضعيفة التي تشعر بأن لها حقوقاً في الحياة تتكالب عليها أظافر الطمع والقوة". وقال جبران تويني مؤسس جريدة "النهار" بيروت: "... ان هذا الكتاب قد حارب السياسة الاستعمارية المستترة وراء النفط، وكشف عن مؤامرات ومفاوضات كان السواد الأعظم من العرب في أشد الحاجة الى الاطلاع عليها". وقال عباس محمود العقاد القاهرة: "... ان هذا الكتاب يجمع معلومات قيمة لا غنى عنها لمن يريد أن يفهم المسألة الشرقية بحذافيرها، كما ينبغي أن تُفهم في العصر الحديث". وقال سامي الكيالي حلب: "... الحق ان الكتاب ثمين بمراميه، جديد بمستنداته، قوي بحججه وتدليلاته، أحاط بالموضوع احاطة واسعة حتى جلاه للقارئ العربي، فأصبح بين يديه وثيقة يرجع اليها". وقالت جريدة "العالم العربي" بغداد: "... هذا الكتاب فريد في بابه. ويجدر بكل عربي أن يقرأه لكي يعرف ما يحيط بنا من الأطماع الاستعمارية". وقالت جريدة "فلسطين" يافا "... كتابٌ نفيس مدعوم بالوثائق التاريخية. وفي رأينا ان الاطلاع عليه من واجبات كل عربي". لو شئت أن أسهب، في هذا الصدد، فوق ما فعلت، لأوردت عشرات الأقوال في "النفط مستعبد الشعوب". ولست أفشي سرّاً إذا أبديت أن الرؤية اليزبكية على العموم، وإزاء النفط على الخصوص، هي أقرب الى الرؤيا. فالبصر والبصيرة، عند يزبك، هما على مجرى خط واحدٍ متجاوب الظواهر والبواطن، كما قيل مراراً. ونظرة يزبك الى النفط وفي النفط لم تزدها السنون إلا صواباً، حتى ان كتابه النفطي الذي ناهز السبعين، يكاد يكون في مقتبل الشباب. لكن ربما خيل اليَّ كأن النفط انتقم من صاحب المؤلف بعدما مرت أعوام على نشره. وذلك أنه بينما كان يوسف يزبك يزور بعض أنسبائه في بيروت، أيام الحرب العالمية، إذ وقع بمنزلهم حريق سببه اشتعال صفائح بنزين خزنت في مستودع البيت. فما كان من يزبك، أخي النجدة التي تقفز فوق الاحتراز، إلا أن هجم على النار يحاول اخمادها، فخرج بالصفائح المشتعلة يحمل صفيحة منها تلو صفيحة الى حديقة البناية. فاستطاع أن يحصر الحريق ريثما وصل رجال الإطفاء. ولولا النخوة اليزبكية، لربما كانت امتدت النار الى معظم الطبقات. بيد أن حامي البناية ومن فيها لم يقدر أن يحمي نفسه. فلقد أُصيب، على الأسوأ، في ساعديه ويديه حتى أطراف الأنامل، فضلاً عن وجهه ناحية الجبين والعينين. فمكث زهاء شهرين بالمستشفى. ثم برحه وقد خلفت النار على هيئته، من هنا ومن هنا، ما خلفت. غير أنه، على رغم الوجع والتشويه، لم يسعه إلا أن يعود الى القلم. فتمكن من أن يمسكه من بعد مشقة. فأخذ يتمرن على استعماله حتى تيسرت له الكتابة من جديد بخط واضح جميل. وهكذا فإنسان يزبك - معدن قلمه - لم تصهره النار، بل ذكته، فأنضجته، فتضاعف اضطرامه، فكان شعلة حية. لكن النفط، على عالمية شؤونه، لم يشغل صاحبنا عن قضايا الوطن، وخصوصاً في مستقبله. فأبو ابرهيم من شجرة أجيالنا التي ولد فيها معنى لبنان - حبه - قبلما ولدت. فنهج بروح قلمه من غابرنا الى حاضرنا يستطلع مستقبلنا، وإن على قدر. فوعى، قبل حروب تدمير لبنان في سنة 1975 وتوابعها، أن بلادنا يعوزها ما يضمن استقلال مستقبلها إذا هي اكتفت بأن تتغنى بمجد ماضيها الذي يثقلها بالتبعات. لبنان طاقاته محدودة تهددها الأخطار. لبنان في محنة توجب على اللبنانيين أن يتعاونوا يعالجونها على هدي من خلقية المعرفة في علومها الصحيحة وثقافتها الإنسانية. محنة لبنان، كما يقول يزبك، ليست شيئاً طارئاً علينا، ولكنها استوطنتنا منذ فجر تاريخنا طوال جدليات صراع تخللته مراحل هدنة لم تكفل لنا حقيقة استقرار. ولطالما أُعلن ما سمي "الإصلاح الجذري"، فلم تكد تتحسن الأحوال. محنتنا لا تستدعي تعديل الأنظمة والقوانين إلا في حدود التطور الطبيعي. محنتنا، في الأكثر، أزمة رجال، وأزمة صدق بين الدولة والشعب، وأزمة تنفيذ لا يتحرك إلا ليزيد الفوضى ويوهن أسباب النظام. علةُ محنتنا، ولا سيما في حياتنا الاستقلالية، هي أننا في شبه عزلة عن التحولات القريبة والبعيدة التي ما تنفك تتعاقب على الدنيا من أدانيها الى أقاصيها. فلزمت عنها أوضاع تقتضي من مسؤولينا أن يدأبوا في صميم أمورنا حق الدأب لكي يثبت لبنان جدارة كيانه. هنا تغلب على يزبك فطرة المؤرخ، فيذهب الى أن كثيراً من عللنا السياسية والاجتماعية والثقافية ترجع الى ان تاريخ بلادنا ناقص وفيه حلقات مفقودة، فضلاً عن الإعراض عن شروح ضرورية لا يستقيم الواقع الحقيقي ما دمنا نهملها. فلبنان يفتقر الى أن يُكتب تاريخه الكامل الصحيح. "لا تزال الكثرة الكبرى، الكبرى، من اللبنانيين تجهل تاريخ وطنها جهلاً مطبقاً". ولم يقتصر يزبك على هذا الانتقاد، بل أضاف اليه "أنه كُتب عليّ أن أعرف معرفة شخصية خمسة وتسعين في المئة من الرؤساء والوزراء والنواب الذين ولوا مقدرات لبنان بعد استقلاله فما عرفت منهم أكثر من سبعة أو ثمانية محترمين قرأوا تاريخ الشعب الذي تدبروا ويتدبرون أمره". "الجذور التاريخية للحرب اللبنانية" - منشورات نوفل، بيروت 1990، ص 10. وربما طاب ليزبك، في عميقةٍ له خفيفة الروح، أن ينتقل من عمومي تأمله في لبنان الى بعض خصوصيّه المحلي. قال - مثلاً لا حصراً - في كلام له على الخوري منصور الحتوني مؤلف "نبذة تاريخية في المقاطعة الكسروانية" - منشورات أوراق لبنانية، الحدت - لبنان 1956، ص 6: "... ثم ظهر الحتوني، في كل صفحة من تاريخه، وطنياً ساعة يمس لبنان أجنبي، ومارونياً ساعة يعبس لطائفته غير ماروني. وإذا اختلف مارونيان، ظاهر من كان منهما كسروانياً على الآخر. فإذا لم يكن أحدهما من المقاطعة الخطيرة التي هي السماوات كلها، نصر الأقرب اليها - أوليس الخوري منصور لبنانياً حقاً؟". ولو رُد الينا يزبك، في الحالات التي أمسينا نتقلب عليها، لربما كان أضاف الى هذا القول ملحقة لا تمت إليه رأساً، بل تفضي بنا، من خلاله، الى ما يذكر بالطائفية على المطلق والمحدود. فالطائفية لم تغب آفاتها عن شواغل يزبك الذي استدل بتقصياته على أن الطائفية قد انتشرت في كثير من الأمم والشعوب. فلم يستغرب تفشيها بلبنان. فقاومها مقاومته للتعصب، كما تقدمت الإشارة اليه. قال في مدخل "الجذور التاريخية للحرب اللبنانية": "... وأقول للبنانيين جميعاً، على اختلاف مذاهبهم، ان الطائفية موجودة عند جميع الشعوب التي يُعتنق فيها أكثر من مذهب ديني واحد، وانها جميعها تنافرت وتشادت، بل تقاتلت النصارى في القرون الأولى. السنّة والشيعة. الكاثوليك والأرثوذكس. الكاثوليك والبروتستانت. ثم المسيحية والإسلام. الإسلام والهندوسية والبوذية. المسيحية واليهودية إلخ... إلخ. والرواسب لا تزال نائمة. إلا أن الجماعات التي تمدنت عقلاً لا فولكلوراً، ونضج تفكيرها نضجاً ايجابياً لا غيبياً، فنظرت بعين جريئة الى حقيقة النزاع الطائفي، أدركت ان هذا النزاع هو، في أواخر القرن العشرين، نتيجة تحجر مستبد ووصولية فردية عمياء. وأدركت أن ازدهار وطن ما لا يحققه استيلاء فلان على وظيفة، ولا بقاء آخر في وظيفة بقدر ما يحققه تحرر المواطن - كل مواطن - من التنين الذي يبتلعه من دون أن ينظر الى دينه، وتحرره من التشريع الإقطاعي العصري الذي يستغله ويذله ويبقيه في المستوى الأدنى، لأنه تشريع دولةٍ منحطة يسيطر عليها المستثمرون". وأرخ المدخل هكذا: "الحدت، ختام سنة 1975 المشؤومة". ولئن ابتعد يزبك عن الطائفية ونبذها، فلقد كان من صفوة أقلامنا التي تقربت الى الأحرام الدينية التوحيدية. فاعتقد، كمثل أهل الحكمة، أن القيم الروحية خير علاج للأمراض الطائفية. فكان كتابه "ولي من لبنان" منشورات أوراق لبنانية، الحدت 1960، في سيرة جمال الدين عبدالله التنوخي 1417 - 1479، شهادة وعي وتكريم لذكرى الأمير السيد المقدس السرّ. والى ذلك، أحب يزبك، الشخصي الصداقة، أن يكرم داود عمون 1867 - 1922، فخصه بكتاب منشورات أوراق لبنانية، الحدت 1962 وفاه حقه. وشاء أن ينصف الشهيد فيليب قعدان الخازن 1865 - 1916، فروى مأساته منشورات أوراق لبنانية، الحدت 1966. فكان الكتابان مشاركة من يزبك في احياء الذاكرة اللبنانية. ثم ان يزبك، في بعض مراوحاته بين العام والخاص، استوعب حقيقة لبنان، بتعدده وتنوعه، استيعاباً بناء المواقف. فأراد لبنان وطناً نهائيّاً تتآخى فيه الأقليات الأكثرية التي تتوافق في أنه لا غنى للبنان عن جواره العربي ما دام هذا الجوار لا غنى له عن لبنان مستقلاً حراً. آمن يزبك بالعروبة - عروبة عبدالرحمن الكواكبي وابرهيم اليازجي ومحمد عبده ورياض الصلح وفارس الخوري - فردد مع القائلين إن لبنان ضرورة عربية، وإن العروبة، على هذا الوجه، ضرورة لبنانية. الوطنية اللبنانية الفضلى، عند هذا المستوى من تبادل الثقة والانفتاح، مثالية ميثاق انتشر أينما نُطِق بالضاد" فأزعجته عن لبنان حروب تدميره. فكان أن الذين خسروا لبنان اليوم هم العرب لا اللبنانيون وحدهم" وكان أن العالم العربي، في مشارقه ومغاربه، بات من نكبة الى نكبة، وسط غفلةٍ من بعض إثرائه الفردي الطائل. سلم يزبك، إذ تلك حالنا على العموم، انما في مجتمعات العرب إجمالاً، واللبنانيين على التفصيل، مئات ألوفٍ ألجأهم ضيق المعنويات أو عسر الماديات، أو كلاهما، الى الهجرة التي أصبحت أمراً واقعاً يومياً" أساسية مذهبية كانت الهجرة أم اقتصادية اجتماعية، أم هذه وتلك معاً. فاستمر النزيف البشري، واستمر تغير السكان مع ما له من عمق تأثير هنا وهناك وهنالك. فكيف يُطلب الى من عزت الحرية عليه وتعذر الرغيف ألا يغترب؟ حيال ذلك لم يسع مؤرخاً كمثل يزبك إلا أن يتشاءم، ولا سيما أنه سليل الإباءة الملحمية، الإنسانية، الوطنية التي تتخطى الحدود تريد البشر أخاً لآخره أولاً وآخراً. غير ان تلك الملحمية صدتها السدود، فأنزلتها عن علياء فروسيتها. فبات صاحبها، الذي وضع كتاب "الجواد العربي" منشورات مجلة المستقبل - نبيل خوري - باريس 1982، كأنما هو قضية فارس لكن بلا جواد، خلافاً لدون كيشوت جواداً بلا قضية فارس لم ينازل سوى أعداء وهميين. أما حروب تدمير لبنان، وهي التي انزلت شعبنا عن جواده، فقد كانت معارك مصالح وأهواء لا طواحين هواء. * كاتب ومفكر لبناني.